آخر الأخبار
The news is by your side.

تداعيات  … بقلم: يحيي فضل الله  .. قاطع الطريق الجميل

تداعيات  … بقلم: يحيي فضل الله  .. قاطع الطريق الجميل

ذات خريف ، خريف 1986م، كنت قد انتميت، وبحرفة ذات حنين اعرفه، الى رغبة صديقي”السماني لوال” في رؤية”منقلا” ، لذلك حرضته على السفر معي الى كادوقلي، فالطبيعة هناك وخريف جبال النوبة كفيلة جداً بتقريب صور منقلا” الى ذاكرته.وأغرت فكرتي تلك الاخ “عبد الله حسب الرسول” المعروف ب”عبد الله الشماسي”كي ينضم الى رحلتنا.

طالبت باجازتي- عادة ما أهمل اجازتي السنوية لأني لا اتذكرها وفعل”السماني”و”عبد الله الشماسي”ذلك.وتحركنا من موقف بصات امدرمان- كادوقلي بالسوق الشعبي بأمدرمان.عمي”محمد يوسف”إنتهز فرصة وجودي معه بمكتب الترحيلات الذي يملكه فكال لي الكثير من العتاب واللوم لأني نادراً ما أزورهم، وهذه أحدى عيوبي الكثيرة.

كانت كردفان تتباهي بخريفها اليانع، وكان الطريق تطارده الغيمات التى تظلله احياناً، احياناً تغدق عليه ماء السماء،تلك السماء التي تبدو كلوحة تتغير، وتتبدل ملامحها بحركة السحب الراحلة الى حيث تختفي تدريجيا حين نصل الى مشارف جنوب كردفان،إذ تتبدل التربة بداية من “القردود” ، وهي تربة خليط بين الرمل والطين، الى ان تكون قد اصبحت طينية تماما حين التوغل في جبال النوبة.لا أنسي ان رائحة الدعاش تلازم الأنوف معلنة ذلك الاحساس بالخصوبة.

وحين وصولنا الى تلك المدينة الصغيرة “الدلنج” .تلك المدينة التى لا تقاوم، قررنا أن نمكث فيها أياما، خاصة وأن شقيقتي “عوضية”تقيم فيها، وقد كان.

“السماني لوال” بدأ يتأمل فكرتي تلك عن أن جبال النوبة أقرب إلى جنوب السودان.”عبد الله الشماسى” أدمن الذهاب الى سوق”الروب”بالقرب من تلك الغابة المخضرة، والتى تختلط فيها أشجار المهوقني مع اشجار البان في جيرة خضراء الالفة. ليلاً تدمن خطواتنا لزوجة الطين في دروب أحياء “الدلنج”، تلك المظللة بالغمام دوماً ، حي”أقوز” هو الحي الذي وثق بحميميته المحرضة على النشوة، خطواتنا على دروبه وقطاطيه ورواكيبه.

في تلك الصباحات الندية يتلون الفضاء بألوان الطيور، تلك التي تجيء من أماكن لا تعرفها الا هى.الزرازير الصغيرة تتراقص بأفواج على ذلك الفضاء، وتحط على قناديل عيش الريف في”الجبرايك”الصغيرة فى الأحياء.اذكر ذلك الصباح، الصباح الذي تميز بتلك “الشكشاكة” الخفيفة التى لا تمنع الجلوس خارج القطية.كنا في انتظار شاي الصباح، ذلك المميز في تلك المناطق بالحليب الطبيعي.وكانت تلك”الشكشاكة” قد بدأت تعلن عن نهاية كرنفال رذاذها الممتع.
انتبهت الى سرب من النمل في انتظامه ذلك الكيميائى وهو ينقل حبات العيش الى حيث مسكنه وكان طريق ذلك السرب من النمل يمر باعواد القنا على صريف القش،نمل يحمل حبات العيش، ونمل في الاتجاه المعاكس فارغ من تلك الحمولة، ذاهب الى حيث جوال العيش المرمي في زاوية داخل القطية.نملة تدخل وتخرج نملة، والعيون منا الثلاثة تتابع تلك الحركة المفعمة بمعاني العمل من اجل الحياه.فجأءة حط عصفور جميل ، أزرق اللون، زرقة زاهية وبها لمعة، وعلى عنقه خط احمر زاهي، ومنقار صغير،حطَّ ذلك العصفور الجميل بالقرب من صف تلك النمال.نظر العصفور الى ذلك السرب العامل،وخيل لي انه ابتسم. ومن ثم بدأ يلتقط حبة العيش من تلك النمال، بمنقاره يلتقط النملة بحبتها وينفضها عن قوتها ويستأثر بها، يلتقط نملة، ويفصلها عن حبة العيش، ويبتلعها، ونحن الثلاثه سكنت فينا الحركة،وقطعنا التنفس حتى نري ذلك الفعل العدواني الغريب من طائر صغير وجميل لا يوحي شكلة مطلقاً بأخلاق قطاع الطرق، ارتبك سرب النمال تجاه ذلك الفعل المعتدي، وبدأنا نلاحظ ارتباك ذلك الصف. ورويداً.. رويداً، وبفعل التقاط الطائر الجميل لحبة العيش من تلك النمال، توقف خط السير. وبعد أن فرت النمال متبعثرة وبنظام،وكأن كل نملة حين تلتقي بنملة أخري تبث اليها باللغة الكيميائية خطة حماية مخزونها من العيش، والطائر المتباهي بألوانه الزاهية يلاحق ما تبقي من تلك القافلة التي بدأت تختفي تدريجياً، حلق الطائر مبتعداً.خيل لي ايضاً أن هنالك ابتسامة على منقاره، من نوع تلك الابتسامات التي عادة ما تعلن عن انتصارات قطاع الطرق، لم أشاهد، للأسف الشديد، ابتسامات رجال النهب المسلح، وحين كنا نستعد للخروج بعد الأفطار صاح بنا”السماني لوال” :”يا مونج تعال شوف”!

ورأينا فعلاً ما يبعث على الاعجاب ، رأينا اصرار تلك النمال على الحياة،رأينا سرب النمال ذاك وقد غير اتجاه سير قافلته حاملاً حبات العيش، وقد اختار طريقاً طويلاً إلى مسكنه، يبدأ بالخروج من باب القطية، محتمياً بجدارها الطيني، وقد كان خروج تلك القافلة سابقاً يتخذ الطرف الايمن من باب القطية، ويتحرك حتي الصعود على أعواد قنا الصريف، ومن ثم ينزل عنها الى حيث مسكنه.أما هذه المرة فالقافلة تخرج من الطرف الأيسر للباب- باب القطية- ومن ثم تدور محازية للجدار، وتنحرف مع الجدار الايسر ، ثم تنحرف مع الجدار الخلفي للقطية، وتصعد الى اعواد القنا محتاطة بحذر له عمق هذه التجربة حتي تدخل حبات العيش الي مسكنها. هكذا حتي النمال تتعلم ذلك الحذر من مغبة ان تفقد حبة العيش.وذكرت”السماني”و”عبد الله الشماسي” بتلك القصة القصيرة جداً للقاص المتأمل”صلاح حسن أحمد”.( دخلت نملة وأخذت حبة وخرجت، وجاءت نملة وأخذت حبة وخرجت جاءت اخرى..أخذت حبه وخرجت، جاءت نملة أخذت حبة و خرجت ، إلا ان جاءت نملة عمياء اخطأت المدخل فتبعها الباقون)، وهكذا اضاعت تلك النملة العمياء حياة النمل..ترى هل بالامكان البحث في ممارسات السياسة السودانية عن تلك “النملة العمياء”؟!

كادقلي احتوتنا بخريفها المترع، صعدنا جبالها، تجولنا في وادي “لوفو”، ذلك الوادي بين الجبال التى تقع خلف”قعر الحجر”.”السماني لوال”يستحم على شلال”كِلبي” و”الشماسي” يكتب برنامج النشوة على ذاكرته فيعرف ظهيرة الثلاثاء مع(حكومة ) و ظهيرة الاربعاء مع( كنتوشة) وذلك بخبرة قديمة مع الانادي، كان الشماسي يتحسس خطوات المساء المقبل فسربت اليه نسمة مشاكسة صوت دلوكة تنبعث من حي”الرديف” ، بأصوات ذات لكنة محببة تغني:

“يا غيمة أمشي ديارا

ما تقيفي زي محتارة

كان جبتي لينا اشارة

هاك ديل قلوبنا بشارة”!
فانسجمت خطواته مع عذوبة الاصوات و ذهب نحوها و هو يلوي علي شئ
“السماني لوال” يرقص “الكرنق” على قمر يجادل فسحة السلخانة بحي”قعر الحجر”، ويحمل تفاصيل الرقصة في ذاكرته الابداعية كي ينفذها مع فرقة الفنون الشعبية، تري هل تركوك تفعل ذلك يا “مونج”؟!

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.