آخر الأخبار
The news is by your side.

 تأملات قرآنية … بقلم: د. هاشم غرايبه

 تأملات قرآنية … بقلم:د. هاشم غرايبه

كثيرون يحبون الاستماع الى تلاوة “عبد الباسط” رحمه الله لسورة يوسف، استمتاعا بصوته الجميل أو بالسرد الروائي، لكن الله لم ينزلها لهذا ولا لذاك، بل أورد تعالى القصص القرآني في كتابه الكريم لكي تستفيد أمته، فيتعظوا بما ورد فيها من أحداث، ويتعلموا منها سنن الله الكونية، وكيفية سيرورة الأقدار بحيث تتحصل النتائج وفق المقدمات.

تتميز سورة يوسف عن جميع السور، بأنها الوحيدة التي حوت قصة كاملة، لم يرد ذكر لها في أية سورة أخرى، وأنها القصة الوحيدة التي جاءت بسياق سردي متسلسل، ولم تنقطع فيها الرواية حتى استكملت.

لا شك أن ذلك جاء لحكمة أرادها الخالق، وبسبب هذه الخصوصية والتفرد، يجب أن تدرس القصة بعناية شديدة، وبفهم لمرادات الله من مجملها العام، ومن جزئيات الأحداث.

ونظرا لسعة الوضوع وكثرة عناصره، سأقتصر على ذكر ما لم يذكره الأقدمون، ولا أكرر ما قالوا به على أهميته:

1 – لقد بين تعالى بدايةً، الغرض من إيراده تفصيلات هذا الحدث التاريخي، بقوله: “لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ” [يوسف:7]، لذا فالشخصيات محور الحدث كانت في يوسف عليه السلام أولا، وإخوته ثانيا، لأن هؤلاء هم النواة التي تأسس عليها بنو إسرائيل، وهؤلاء القوم الذين سيورد تعالى بشأنهم كثير من التفصيلات فيما بعد.

لذلك لم يقل تعالى (أبناء يعقوب)، لأنه لم يرد تسليط الضوء على الوالد (يعقوب)، فمحور الأحداث القادمة مبني على أبنائه، كما لم يورد تعالى في القرآن أية معلومة عن نبوة إسحق ولا يعقوب ولا دعوتهما، إلا أنهما كانا مسلمين كما أوصاهما أبوهما إبراهيم عليم جميعا السلام، ولم يخبرنا عن استجابة قومهما لدعوتهما من عدمها، وهل آمن معهما كثيرون أم قلة.

2 – نفهم من سياق القصة أن تفضيل الوالد لبعض بنيه عن بعض سبب في نشوء البغضاء والحسد، لكن نعلم أيضاً أنه لولا هذه النقيصة البشرية، ما كان لينزغ الشيطان بين الأخوة، فيكيدوا له، وذلك من ترتيب الله الأسباب لكي ينتقل يوسف الى مصر، فيمكن الله له في تلك الأرض ما لم يكن ليتحقق له في ديار أبيه.

لذا نفهم أن تصاريف الأقدار موجِّهة للخلق، ومنشئة لأحوال الناس القادمة، ولا أحد يعلم إن كان فيها شقاء للمرء أم إسعاد له.

3 – كما نفهم أن ما ليس للمرء حيلة فيه ولا يملك له تعديلا، هو من الأقدار المكتوبة، وما فيه قرار له جزئيا أو كليا خاضع لسنة الله في أن النتيجة محصلة لجملة تقاطعات، ما يتعلق منها بإرادة الفرد تحكمها “وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ” [الشورى:30]، وما يتعلق منها بما قدره الله تحكمه القاعدة: “مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ” [النساء:79].

تطبيقا على ما سبق، فإن حزن يعقوب على فقدان تبنه الغالي، كان ثمنا قاسيا لعدم مراعاة الأب للمساواة بين الأبناء، لكن بسبب تقوى الأب فقد جعل له مخرجا، فقد أنبأه مسبقا (رؤيا يوسف) أن هذا الصغير سيكون له شأن عظيم عند الله، لذا فلم يصدق رواية أبنائه عن قصة الذئب، ورغم أنه أروه الدليل (الدم على القميص الممزق)، إلا أن قلبه ظل مطمئنا الى أنه حي، إنما أبعدوه الى مكان لا يعلمه: “قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ”.

4 – عندما يذكر الله القلوب فهو يقصد مركز اتخاذ القرار عند الإنسان، وهو مزيج من العاطفة (الهوى)، والترجيح المنطقي (العقل)، والتوجه اللاإرادي نحو الحق (الفطرة)، والقرار المتخذ هو محصلة هذه الدوافع الثلاث، لذلك فتغليب بعضها على غيره خاضع لإرادة الله، ويكون ذلك بوحي منه أي بما يسميه البشرالإلهام.

لذلك جعل الله قلوب البشر بين أصابعه يقلبها حيث تشاء حكمته (القدر).

فجعل الله توجه الإخوة المتآمرين الى إبعاده عن وجه أبيه وليس قتله، وجعل السيارة الذين التقطوا يوسف زاهدين فيه، بينما رقق قلب الذي اشتراه من مصر عليه، وأوقع فيه الأمل أن يصبح له ولدا.

ولنا الى الموضوع عودة وعوده.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.