آخر الأخبار
The news is by your side.

ليست رأسمالية مركزية واحدة بل رأسماليات متعددة

ليست رأسمالية مركزية واحدة بل رأسماليات متعددة

بقلم: أمجد هاشم

مقدمة

سأرد على السيد محمد حيدر في جزئيتين، الأولى متعلقة بالرأسمالية كنظام عالمي سائد ويجب التعامل معه بواقعية وبراغماتية بعيدا عن التحيزات الأيدولوجية والعداءات التاريخية لحزب البعث العربي الاشتراكي خاصة واليسار الراديكالي بشكل عام مع أمريكا وأوروبا الغربية وإلا سنكرر نفس المشروع الكيزاني المقبور الذي ورط السودان في مغامرات إيديولوجية عابرة للحدود والقارات وما زلنا كشعب سوداني ندفع ضريبتها… أما الجزئية الثانية فهي متعلقة ببعض المغالطات التي وردت في سياق الرد وبناها السيد محمد حيدر على إفتراضات لم ترد في مقالي أصلا.

أولا: يبدو أنه قد إختلط الامر على السيد محمد حيدر ما بين الرأسمالية اللي انتقدها ماركس سنة 1848 والرأسمالية في عصرنا الحالي… فالنظام الرأسمالي نفسه تطور كثيرا في القرن العشرين وأدخلت فيه إصلاحات مهمة تسمح بدور أكبر للدولة فيما يتعلق بوضع السياسات الاقتصادية والتنموية العامة والرقابة على السوق، وضمان التنافسية الحرة وعدم الاحتكار والاشراف المباشر للدولة على قطاعات بعينها ترتبط بحقوق المواطنين الأساسية كالصحة والتعليم والمواصلات والضمان الاجتماعي للعجزة والعطالى وذوي الدخل المحدود بما لا يقارن حتى في الأنظمة الإشتراكية، والأهم هو اضطلاع الدولة في النظام الرأسمالي بمهمة إعادة توزيع الدخل عبر جمع الضرائب وتوظيفها خدميا بالإضافة الى تشريع قوانين لحماية حقوق العمال والسماح بالنقابات والأنشطة الإحتجاجية وتحديد حد أدنى للأجور.. وكل ما ذكرته سابقا هو واقع معاش في كثير من الدول الليبرالية الرأسمالية والمثال الأوضح هو بريطانيا التي تعتبر المنبع الأول للرأسمالية، ففي بريطانيا العلاج والتعليم مجانيين والدولة ملزمة بالرعاية الاجتماعية وتغطية تكاليف الاعاشة والسكن للباحثين عن العمل وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة وكل هذا يتم تغطيته من الضرائب التصاعدية التي تصل نسبتها الى 45% من دخل الميسورين .

هذا التطور في النظام الرأسمالي يعود في المقام الأول إلى أن المنهج الرأسمالي يمتلك القدر الكافي من المرونة لاصلاح اختلالاته ذاتيا بعكس اليسار الراديكالي ومدرسته الإقتصادية وهو ما يعزى إلى الحاضنة الفكرية والفلسفية اللي انتجت كلا النظامين ومدى مرونتها وتقبلها للآخر سواءا كان هذا الاخر مختلف طبقيا أو سياسيا أو فكريا.. فالحرية الاقتصادية هي جزء لا يتجزأ من القيم الليبرالية بمفهومها الاوسع الذي يتضمن حرية التعبير و الفكر والتعددية السياسية والفصل التام بين السلطات و ضمان إستقلالية القضاء وسيادة حكم القانون ولا يمكن تطبيق جزء وإسقاط الاجزاء الاخرى والا ستنحرف الحرية الإقتصادية عن مسارها وتتحول إلى (رأسمالية طفيلية جشعة) بسبب المحسوبية والفساد الهيكلي والتهرب الضريبي وإنعدام الرقابة والمحاسبة عند تطبيقها في ظل الانظمة الشمولية.

وللتوضيح أكثر سأحيلك للتجربتين اليابانية والكورية الجنوبية، فالسر في تطور اليابان وكوريا الجنوبية ونجاحهما في تحقيق الرفاه الاجتماعي في بلدانهم وتأمين مستوى معيشة مرتفع لمواطنيهم وهما الدولتان الناميتان اللتان اتبعتا مسار التطور الرأسمالي هو تطبيقهم جوهر الديمقراطية الليبرالية والشاهد في هذا الأمر أن رئيسة كوريا الجنوبية السابقة تم اسقاط حصانتها بواسطة البرلمان المنتخب ومحاكمتها بواسطة القضاء المستقل عندما حامت حولها شبهات فساد كشفتها الصحافة الحرة… واحدة من مظاهر النفاق الذي تتسم به الطبقة السياسية السودانية هي أنها ترفع شعارات ومطالب هي من صميم الديمقراطية الليبرالية من شاكلة (الحق في الحياة والسلامة الشخصية، حرية التعبير، حرية الصحافة والحق في الحصول على المعلومات من مصادر متنوعة، حرية الإنتساب للتنظيمات السياسية، حرية الإعتقاد، المساواة أمام القانون، فصل السلطات) وذلك لرواج هذه الشعارات وجاذبيتها عالميا الأمر الذي فرضته سيطرة الليبراليات العظمى (أمريكا وأروبا الغربية) على النظام السياسي العالمي ومؤسساته الدولية… ولكن نفس هذه الطبقة السياسية المنافقة تتنصل عن تسمية مطالبها الليبرالية تلك بمسمياتها الحقيقية للتنصل من بعض القيم الليبرالية التي تتعارض تعارض صارخ مع مرجعياتهم الإيديولوجية (الحرية الاقتصادية مثلا)… ذكرت لك العديد من الرأسماليات التي نجحت في العبور بشعوبها إلى المستقبل ولكن شخصيا لا أجد اي تجربة إشتراكية ناجحة سواءا في العصر البائد أو العصر الحالي ودونك مشهد تدافع المواطنين وهروبهم الجماعي من نعيم الشيوعية في المانيا الشرقية الى جحيم الراسمالية في المانيا الغربية!!! كل التجارب الإشتراكية الراديكالية انتهت الى خراب وضنك وبؤس وهو ما أعزوه كما ذكرت لك إلى الحاضنة الفكرية والفلسفية اللي انتجت كلا المنظومتين ومدى مرونتها وتقبلها للتطور والإصلاح الذاتي فالمشروع الفلسفي الذي تعتبر واحدة من أهم مخرجاته (ديكتاتورية البروليتاريا) كيف له أن ينتج ممارسة ديمقراطية تستوعب الآخر المختلف بدون تخوين أو إقصاء.

أمام السودان فرصة تاريخية بما يمتلكه من موارد مهولة للنهوض اذا التزمنا بالواقعية وابتعدنا عن المشاريع الإيديولوجية الحالمة لليسار الراديكالي والتي ستنتهي بنا اما معزولين دوليا مثل كوبا وكوريا الشمالية أو منهارين اقتصاديا مثل فنزويلا … و أتمنى صادقا أن يستفيد اليسار السوداني من تجربة اليسار في أوروبا الذي قدم مراجعات جذرية أفضت إلى إقراره بالليبرالية والتنافس السياسي وفقا لقواعدها والتي تتعارض مع كثير من مفاهيم التغيير الراديكالي البلشفي وهو الأمر الذي ساهم في تسريع الاصلاحات التي تبناها النظام الرأسمالي والتي أفضت إلى دولة الرفاه الإجتماعي في أوروبا الغربية بالإضافة الى الرغبة الذاتية التي حركتها التحولات في نمط االانتاج السائد في الاقتصاد العالمي والذي أصبح معتمدا على التكنولوجيا.

ثانيا: البرازيل كانت رأسمالية وما زالت رأسمالية حتى الان وما حدث في بداية الألفينات كانت إصلاحات سياسية حافظت على النمط الرأسمالي للبرازيل ولا يمكن تسميتها إطلاقا بالإصلاحات الإشتراكية وهو ما يحمد ل (لولا دا سيلفا) السياسي الواقعي فرغم خلافه مع صندوق النقد الدولي حول تفاصيل الروشتة المقترحة إلا أنه لم ينجرف كما فعل نظيره تشافيز في فنزويلا وراء توجهات ذات طابع إشتراكي معادي للحريات الاقتصادية ومنفر للإستثمارات الأجنبية التي على العكس من فنزويلا عمل دا سيلفا على تشجيعها وإستقطابها وكان لها الدور الأكبر في إنجاح التجربة البرازيلية بما وفرته من رساميل أجنبية بلغت ال200 مليار دولار بينما تشافيز الماركسي الملتزم بماركسيته فضل أن يتوجه نحو تغييرات يسارية راديكالية أدت لتدمير الأقتصاد الفنزويلي الذي سجل أعلى معدل تضخم وبطالة في العالم وأسوأ تدني في القوة الشرائية على مر التاريخ البشري لدرجة أن الحد الأدنى للأجر في فنزويلا أصبح يتحمل تكلفة شراء 2% فقط من سلة الغذاء الأساسية وهو ما أجبر نصف الشعب الفنزويلي تقريبا على الهروب جماعيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية والنصف الآخر يثور الان في الشوارع ضد نيكولاس مادورو خليفة هوجو تشافيز الذي يتمترس خلف الجيش الفنزويلي لحمايته من الثورة الشعبية الجارفة ضده وضد إشتراكيته.

اليسار الراديكالي داخل ق.ح.ت يقودنا إلى المصير الفنزويلي وليس المصير البرازيلي بمحاولاته إعادة إحياء القطاع العام المنفر للإستثمارات والطارد للمستثمرين وإصراره على الإبقاء على الدعم السلعي المرهق للميزانية ورفضه التوجه للدعم النقدي المباشر (مقترح إبراهيم البدوي) رغم أنه أكثر عدالة بإستصحاب عدة معطيات أكدتها تجربة (بولسا فاميليا) في البرازيل ظل اليسار الراديكالي يستخدم روشتة صندوق النقد الدولي كفزاعة لقطع الطريق على إندماج الاقتصاد السوداني في الاقتصاد العالمي وهو ما سيقطع الطريق بالضرورة على فرصهم في تطبيق مسار التطور الإشتراكي الموسوم بالعزلة دوليا وبالتالي سيجهض المشروعية الوجودية لليسار الراديكالي كتيار أممي عابر للحدود.

فالشاهد هو أنه ليس هناك روشتة ثابتة وملزمة للصندوق فالروشتات يتم تفصيلها بعد مفاوضات ثنائية تستصحب فيها الموارد المتاحة للدولة المعنية و وضعها الاقتصادي وحتى القروض نفسها التي يقدمها الصندوق للدول متعددة من ناحية الشروط ولك الحق كدولة في قبولها أو رفضها.. صندوق النقد هو مؤسسة دولية مثلها مثل اليونسكو واليونيسيف ومن حقنا الإستفادة من قروضها لتحريك عجلة الانتاج وتأهيل البنيات التحتية المنهارة والايفاء بمستحقات السلام الأمر الذي لا يتعارض مع استعادة الاموال المنهوبة و محاسبة الفاسدين ولا أجد أي تفسير للربط بينهما كأنما صندوق النقد يشترط عدم محاسبة الفاسدين أو ترك الأموال المنهوبة!!!

كل الاقتصادات الناشئة في العالم تلقت قروض الصندوق في مرحلة من مراحل نهضتها الاقتصادية بما فيها الصين بكل إمكانياتها و مواردها المهولة وبنياتها التحتية الممتازة وحتى روسيا طلبت بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي الدعم الفني والمالي من مؤسسات التمويل الدولية وإستدانت 10 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لإنعاش الإقتصاد الروسي ولولا دعم مؤسسات التمويل الدولية لروسيا لما إسترد الإقتصاد الروسي عافيته.

لا أنكر أن هناك بعض الدول لم تستفد من القروض وأصبحت عبئا عليها بسبب غياب الشفافية والمحاسبة في الدول المعنية مما أدى لتوجيه هذه القروض إلى مشاريع غير مدروسة ولا تعطي أي عوائد إنتاجية أو ما يسمى بالمشاريع القومية الكبرى وهي من أمراض الحقبة الإشتراكية الموروثة لدى بعض الدول التي طبقت الليبرالية جزئيا.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.