آخر الأخبار
The news is by your side.

سرد ما كان … بقلم: د. سيد شعبان

سرد ما كان … بقلم: د. سيد شعبان

تبدو الأمكنة معطوبة بفعل ما حدث؛ محاطة بسياج حديدي يلفها؛ كما المدن في الزمن الماضي؛ عزلة وراء أخرى، غير أن التاريخ لم يعتن بهؤلاء السائرين في العتمة متسربلين بتلك الخرق البالية، يحتفي بمن يضعون النجوم المتراقصة على أكتافهم ولهم ألف وجه للمكر والخديعة؛ لم تمض مائة عام في العزلة، إنها أيام قليلة، انزويت في ركن بعيد أشبه بقبو صخري؛ الكهف لا مخرج منه، انقطعت وسائل التواصل؛ بالفعل كانت تجربة مثيرة.

أن تتخلص من ربقة العصر بما يفرزه صباح مساء، حاولت أن أسرد وقائع تلك الأيام، الشمس لم تتأخر لحظة هي أشبه بجلاد يسوق اﻷجراء إلى نير مسلط بالوجع والأنين.

سرد ما كان يحتاج صبرا يفوق ما درجت عليه الإبل، نحن نحتاج مائة عام من الممانعة لنبقى على قيد الحياة؛ يراهنون على العجز أو نقبع في الدهليز الحجري المؤدي إلى بوابة المتاهة التي ليس لها وراء.

أمعنت النظر في وجه أبي- يحمل في قلبه طيبة الأولين- بدا لي أنه يماثل القمر؛ كفاه فيض نهر حالم؛ تلك الخطوط على جبهته أنشودة الزمن الأول؛ أن يكون أبوك هكذا فأنت بخير!

في حنو يمسك بكتابي الذي طويته، أخبرني : أحب أن أراك تغازل الورق؛ يمتد بي العمر بقدر الكلمات التي تختزنها في ذاكرتك، أسعدني هذا كثيرا؛ فلدي خزانة مملوءة بالمفردات التي تسعده.

يقص أحسن الحكايات وأنا أدون، حكاء من طراز عجيب؛ يحتفظ بالنتوءات التي تمثل رأس ما حدث؛ حكاية أبي لا نهاية لها.

يقتاتون الدمع، مثل جنين في رحم أمه تنتظره وهي لا تدري أنه يوما ما سيركلها بعيدا فكرت جديا في كسر قلمي؛ إنه يؤلمني؛ يواصل نزفه دونما مراعاة لما يدور في عالمي، لست حامل عطر بل أكاد أجاري نافخ الكير، السماء ملبدة بالغيوم، الأرض تمور بالبراكين، لا وقت لسرد جديد!

الكلمات متوقفة عند حافة الانهيار، تطاردني غيلان ليل، تسرق رغيفي قطة سوداء، وحدها المنافي هي المستقر، لا تكفي جرة الماء لتروي عطشي، ماتت بالفعل أحلامي في أن يكون لي بيت؛ تقزم الوطن، لقد صارت قصائد الشعر باهتة لا طلاء لها، تفرق الأحبة كما السراب!

استعدت تفاصيل ما حدث، كان حلم لو قدر له أن يستمر حتى طلوع الشمس، لم يأت سلام؛ كتل نار أذابت الحجر، اختفت الزنابق تحت سلاسل المجنزرات؛ لقد جرفوا النهر، يومها كان الصدق أشد ما تماسك؛ الدجل يستقوي بضعف الأطهار؛ كان كريها أن تتساقط فراخ اليمام في جوف الغربان السوداء!

ومن يومها وساعة الحائط كما كل شيء مصابة بالعطب، حتى مثلت لي تلك المأساة امرأة لها نابان، تمزق كبدي كل لحظة، ربما يتعجب بعضكم مما سأذكره في هذه السطور؛ سيما وأنا أعيش على هامش الحياة، تخيلوا أن هذا الذي ترونه يرتدي جلبابا أشبه بخرقة؛ أو يمشي أحيانا بلا حذاء، شعره أشبه بفروة خروف نسي أهله قصه، له حكاية عجيبة حاول كتمانها لكن ما باليد حيلة، تلح علي مثل الحمى، يبدو أنني مصاب بداء سح الكلام؛ توارثت لكنني لا أدري ممن على وجه اليقين، أجيد لوك الحروف كما لو كنت أمضغ اللبان المر، في الحياة مطبات يصعب تجاوزها بسهولة.

آن البوح بكل هذا؛ جلباب ودروشة؛ أبواب المحروسة السبعة يسمح بالخروج منها، فالعابرون يختمون بقرص دائري؛ رمز السلطان الغوري يظل محفورا على الجبهة.

تلصصت على قطر الندى ابنة السلطان، عطرها شهي؛ يثير في داخلي شعورا لم أدركه حتى الآن.

تجاوزت حالة الموات التي ضربتني، سرح بي الخيال وسط كومة من الأوهام.

رأيتني أمسك بلجام فرسها اﻷشهب، يتهادى وعلى اليمين والشمال ورد يشبه خدها الأحمر.

بلغ قمة الجبل المصنوع من وهن التابعين، يزينون صدور نسائهم بطلعته التي تتراقص بها حبات الرمان الشهي، لا داعي للتندر، فالشمس بالفعل تتكفل بما يدور في العقول والقلوب،يذوب وحده كرة ثلج؛ أو حبات ملح تتسلل إليها مياه النهر، لا يهم من أين يأتي، يكفى أن يهب لهم الماء بعدما يسرق من السحابة السوداء وليدها؛ هكذا يقولون: من بين أنامله يشرق النهار يحمل سر البقاء، وقفت متعجبا؛ كيف له أن يصل فوق تلك الأحجار، نظرت فوجدت أن السفح تتراكم به أكوام من الحصى، غبار كثيف يلف المكان، أثواب ممزقة، جراح تستمر في النزيف، صغار يبحثون عن أمهاتهم؛ إنها فوضى تؤكد أن الغابة تتسع كل لحظة، رغم هذا صمت محشو بالفراغ يلف الجميع؛ يبولون مثل الكلاب بعضها على بعض، تنتصب شاخصة أبصار الذين ولدوا في المتاهة، يزحف لهيب الجوع فيضرب أجسادهم الخاوية، تميل بهم الريح في غير يوم عاصف، تعجز الحجج الواهية أن تبرر حالة الموات المنتشرة في كل مكان، لا داعي لنبش الذاكرة؛ يثير الغثيان من عمر ضاع دون جدوى، تصدر موجات الإذاعة أزيزها صباح اليوم، أوتي البلاغة، يلتف حوله موظفو الحكومة؛ يهبهم أرغفة محشوة بالجبن، ليت أمي قطعت لساني المشقوق؛ زائدة دودية تتحرك بين فخذي، وأخرى أشد بلاء في كهف بلا أسنان.

ماذا فعل هؤلاء التعساء غير التسبيح والتهليل بمجد القابع في قمة الجبل، يتدلى عليهم، تمثل لهم الخرافة سفر حكمة يتلونه في مخادع الشهوة المحرمة؛ فلا نساء بغير طاعة ولي المقام.

ما عاد ينفع هذا اللهو المخلوط بعجينة القرود؛ الحيل كلها صارت مملة؛ فالتكرار يصيب البشر بالبله، علي أن ألوذ بالصمت؛ أنسى كل ما يربطني في وتد المكان.

تغيير القناعات سهل كما تعلق بالعين ذرات الغبار. هذا يحدث في زمن الانسحاق، يقدمون له القرابين طواعية، تصلبت ظهورهم منجل حصاد في أيدي الأجراء.

تقول جدتي كلاما أقرب إلى الهذيان: يوم ولدت حدث في القرية زلزال شديد؛ خرجت أفعى كانت مختبئة في الخرابة التي خلفها الهجانة بعدما حكموا البلدة سنينا؛ مرة بالقهر وأخرى بالحيلة وفي النهاية ارتحلوا، لا تصدقوا أن يأتي الخير من يد متسلطة؛ فالأرض لا تشرب الدم.

تنبت خضراء اللون حول المزابل؛ تسقى من ماء آسن. برز لي فأر أخضر؛ يقرض رغيف الخبز؛ لجدتي أحوال؛ هذا مكان تسرح به الهوام؛ لكنها تلتمس في البركة؛ على أية حال ثقبت أذني، وشمت ظهري؛ علقت ودعة في رقبتي، لم يعد في هذا غرابة؛ فالناس في بلادي مصابة بالعجز؛ تلتمس الدواء عند الكهنة وتخنع للمردة.

لوحات الإعﻻنات المضاءة من نن العين تبرز وجهه في كل مكان؛ يطعم الجياع؛ يستسقى به زمن القحط؛ ليتها وضعت منديلا في فمي واستخرجوا لي شهادة صفراء.

عرفت كيف تخدع الأفعى؛ ألقمتها حجرة ذات سنون؛ وقفت في حلقها، هوت عليها بجذر غابة من بوص؛ تمايلت، ترنحت في لحظة الوداع؛ لدغتني بذيلها.

تفلت جدتي على الجرح، جاء عفريته بترياق؛ أصابتني الحمى؛ أخذت أهزو؛ أنى لهم أن يبقوا دون الناجي؟

تركوني في العراء؛ يبيض الذباب في فمي الذي يشبه الكهف، ألوك سيرته فيتبعني الحرس الشديد ذو الشهب، تطاول قرناي السماء، يكسونني ثيابا خضراء، صرت المبارك أركب الحافلات بالمجان؛ رغم أن الضمور هزمني لكن الجميلات يسعين خلفي.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.