آخر الأخبار
The news is by your side.

وقفات مع الفيلسوف الثوري الجزائري الراحل الدكتور البشير ربوح … بقلم: سعد محمد عبدالله 

وقفات مع الفيلسوف الثوري الجزائري الراحل الدكتور البشير ربوح … بقلم: سعد محمد عبدالله 

يقول الفيلسوف اليوناني الحكيم سقراط “جميع أرواح البشر خالدة، لكن أرواح الصالحين خالدة ومباركة، وقد يكون الموت أعظم نعمة على الإنسان.

إن الحياة الكونية القصيرة تمثل جسرا ممتدا لعبور الإنسان نحو عالم الخلود الطويل، والحياة الأولى حقل خصب لزراعة ما يجب أن نحصده في الحياة الثانية، وفلاح الإنسان في دنياواته تعتمد علي خلقه وإنسانيته وعطائه وحبه للناس غض النظر عن ألوانهم وتوجهاتهم الفكرية وإتجاهاتهم المكانية فقط الإحتكام لرابط الإنسانية في كافة التعاملات وهو ما يجعل أرواح الصالحيين خالدة ومباركة في العالمين، فصلاح الأرواح البشرية من تجليات الأخلاق النبيلة التي تفتح الطريق أمام الإنسان لبلوغ الفلاح والفوز بالبركة في عالم الخلود، والحياة مدرسة ذات تعاليم متجددة في عالم سريع الحركة والدوران خاصة في عصر التكنلوجية الحديثة حيث يلتقي الناس كما “العصافير المهاجرة” وعلي عجل تحلق في الفضاء الإسفيري الفسيح، وهنا نجد تعاملات متعددة الأهداف بين جنسيات وثقافات مختلفة لم تكن لتلتقي لولا هذا التطور الكوني، ومن خلال التعاملات الإفتراضية المباشرة تتعرف المجتمعات وتتحاور الأفكار وتنشئ صلات جديدة، وهكذا كانت الصدفة الفريدة التي أتاحها لنا الفضاء التكنلوجي لنلتقي بالفيلسوف الجزائري الصديق البشير ربوح أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة بدولة الجزائر وعضو بارز في الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية وواحد من رواد الحركة الفكرية النورانية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا وكان معلم فلاسفة الحراك الثوري التحرري الجزائري الذي شكل لوحة فريدة من البطولات والتضحيات لجيل جديد يحلم بدولة الحرية والسلام والعدالة في ظل نظام الحكم المدني الديمقراطي، فكان لجيل الصديق ربوح مساهمات واضحة في بلورة الفلسفة الثورية الجديدة وإخراج الثورة كفعل سياسي وثقافي وإجتماعي من دائرة التصورات النظرية الجامدة إلي عمل حركي تفاعلي يومي متعدد الوسائل وموحد الغايات، وكان للفيلسوف البشير ربوح نظرة ثاقبة تجاه الحراك الشعبي الذي إنتظم الشارع الجزائري في تزامن مع الثورة السودانية التي أطاحت بالحكم الإنقاذي الدكتاتوري.

المثقف والحراك من وجهت نظر ربوح:

قال الفيلسوف البشير ربوح في أخر تعليق كتبه حول علاقة المثقف الثوري المستنير بالحراك الجزائري “المثقف هو الذي يأتي للحراك وليس العكس” وهذه العبارة النيرة تحمل رؤية ربوح لدور المثقف حيال التغيير الجاري في ربوع الجزائر كما هو حال أجزاء من الدول الافريقية والعربية، وهو قول ربوح الفلسفي والمبدئي الخلاق ودرس للمثقفين يؤكد عمق ومتانة الرؤية في مدرسة الفلسفة الثورية “البشيرية”، فالمثقف الذي ينتظر أن يأتي الحراك إليه علي طبق من ذهب أشبه “بدمية” لا تتحرك إلا بعامل مساعد ينقلها نقلا من وضع لأخر وحالة كهذه تجعل المثقف متأخرا عن الحركة الثقافية للمجتمع البشري المتطلع للتغيير والتحرر وبناء دولة جديدة تسودها قيم الحرية والعدالة والمساواة في مسارات التاريخ، فمن الضروري أن يكون المثقفيين جزء أساسي من الحركة اليومية للجتمع، وبل أن يقودوا ذلك الحراك ويقدمون الحلول والبدائل لمشكلات الشعوب التي ينتمون إليها، والبشير ربوح كان الفيلسوف الثوري الذي جاء من عمائق أفئدة الجماهير متشبعا بالفكر النوراني المترسخ بالأصالة في حضارة جزائرية جزورها ضاربة في التاريخ وعرفت بالبطولات العظيمة وأطلق عليها في تاريخ الجسارة بلد “المليون شهيد” هم الأباء المؤسسين للدولة الجزائرية الحديثة التي تمتلك إرث من كنوز الثورة خلفه جيل قاوم الإستعمار الفرنسي بضراوة وجسارة لا تضاحى، فالبشير ربوح من أصلاب أولئك الفرسان الشجان الصالحيين والخالدين في دفاتر الماضي التليد والحاضرين دوما في ثورات التحرر المعاصرة، وقد تعلم ربوح من الحياة وتذود بالعلوم والمعارف الكونية فصار من الفلاسفة الحصيفيين في عوالم المتناقضات، وقد تمكن ربوح من خلال خطابه الفلسفي الرصين وتفاعله الثوري مع قضايا الجماهير وإحتكاكه الوثيق بالجيل الجديد من تلاميذه وأصدقاء داخل وخارج بلاده أن يكون مشكاة إنسانية للأمل والتفاؤل للكثيريين ممن يصارعون أعتى تيارات الحياة صعودا وهبوطا في بهيراتها ليشكل بروح العصر رابطة للتواصل الإنساني والفكري عابرة للإثنيات والحدود الجغرافية ويرسم بذلك لوحة رائعة في عيون الناس جميعا.

إهتمامات البشير ربوح بالشأن السوداني:

منذ ثلاثة سنوات مضت، تعرفت علي الفيلسوف البشير ربوح في الفضاء الإسفيري، ونشأة علاقة إنسانية حميمة بيننا من خلال سجالات ونقاشات حول الوضع السياسي السوداني، فقد أبدى الدكتور ربوح إهتمام كبير بقضايا السودان سيما ما يتعلق بمسائل الحقوق والحريات والديمقراطيات وتاريخ ومستقبل العلاقات الرسمية والشعبية بين السودان والجزائر في ظل المتغيرات السياسية التي بدت تأخذ البلدين رويدا رويدا بعيدا عن المشتركات التاريخية والمعاصرة المتجددة من حيث التواشج الثقافي والتواصل الإجتماعي في الإطار المكاني “الافروعربي” المتداخل في مناحي كثيرة فضلا عن مصالح إقتصادية وعلمية تجمع دول افريقيا والجزيرة العربية خاصة وأن السودان والجزائر يمثلان جسور للتواصل بين الشعوب، كنا نتحاور كلما سمح الوقت ونتحدث بشكل موضوعي حول تلك القضايا المهمة ثم ينفض الحوار وتبقى كل الأمنيات حبيسة، وإهتم البشير جدا بالحراك الثوري التحرري السوداني وكذلك في بلاده الجزائر وكنا نحلم بالعيش في دول حرة وديمقراطية تسع الجميع دون فرز او تمييز، وقد شهد البشير حلقات ساخنة للثورات المتواصلة، وكان من بناة الوعي الجماهيري بفكره الوثاب وحسه الوطني وأشواقه لذاك الصبح المدثر بالسلام والحرية، وكنت من المعجبين جدا بكتابات الصديق الدكتور البشير ولحظي “السعيد” أهداني كتابه الرائع جدا “أسئلة قلقة في الراهن العربي” والذي قدم فيه أسئلة جاذبة للإنتباه ومثيرة للقلق مع نقده الواقعي والموضوعي لحالة اليأس الذي إستشرى في المجتمع العربي بسبب سياسات الحكومات الدكتاتورية الجشعة والمتشبثة بالسلطة رغم فشلها في تحقيق تطلعات الشعوب في إتاحة الحريات العامة والخاصة وإسيعاب الشباب في المؤسسات وحالة الجمود الفكري الذي أنتج التردي في الثقافة وبالتالي غياب الإبداع، وأنا أطالع ذلك الكتاب الدسم كنت أحاول التعرف أكثر علي شخصية الدكتور البشير وبشكل أدق كانت محاولة أستنباض خلاصات الأفكار في كتاب “أسئلة قلقة في الراهن العربي” مع الإبحار خلف السطور والتعابير الجميلة أملا في الوصول لروح الكاتب ربوح وعمق فكره الخلاق، فهو كما أعرفه إنسان شفيف الرأي وصادق القول وصاحب ضمير إنساني حي، ومن النادر والقليل جدا الإلتقاء بشخص من تراز البشير ربوح، ومن أحبه شعبه ورفاقه وتلاميذه لا يمكن أن يخلوا من حب الآخريين مهما تباعدت المسافات بينه وإياهم، فالفكر الحر الخلاق لا يعرف الحدود وكما العصافير المهاجرة بلا جواز سفر.

تلويحة الوداع الأخير:

فقدنا والوسط الثقافي والفلسفي الجزائري أقلام وأعلام وعلامات بارزة خطفتها أجنحة المنية بعد أن صارت عيون المجتمع التي تبصر حقيقة الكون وتطويره من لدن أفكارهم الفلسفية النيرة التي تفتح أبواب العقول للوصول إليها دون حاجب، فالموت حياة جديدة لمن وهبوا جل عمرهم للعلم والتنوير والتغيير، والحب الذي في قلوب الناس أقوى من الموت الذي يتربص بالإنسان في هذا الكون العجيب، والصور والسير الجميلة لن تسقط بالتقادم ولن يبدلها الزمان في أذهان الذين عاصروا أصحابها وستتوارثها الأجيال، فالموت كان قاسيا حين أخذ الدكتور البشير ربوح وصديقة الدكتور محمد الصادق بلام ووضع خناجر الحزن في أجساد الجزائريين الثائريين السائريين في طريق الحرية والسلام والعدالة، وها هم الصديقان يلتحقان بالفيلسوف الحكيم الصالح سقراط في عالم الخلود الأبدي، وها نحن في عالمنا الحزين هذا نحيا كأننا أموات او أجداثا تمشي علي الطرقات وتلتحف السماء ألها تلمح النور في الأفق البعيد، وفي تلويح الوداع نرسل زهور المحبة والسلام لأرواح السابقين الصادقين الخالدين مع خالص العزاء لسكان رأس الوادي وأهل الجزائر جميعا، وستبقى شموع الثورة موقدة في السودان والجزائر وفي صدور الكادحيين أينما كانوا، وستبقى الفلسفة نورا يحف الكون ويزيل الظلمات ما بقى الإنسان علي قيد الحياة، وفي ساعة الوداع تخالج النفس مشاعر الفراق والفراغ وتدور الدنيا بلا توقف، هو الحزن الذي لا ينتهي، فالوداع صديقي الخلوق المتواضع حتى نلتقي في عالم الخلود، وليبارك الرب أرواحكم ويغسلها بثلج السكينة والسلام.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.