آخر الأخبار
The news is by your side.

النائب العام في مواجهة الحرس القديم .. تفاصيل جلسة محكمة انقلاب الانقاذ “١”

النائب العام في مواجهة الحرس القديم .. تفاصيل جلسة مثيرة من محكمة انقلاب الانقاذ “١”

كتب: عزمي عبد الرازق

هاهو أكتوبر يعلّق أيامه العشر الأولى على مشجب التّرقُب السياسي، أكتوبر الوردي شهر

الثورة، ينعاد في سنة أرعبت السودانيين لأول مرة تقريباً، خوف من المجهول وشظفٌ من

العيش مرير، كان الشبان في تقاطعات الشوارع الخرطومية يلوحون بصناديق تبرعات لمرضى

السرطان، وكانت آثار الفيضان أضفت مسحة كئيبة على الشوارع المحيطة بالنهر تحديداً، وكان

علم البلاد يرفرف فوق سارية القصر، وبالداخل الضابط السيادي الذي جرّب صوته في حفل

السلام بعد أن جرب السلطة واستلذها، فقضمت الجبهة الثورية قضمة كبيرة إلى جانبه.

اختارت إذاعة أم درمان في هذا الصباح، صباح الثلاثاء أغنية للفنان الراحل إبراهيم موسى أبَّا “

ما دوامة الدنيا ما دوامة” .. وهى الأغنية التي ذاع صيتها بعد وفاة جمال عبد الناصر، واضطر

جعفر نميري حينها لمنعها، لأنه كان مزهواً بنياشينه، وشعر بالاستهداف الضمني مما تشيء به،

كجنرال ملك دنيا السودانيين وقتذاك، قبل أن يأتي زمان تتحور فيه ذات الأغنية إلى حالة يائسة

تنذر بـ(ركوب الكركابة) أيضاً أعقبت سقوط الجنرال الأخر عمر البشير.

قاعة جديدة في الحرم الجنوبي للأدلة الجنائية، وقاضي مخضرم وهيئة دفاع تجيد الرقص على

الهفوات، أو سمها لحظة المدافعة في محكمة أريد لها أن تمخر عباب وحل من الإجراءات

والاعتراضات والمطالب المتناسلة، وقد لف القاضي الحبل على رقبة الحرس الانقاذي القديم

عندما خلى بينهم والنائب العام تاج السر الحبر، الذي عمل مستشاراً بينهم وأنكرهم بعد بيان

عوض إبن عوف ثلاثة مرات، ليقدم الحبر خطبة الاتهام، التي كانت معدة سلفاً للرد على

الشبهات المبذولة بتسيس العدالة، وتوجيه أصابع الاتهام لمن هم داخل القفص بتقويض النظام

الدستوري، والانقلاب على شرعية صاحب اللحية المُخضبة، وإمام درة تاج الأحزاب الطائفية.

جاءت سيرة النميري تلميحاً في خطبة النائب العام وهو يشير من طرف إلى تمكين الانقاذ لقائد

مايو من الهروب من العدالة بعد سنوات المنفى، كترسيخ لشرعنة الانقلابات العسكرية وفقاً

لوصف الحبر، الذي كسى الشيب مفرقيه، ومع ذلك كان ثمة من يقاطعه، بل ويعترض عليه

أحياناً، حد انسحاب مجمل هيئة الدفاع من الجلسة، وترك القاعة الجديدة فارغة نسبياً، كخزينة

البلاد من الدولار.

كان السياج الحديدي قد اختفى، وحل مكانه سياج من رجل شرطة السجون، أحاطوا بالمتهمين

إحاطة النيل بجزيرة توتي، وقد انزاحت الكمامات شيئاً فشيئاً ولمعت أضواء النيون فوق أباجورة

معلقة على الرواق، واختلط رهط المخططين للانقلاب بالمنفذين، واهتبل زعيم المعارضة في

برلمان الديمقراطية الثالثة الفرصة، ليغطي على غياب خط دفاعه، فهو المحامي أيضاً، ورجل

التكتيك الممعن في الغموض، وصاحب النزعة المكيافيلية، علي عثمان محمد طه، الذي هب من

مقعده معترضاً على تقديم خطبة الدفاع مكتوبة، وفي غياب الهيئة المنسحبة، قائلاً ببحة

وسمت صوته: ” مع احترامنا للقاضي والنائب العام، هذه محاكمة اعلامية في المقام الأول،

فمثلما قدم السيد النائب العام خطبة الاتهام أمام الملأ، وتم نقاشها، ويراد منا تقديم ردنا مكتوباً،

ليكون عبارة عن شيك في الأضابير، تنتفي عنده قيمة الرد، لابد أن يتاح لنا تقديم ردنا شفاهة

أمام محكمة الرأي العام تحقيقاً لمبدأ العدالة” وهو هنا إذ وجد تلك الفرصة التي انتظرها لأكثر

من عام ربما أحرج من تسنم الحكم بعده، كما لو أن الظروف اليوم مشابهة لظروف التغيير الذي

سبق، محتمياً، أي علي عثمان وخصومه، بشبح كارل ماركس ” التاريخ يعيد نفسه في المرة

الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة” .

وبالرغم من التهذيب الذي تحلى به في مخاطبة النائب العام، إلا أن عبد الباسط سبدرات كان

أول المنسحبين بسبب تقديم الحبر خطبة الاتهام، وكان من المعترضين كذلك في مرافعة

مشفوعة بالمقاربات، حد أنه وصف النائب العام بأنه ” جمع بين الأختين، وبين الوضوء والتيمم”

وذلك لجهة أن الحبر تقدم بالشكوى في هذا البلاغ، وبعد تعينه نائباً عاماً ابتدر وأشرف على

إجراءات فتح البلاغ والتحري والتحقيق مع الخصوم الأمر الذي يجعله خصماً وحكماً، وقد شهدت

النيابة فى عهده أول سابقة تحويل بلاغ للقضاء فى زفة احتفالية تقدمها بزهو يحكى كذباً صولة

(القط) وفقاً وصف هيئة الدفاع عن قيادات المؤتمر الشعبي .

ولعل أكثر ما كان لافتاً بخلاف المواجهة الساخنة بين المتحاكمين، العزم الذي أسفر عنه عبد

الرحيم محمد حسين في مقارعة خطبة النائب العام، بالصوت العالي، ومضى إلى القول بصورة

أثارت ضحكات مكتومة” نحن كمان دايرين ننسحب يا مولانا” فقال له القاضي؛ ممنوع.

في الخارج طفرت غمامة هارب من العِينة الأخيرة للخريف، وأشير كذلك لمتهم هارب هو صديق

فضل القائد السابق لسلاح المدرعات، أو الذي أخفى نفسه للحيلولة دون الوصول إليه، حتى أن

أحدا لا يعرف أين صديق. مما أزعج هيئة الاتهام، فطفت تتساءل عن كيفية ظهور محاميه آحمد

عثمان داخل المحكمة، وطالبت بطرده من الجلسة، لكن القاضي تريث حتى الفصل في الطلب،

كما تريث في الرد على كل الطعون والطلبات جملة واحدة في الجلسة المقبلة، ولوح ممثل

النيابة بطلب لترتيب قائمة المتهمين ليصبح البشير هو المتهم الأول بدلاً من الثاني، وقد تسلم

البشير الطلب المعني “إنت الأول” وغاب بين سطوره هنيهة قبيل أن يفتر ثغره، في وقتٍ تلا

فيه تاج السر الحبر خطبة طويلة قاطعه فيه أبوبكر عبد الرازق أكثر من مرة، وقاطعه القاضي

عصام الدين محمد إبراهيم بأن على الخطبة أن لا تنحرف عن موضوع الاتهام وهو انقلاب ٣٠

يونيو، وطفق الحبر يعدد مخازي الانقاذ وتبادل الأدوار بين المدنيين والعسكريين في ما وصفه

بتلك الليلة السوداء، وتحدث عن تركة ثقيلة من الانتهاكات وظهور مقابر جماعية، وأشار إلى أنهم

سمحوا للمتهمين بمقابلة ذويهم وتلقي العناية الطبية، فنبهه للقاضي بأن هذا حق مكفول،

ومضى النائب العام إلى التأكيد بأن هذه المحكمة تمت وفقاً للوثيقة الدستورية، ولفت إلى أن

دور كل واحد من المتهمين يتلخص في أقوال الشهود والاعترافات وتسجيلات قائد الانقلاب، في

إشارة للبيان الأول، وختم خطبته بقوله تعالى “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ

عَظِيمٌ” فتصاعدت الهمهمات من داخل القفص الحديدي” يا سبحان الله.. يا سبحان الله” بينما

تصاعدت همهمات مشابهة عندما هتفت امرأة أثناء دخول البشير للمحكمة بالقول ” سيد الكل

وشجرة الضل” فابتلعها النائب العام وفريق الاتهام، أي تلك العبارة، على مضض.

نواصل

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.