آخر الأخبار
The news is by your side.

والحُزنُ إذا اتَّسَقَ … بقلم: فتحي الضَّو

والحُزنُ إذا اتَّسَقَ … بقلم: فتحي الضَّو

تسع سنوات مضت على رحيلك المُفجع (السنة في اللغة دلالة على الشدة والجدب والقحط). لكأنما كانت يوماً أو بعض يوم. هكذا خُيِّل لي. لأن كل شيء قابع في مكانه مثلما تركتينه بالأمس القريب. خزانة ملابسك ما تزال بذات النسق الذي تحبينه، أحس بها وكأنها تهفو إليك وتستميحك عُذراً أن ترتديها. لربما نالت الوحشة من أمرها رهقاً، تماماً كحالي.
عِطرُك المُفضل لم يبرح قارورته بل لم يبرح مكانه، فليس ثمة ما يدعوني لذلك بعد غيابك، ولكنني على ثقة أنك كنت سوف تفعلين كونك مغرمة بتغيير الأمكنة. فأنا أعلم مدى مقتك وبغضك الروتين القاتل. الغريب في الأمر أنني أشتم رائحة ذلك العطر في كل أرجاء الأمكنة، أين ما حللت. لكن في واقع الأمر ما ينبغي أن يكون ذلك غريباً، فلطالما نصبت عيناى له شركاً في النوم عندما يعُزَّ تصيدُّه، أو كما قال الحُصري القيرواني.
حقيبة يدك ذات اللون البني تجلس مستكينة في ذات المكان بعدما أرهقها ترحال المرض. ومن عجب أن وجودها في تلك الزاوية جعلها في مرمي بصري، تنظر إليَّ أينما يممت وجهي. أشعر كأنها بمثابة (الصندوق الأسود) الذي يحفظ أسرار الطائرات بعد سقوطها. لكنك لا تملكين أسراراً تحتاج لفك طلاسمها، فقد كنت كتاباً مفتوحاً يغري غرائز محبي الاستطلاع كلما اقتربوا منك بحثاً عن سر تلك الابتسامة الوضيئة في خضم حصار الخطوب.
الحقيقة أن تلك الحقيبة تحتوي أوجاعك التي صاحبتك حتى أوان الرحيل لدنيا الخلود. مذكرة مفخخة بمواعيد الأطباء التي تكاثرت وملاحظات لا شك أنك استلهمتها من الحديث معهم. لم أعجب من ذلك لأنني أعلم مدى دقتك، والتي كنت أحاول أن اقتطف منها قبساً يفسح لي مكاناً بين الناس. وما زلت أكابد في ذلك، فما جدواها بعد أن غادرت سفنك تلك المدائن التي مناراتها وهج مقتليك. فماذا سيصنع الملاح مع ما خالطه الدهر؟
تلك الحقيبة أو الصندوق الأسود كما اسميها، تضم شاهداً آخر على معاناتك الصامتة، علبة مستديرة مقسمة على أيام الأسبوع، بحيث تضعي في كل يوم عدد الحبات التي ينبغي تناولها، ذلك من باب الحرص الذي أنت أهلاً له برغم دقتك التي أعلم. تلك الدقة التي تابعتك حتى الرحيل، فأنا أزعم أنني رأيتها عندما كنت تكابدين النزع الأخير، وكأنك تقولين للموت هلم فقد هيأت لك نفسي.
على عكس ما هو معهود بين النساء، لم تحتو تلك الحقيبة على أي من أدوات الزينة. أيضاً ذلك ليس بغريب فأنا أعلم بغضك لها وحبك على أن تظهري بذاك الوجه الصبوح الذي لا يحتاجها، فكراهية التجهم والنفور من العبوس كان زينتك، وهذا ما أحاول أن اقتفي به أثرك، لا غرو فقد تركت لي ما لن أضل بعده أبداً، كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: الواقعية والتفاؤل.
أبعد هذا تسألين عن حالي؟ فأنا مثل كل شيء تركتينه خلفك. ما زلت ذاك الكائن الذي لا يعرف ليله من نهاره. الكائن الذي يحلم بوطن يقف عارياً كما الحقيقة في انتظار الذي يأتي ولا يأتي. يقتات الحلم نهاراً والصبر جهاراً. تعلمين أنني وعدتك بأنه حال سقوط الدجاجلة الملتحين، سوف أقف على شاهد قبرك وأزف لك البشرى. ذلك بالفعل ما نثرته على سمعك العام الماضي، ولا شك أنه نزل عليك برداً وسلاماً في قبرك.
كم كنت أتمنى أن نحتفي به معاً، فقد كان ذلك المصير الذي تواصينا عليه معاً، والحلم الذي نذرنا له عمراً، والهدف الذي لم ندخر له جهداً إلا وطرقنا بابه. فأنت قد عملت لذلك في صمت بليغ، دون منٍ أو أذىً، تماماً كحال الذين لا يرجون جزاءً ولا شكوراً. كانت لك فلسفة عميقة في كيفية حب الأوطان، ما زلت استلهم بريقها الذي لن يخبو رغم وعثاء السفر. فثمة بقية في مشوار الألف ميل، ولكنني على ثقة بأننا بالغوه ولو بشق الأنفس.
لكأني بك تسألين عن بناتنا وأبنائنا، هم في حرز أمين كما وعدتك. كنت أظن أنني أرعاهم لأدرك خطل توهمي، إذ هم من بات يرعاني. تفاصيل حياتهم لا تخفى عليك، فأنا على يقين أنك تعلمينها، وما التوفيق الذي لازمهم في حياتهم إلا بفضل رضاك عنهم. وتعلمين أنهم يذكرونك كأنك بينهم. لكأنما ذهبت لقضاء أمرٍ ما وقلت لهم إنك ستعودين حالاً.
عندما يفيض بهم الدمع والشوق معاً، يذهبون إلى قبرك بسرور لا يخفى على الناظرين. وهناك يجثون عند قدميك، ويتعلقون برقبتك ويلثمونك قبلا تغريك السلام، ثمَّ يشرعوا في قراءة سورة (الإسراء) التي ارتبطت بك وطالما كانت رفيقتك في رحلة المرض حتى الرحيل. أصدقك القول إنني ما زلت أبحث عن سر ذلك التعلق الذي استعصى عليَّ حله كلما تلوتها.
يخيل لي أن ملائكتك إن سألتني ماذا أريد منك الآن؟ سأجيبهم بلا تردد أتمنى لو تنهضين ولو لبضع ثوان، لأذر في سمعك حديثاً لم يطرق أذنك من قبل. فكم يحاصرني الندم أحياناً على كل ثانية فرطت فيها دون أن أصغى إليك وأرهف السمع. لم أكن أعلم أنك سترحلين هكذا مثلما ترحل الغيمة مع السحاب، فرغم إيماني بجدلية الموت والحياة، لكن كم يوجعني أن الحياة معك كانت قصيرة، تسرب فيها الحلم بغتةً وهو نطفة، بعد ما منينا النفس باكتماله بشراً سوياً.
يا إلهي أليس لهذا الحزن من آخر؟!
أخر الرثاء: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!
faldaw@hotmail.com

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.