آخر الأخبار
The news is by your side.

الاقتصاد السياسي للسودان … بقلم: د. سبنا امام

الاقتصاد السياسي للسودان … بقلم: د. سبنا امام

النظام التجاري وتجديد الفكر الإسلامي ما بين الترابي ومحمود محمد طه
كنا قد اسلفنا الذكر بأننا نعيش في النسخة التاسعة من النظام التجاريmercantile order .الذي يمثل المال والاقتصادية نموذجه القدسي. وفي هذا النموذج لا مجال للاصولية الفكرية سواء اكانت ذات منبع ديني او غير ديني. فارباب النظام التجاري لم يكونوا ليسمحوا بقيام فكر اصولي ذو مشروع سياسي. لان هذة المشاريع ستقف في طريق النظام التجاري من ان يصل الى منتهاه وهي ديمقراطية السوق market democracy وهو ما نعيشه اليوم ومن ثم ال hyperdemocracy وهي المرحلة القادمة من تطور النظام التجاري والتي ستكتمل بنهاية القرن الحالي وهو ما سنفصل فيه في مقالات قادمة.
والمتتبع لتاريخ السودان بعد الحرب العالمية يجد ان هذا الصراع قد القى بظلاله على المسار السياسي والاقتصادي في السودان على غرار دول اخرى كثيرة من دول الهامش الذي يدور حول مركز صناعة السياسة والاقتصاد والفكر وهي مراكز الفكر التجاري . فبعد قيام الثورة البلشفية كان هذا النظام يواجه اصولية الفكر الشيوعي ذو المشروع السياسي والاقتصادي الواضح والمناهض للنظام التجاري .ولان المواجهة العسكرية كانت تعني احتمالية انتصار الخصم مما يعني اندثار الاخر فقد توافق الطرفان على الحرب الباردة ودخلت كل الدول هذة المعركة بعلم اوبغير برضا او بغيره فقد كانت معركة استخبارتية بامتياز وشديدة الاستقطاب فمن لم يكن في هذا الطرف فهو حتما في الاخر. وفي العالم الاسلامي كانت بريطانيا وفرنسا قد وضعتا اسس الحداثة والحكم الليبرالي في الدول التي خضعت لاحتلالهما لسنوات ولكن البلاد التي ورثت الامبراطوريتين كانت قد حددت عدوها الاول وهو الفكر الشيوعي ولم يكن هنالك من هو اجدى بخوض المعركة الفكرية المناهضة للفكر الشيوعي انذاك من الفكر الاسلامي المتشدد. ولذلك نهضت حركة الاخوان في مصر وتلاعبت الحياة السياسية ولعبت دورا كبيرا في انهيار الملكية .
ثم كان اعداد الترابي في السودان بحرفية كبيرة ليلعب ذات الدور العبثي في الدولة الحديثة في السودان وصولا الى ما نحن فيه اليوم . فالمتتبع لمسيرة الرجل يرى بوضوح انه قد تم تلميعه وايقنته كمفكر ومجدد اسلامي وهو ما كان الترابي بعيدا عنه بعدا كبيرا وفي خضم الاحتفاء بانتسابه لجامعة الخرطوم ثم كمبيردج واخيرا جامعة باريس وهو ما كان قد انجزه اغلب خريجي الخرطوم انذاك ولم يكن انجازا استثنائيا للترابي تم التغاضي عن ثورية الفكر والتجديد الديني الذي قام به محمود محمد طه فالاخير يعتبر وبلا منازع اعظم مجدد اسلامي في العصر الحديث من حيث ثورية فكره واصالته فمحمود هو اول مجدد اسلامي يتعدى فكره حدود تجديد الفلسفة الاسلامية الى طرح افكار ثورية لتجديد الشريعة الاسلامية وهو مالم يسبقه اليه قط اي مفكر اسلامي سواء اتفقنا او اختلفنا مع الرجل فهذا حقه العلمي. وهنا ان اقدم تقييمي العلمي للاطروحة الفكرية للرجل وليس حكما بصحته من عدم صحته. في حين ان فكر الترابي اذا ما صحت تسميته بالفكر لم يعدو عن كونه استعادة واحياء لافكار دينية كانت قد الفت ووضعت في عصور اسلامية سابقة وكانت قد دخلت طي النسيان بفعل مد الحداثة ابان فترة الاستعمار وبحكم تربيته وتكوينه نفض عنها الغبار في تجربة شبيهة بمحمد عبد الوهاب في الجزيرة العربية وحسن البنا في مصر فالاسلام الاصولي المتشدد كان دائما سلاحا ناجعا في حسم توازنات القوى وتغيير انظمة الحكم في العالم الاسلامي. ولكن الترابي لم يأتي ابدا بفكرة اصيلة وثورية على غرار المفكر محمود محمد طه سواء اتفقنا مع نتائج افكاره ام اختلفنا معها فأنا هنا اقدم تقييما علميا لتجربة الرجلين الفكرية.
واعتقد ان الضوء قد سلط على افكار الترابي لحوجه النظام التجاري آنذاك لاستخدام الاسلاميين في ضرب المد الشيوعي في السودان وهذه كانت مهمة الترابي ودوره الذي رسم وسخر له وهو ما كان ثمنه التلاعب بالديقراطية وتمكين العسكر لان الولايات المتحدة لا تريد حكما اسلاميا ولا شيوعيا ولا تريد ديمقراطية تمكن احد التيارين من الوصول الى السلطة عبر الصندوق ولكنها تبقيهما في حال صراع ازلي تكون الغلبة في كل مرحلة لاحدهما ثم يتمكن عسكري اخر من السلطة فيؤسس لديكتاتورية يحاربها الطرفان في حلقة مفرغة يكون الخاسر الاكبر فيها هو الوطن.
واستخدم النظام التجاري الترابي بنفس الاسلوب الذي استخدم به حسن البنا في مصر لاسقاط الملك وانهاء دولة الحداثة وقيام الصحوة الاسلامية الاصولية الرجعية الممهدة لحكم العسكر الاستبدادي . فالاصولية تمهد الشعوب وتسخر الدولة وتهيئها للاستبداد فهي صحوة لم تقم على اساس التجديد الفكري ومراجعة وندارسة وتنقيح الفكر وصولا لتطوير ليتماشى مع روح ابعصر مثل مارتن لوثر في اوروبا وانما استعادة الفكر القديم ومحاولة حشره قسرا في ثنايا الدولة الحديثة لرجعنتها وهدم اصولها من الداخل واغراقها في الفوضى المؤدية للاستبداد العسكري فامريكا تفضل نظما عسكرية في الشرق الاوسط وافريقيا. وينطبق ذات الامر على تجربة بن لادن وانا لا اعلم ان كان ذلك بعلمهما ام لا ولكن المؤكد انهما كانا يخدمان مصالح الدول الكبرى سواء بوعي او بلا وعي.فالنظام التجاري المتحكم في العالم يحتاج دائما لشخص ذو تركيبة مشبعة منذ نعومة اظافره بالفكر الاصولي وهو ما توفر في حسن البنا وحسن الترابي فكلاهما كان مهووسا في عقله الباطن بدرجة لم يفلح معها التعليم الحديث في تغيير ميولهما الفكرية وهو امر يدعو للاستغراب اذ يصعب تخيل ان كل التعليم الحديث الذي تلقاه الترابي لم يؤثر في اصوليته وهو امر شديد الصعوبة لان تلقي العلوم في الغرب تؤثر بشكل لا يمكن تجاوزه في طريقة تفكير المتدرب لان اول ما يتعلمه طالب الدكتوراة هو فلسفلة العلوم وهي عملية تغير تماما طريقة التفكير والنظرة للامور والتحليل فانا اجد محمود محمد طه اكثر جرأة من الناحية الفكرية مقارنة بالترابي وهو امر كان ينبغي ان يكون معكوسا مع الاخذ في الاعتبار تجربة الرجلين التعليمية. فبتتبع حياة الترابي يصعب تخيل ان المسار الذي سلكه كان بمحض الصدفة تماما كمسار بن لادن والتقى الرجلان في الخرطوم يوم ان ظنا ان دولة الخلافة التي حلموا بها قد آن اوانها ويومها رفضت امريكا تسلم بن لادن لحاجة في نفس امريكا قضتها وهي معاقبة السودان تمهيدا لانهاء دور الترابي الى الابد ولدور اخر رسم لبن لادن بدأ بهجمات احادي عشر من سبتمبر ولم ينتهي حتى الان.
واليوم بات الاسلام الاصولي الذي نما وترعرع تحت حماية النظام التجاري الذي دعمه بعلم قادته او جهلهم . وهنا يصعب ان تجد اسلاميا لم يعش ولو لفترة في الولايات المتحدة او بريطانيا حيث معقل النظام التجاري ومؤسساته وذلم لتهيئتهم لاداء الدور المنوط بهم وهو منع التمدد الشيوعي في العالم الاسلامي ومازلت الدولتان تمثلنا اكثر الملاذات امنا للاسلاميين المغضوب عليهم في دولهم. وبنهاية الاتحاد السوفيتي اعلنت الولايات المتحدة حربها على الارهاب لتقضي على الوحش الذي صنعته لاكتمال دوره فلن تستكين حتى تنهي كل مظاهر الاصولية الدينية في العالم وقد بدأ الامر بالفعل في المملكة السعودية ولن ينتهي عندها.
واكن في السودان تنظر الولايات المتحدة اليوم بعين الريبة للثورة الاخيرة التي اتت باليسار الى مقدمة العملية السياسية ولكنها لن تستخدم الاسلاميين هذه المرة فالفكر الشيوعي قد تراجع كثيرا في المجال الاقتصادي (وهو المهم ) واصبحت اكبر الحكومات الشيوعية كالصين تتبنى المشروع الشيوعي السياسي ولكن الاقتصاد يتبع المنهج الرأسمالي بامتياز وما يهم ارباب المال العالميين اعتنق ما تشاء ولكن كن رأسمالياوهو ما استوعبته الحكمة الصينية فعقدت صفقه مع الولايات المتحدة بعد استسلام امبراطور اليابان على ان تتبنى الرأسمالية في السوق والشيوعية في الحكم مقابل ان تضمن لامريكا عدم استيقاظ الطموح الامبراطوري اليابني فالصين خلقت لاحكام السيطرة على اليابان .فالطريق لرضا ارباب المال هو في الولاء للنظام التجاري واكبر مهدد للنظام التجاري هو الاصولية الفكرية لانها تقحم المعايير الاخلاقية والدينية في المعاملات التجارية فتحد من حركة المال.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.