آخر الأخبار
The news is by your side.

نحو وطنٍ سودانيٍ بلا أطرافٍ مهمشة  (3)

نحو وطنٍ سودانيٍ بلا أطرافٍ مهمشة  (3)

بقلم: د. عوض الجيد محمد احمد

 

مقدمة: أشرنا في جزءين من هذا المقال إلى أن ضعف الأداء الانتقالي وعجز حكومته عن تلبية ضرورات ومتطلبات الحياة الأدنى للشعب ، يمكن أن يخفف من وطأتها أن تقوم السلطات الانتقالية بوضع الأسس واللبنات لرؤية مستقبلية للبلاد ، تحتوى خططا مرشدة وقواعد هادية ومحكَمة تنير الطريق للبلاد فيما بقي من عمر الانتقال، وفيما يليه من حكمٍ قد ينتهي بحكم عسكري جديد- لا قدر الله- إن استمر تخبط هذا النظام كما تخبط السابقون، حينما ملأوا البلاد ضجيجاً وهدروا هدير الجمل البارك -كما يقول المثل السوداني. وقد جاءت الإنقاذ نتاجاً لهذا الخور السياسي والهدير الأجوف والجعجعة من غير طحنٍ. غير أن الإنقاذ -بكل أسف – تصرفت في الشأن العام وفي أمانة الوطن ومواطنيه تصرف الدود الذي وقع على جملٍ انكسرت رجله في الفلاة، بينما فر  رعاته مرعوبين حين سمعوا صدى جعجعة أنفسهم في الظلام. 

وقد وضحنا في الجزءين السابقين من المقال أن السودان ستتفلت أعظم ثرواته، وهي الإنسان والزروع والضروع، كلما اشتد الصراخ والضجيج الأجوف دون طحنٍ، وكلما تركنا الأقاليم والمناطق ، وكل مواطن، يحل مشاكله الخاصة والعامة باجتهاده وجهده. واقترحنا ونقترح تحركاً أقوى بقدر الإمكان لتلبية حاجات الناس الحيوية، مع الحرص على وضع لبناتٍ لخطط طويلة المدى لحفظ ديمغرافيا الوطن وثرواته ضمن معالجات تحقيق الاستقرار البشري العصري في كل الأقاليم والمناطق حواضر وأريافاً.

واقترحنا -ضمن تلك المعالجة- انتقال العاصمة الإدارية إلى شمال كردفان لنؤمن انتقال الإدارة العليا إلى قلب الهامش الوطني الأكبر ، بدلاً من زحف الهامش على العاصمة، وإخلاء الثغور والأرياف. فشمال كردفان يحده الغرب، والوسط، والشمال، والجنوب، وغرب العاصمة المثلثة، وكلها مناطق مهمشة بشكلٍ أو آخر. واقترحنا تشييد العاصمة القومية بمواصفات عصرية من حيث الذكاء، ومن حيث الأمان البيئي، بما يجعلها نموذجاً لمدننا المستقبلية كافة. واقترحنا عواصم جديدة للولايات بمواصفات العاصمة المقترحة لفك أسر المدن العتيقة وخلق نماذج عمرانية مواكبة للزمن ولمتطلبات الإنسان المعاصر.  إن هذا التحدي كبير للغاية ولكنه حاسم. وإن العظائم كفؤها العظماء.

خطة لإيقاف النزف في ثروتنا الثانية وهي الزروع:

السودان بلد زراعي بامتياز. ولكنه مع ذلك بلد تتهدده المجاعات ويتهدده التصحر ، الذي يزحف بشراسة جنوباً. فلا غرو أن ترى الرياح السافية تنقل الرمل والحصى بضراوة جنوبا، وأنت في طريقك لكوستي أو لسنار. والغزو الصحراوي ليس جديداً. وأحسب أنه منذ الثلاثينات من القرن الماضي أصدر الحكام البريطانيون في السودان طوابع بريدية عليها عبارة :

(الغابات توقف زحف الصحراء).

وفي جهودهم للمحافظة على الأراضي الصالحة للزراعة والسكن في السودان جلبوا أشجار (النيم) من الهند مع شجرة (المانجو)، وجلبوا أشجار (المسكيت) من شيلي. إذن فالمحافظة على ثروتنا وموردنا الزراعي ليست ترفاً حتى لو  توفرت الأراضي الصالحة للزراعة، وتوفرت السقيا من السماء ومن سطح الأرض وجوفها. ذلك أن الصحراء تقضم كل عام قضمةً كبيرة من أخصب الأراضي. ولكنها لا تشبع ولا يتوقف زحفها. وهنالك ثلاث مسارات لتخطيط طويل النفس ورصين للحفاظ على ثروتنا الزراعية وتنميتها لتواكب حاجاتنا للطعام والإطعام والذي يعنى بدوره ترسيخ أقدامنا في التصدير  الزراعي. 

المسار الأول: خطة لتأهيل مشاريعنا الزراعية القائمة:

إن المشاريع القائمة الكبرى مثل مشروع الجزيرة والمناقل وغيرها قد تعرض بعضها- والله أعلم- للتدمير المتعمد من قبل الإنقاذ لأسباب سياسية، بسبب انتماء أغلب سكان هذه المناطق لأحزاب الأمة والوطني الاتحادي (وفروعهما) مع وجود قوي فاعلة لليسار  ضمن قيادات بعض هذه المشاريع. وأيا كانت مبررات التدمير المنهجي الكبير ، والإهمال الذي أصاب المشاريع القومية الزراعية، فلا بد من وضع خطط جريئة وطموحة وطويلة النفس لإحيائها وتشغيلها وفق تكنلوجيا العصر الحديث. فشبكة الترع والقنوات التي تمتد على عشرات الآلاف من الأميال لا بد من تبطينها وفق خطة زمنية ووفق منهجية محكمة.

عصر الحداثةوسيغني التبطين عن الصيانة والتنظيف بالـ(كراكات) كل عام أو عامين. كما أنه سيوقف نمو الحشائش التي تغلق هذه الترع والقنوات باستمرار وتنشر البعوض والبلهارسيا والأمراض الباطنة. وسيمنع التبطين كذلك الهدر المائي الناجم عن التبخير لاحتباس الماء بالحشائش، وبسبب كسر الترع هنا وهناك ، مما يغلق الطرق ويزيد في نشر البعوض والحشرات، ويهدر ملايين الأمتار المكعبة من المياه، ويسبب نقصا في ري بعض المزارع و(الحواشات). وستصبح المياه أنقى وأنظف وأكثر صحيةً للناس والحيوانات. وإذا نجحنا في عملية التبطين خلال عقد من الزمان في كل مشاريع البلاد المروية فإن صيانة الكباري على تلك الترع والقنوات ستكون أسهل وأقل تكلفة بكثير.

ولا بد من الانتقال بالزراعة لعصر الحداثة في تخطيط متكامل يوائم حياة المزارعين والعمال الزراعيين والحيوانات المرتبطة بحياتهم ويعالج مشاكل الإنتاج الكلية من الري والتقاوي والزراعة ومكافحة الآفات والحصاد والتصدير أو التسويق. ويجب أن تشمل خطة التطوير طويلة المدى كل الولايات والمناطق فتحدد الدولة لكل ولاية 5-10 مشاريع زراعية لإنتاج المحصول الأفضل والأنفع في الولاية أو المنطقة وتتم دراستها بشكل مهني احترافي. وتطرح هذه المشاريع للاستثمار المحلي أو الخارجي وفق أفضل المواصفات والشروط وعلى رأسها وجوب استخدام العمالة السودانية الخالصة أو شبه الخالصة، وبالذات من أهل المنطقة أو الولاية المعنية، وأن ينتفع المواطنون بنسبةٍ من المنتج، مع اشتراط نقل وتوطين المعرفة والتكنولوجيا حيثما لزم.

المسار الثاني في مورد الزرع: بدء حملة تشجير واسعة لإحياء الغابات وتفعيل جهود وقف الزحف الصحراوي، واستدرار القطر من السماء. فالغيث ليس حياةً للإنسان وحده بل كذلك ل(ترليونات) من الكائنات الحية -مرئيها وغير مرئيها- تعيش على الماء وتنتظر الغيث كما ننتظره وتنتفع بالغابات والأشجار كما ننتفع بها. إن السودان بحاجة لحملة زراعة ثلاثة-اربعة مليارات شجرة خلال عشرين عاما. ولحسن الحظ لا نحتاج لاستيراد أي نوع من الشجر من الخارج. فمئات الأنواع من الشجر ومئات الآلاف من النباتات السودانية ملائمة للبيئة وهي كذلك إما ذات نفع طبي أو غذائي للإنسان أو الحيوان، أو أن خشبها ذو نفع اقتصادي أو علاجي  كبير.

في كتابه (معركة النهر) أكد (وينستون شيرشل)، الذي كان مراسلا صحفيا مرافقاً لحملة (كتشنر باشا) (1996-1999) لفتح السودان أن (الدراويش)- ويقصد بهم المجاهدين السودانيين – بوسعهم العيش على ثمرة (الدوم) والماء، دون أي طعام آخر  أياما وأسابيع. وفي دولة قطر قابلت أحد المستشارين العراقيين الذين يعملون في الدولة. فرح الرجل بلقائي للغاية وأفادني بأنه يعد السودان وطناً له كالعراق لأن جده (احمد هاشم بك البغدادي) صاحب وقف البغدادي للطب بالخرطوم والذي شيدت عليه كلية الطب بجامعة الخرطوم ، وأهم المرافق الطبية بالعاصمة في القرن العشرين. وقد أخبرني الرجل أن جده كان يجوب البلاد بحثا عن الأشجار والنباتات الطبية بحكم عمله كطبيب أعشاب.

ورغم ترحاله من بغداد إلى الشام ومصر وبلاد عديدة أخرى ، فقد وجد في السودان ضالته فاستقر  فيه – رغم جوه الملتهب- واتخذه موطنا من سنة 1900 حتى وفاته في 1933 ودفنه في مقابر فاروق. رحمهما الله تعالى. فأشجارنا من التبلدي والحراز والطندب والهجليج والدوم والسدر والنخيل والنيم والكافور والسلم والسمر والسيال، وعموم أشجار السرح، والهشاب والطلح وشجيرات القضيم والكركديه (الانقارا) والسنا مكة وعشرات أو مئات أخرى غيرها من الأشجار والشجيرات والنباتات، هي ثروات مهملة. وكلها إما تمثل غذاءً للإنسان والحيوان، وإما أنها تحتوى مواد علاجية فعالة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها، بالإضافة للظل وتنقية الأجواء. وأذكر أن كبارنا كانوا يحكون عن نباتات تحيِد سم العقارب في دقائق معدودة ونباتات أخرى تشفي من (الأزمة الصدرية) في أيام. هذا مع أشجار ونباتات أخرى كثيرة ذات فوائد لا تخفي، مما يجعل تغطية السودان بالغابات واجباً حياتياً لازما ، وليس ترفاً ولا ترفيهاً. ومعلوم أن الحشائش والخضرة والكائنات الحية تتبع الغابات تلقائيا، كما يتبعها الهواء النقي ويتصيدها السحاب الماطر، ويقصدها طالبو الاسترواح ومحبو الطبيعة من كل مكان.

المسار الثالث في مورد الزرع: هو  إعادة تأهيل المحميات الطبيعية القائمة وزيادتها وتحديثها لتكون مصدرا لعيش النبات والحيوان وتشغيل المواطنين خاصةً في مناطق وولايات هذه المحميات الطبيعية. لقد طال تشرد الإنسان السوداني، وتشرد كل الكائنات الحية من نبات وحيوان مما أنعم الله به علينا لنكون به من أثرى الأمم، فصرنا بأوهام الثروات الناضبة من أفقرها وأكثرها ضياعاً. استهوانا الجري وراء سراب حياة الترف المؤقت التي أفرزتها الاكتشافات البترولية التي شرقت وغربت وصارت تحرك السياسات، وتتحكم في القرارات الدولية التائهة في أتون صراعات دول الهيمنة الطارفة والتليدة مما أفسد البر والبحر ومن عليهما.

وقد تبدى الآن بجلاء لكل ذي بصيرةٍ أن لله كلمةً يوشك أن يقولها، بعد أن أمست قيادة الدنيا تتقلب بين راشٍ ومرتشٍ ورائش بينهما. وفي الأطراف مطبلون يقتاتون من فتات الاثنين. والطريف أن ذلك كله صار مهناً وحرفة وتخصصاً يدرس وتنال عليه الشهادات العليا.

وفي الخلاصة: لا بد من فتح الاستثمار الأجنبي في هذا المسار أيضاً، مع الحذر كل الحذر من عصابات الأثرياء الدوليين والمحليين الذين يعرفون كيف يأكلون كل شيء ويرمون الفتات لعملائهم من المطبلين، بينما البلاد والولايات والمناطق ومواطنوها يزدادون فقراً ومواردنا تزداد استنزافاً. ولا بد من مضاعفة استثماراتنا في المورد الزراعي عموماً مع الحرص والتحوط، لكل ممارسات تلحق ضرراً لا يمحي أثره بالأرض أو الإنسان، نتيجة الاستثمارات والمستثمرين الزائفين- وما أكثرهم. والكل يذكر كيف كانت بعض المشاريع الزراعية لا تعني أكثر من منحة لمحظوظ لقطع الأشجار، لبيعها فحماً، مع الصيد الجائر لكل ما يدب على الأرض من حيوان، أو يطير فوقها من طائر.

خطة لإيقاف النزف في مواردنا الثالثة وهي الضروع وتنميتها:  

تتكامل تنمية مواردنا الحيوانية مع تنمية مواردنا الزراعية بشكل كبير. ولكنها أيضا بحاجة إلى مشروعات خاصة بثروتنا الحيوانية لمضاعفة أعدادها، وتحسين أنواعها، وتعظيم الجدوى منها. لا بد من مضاعفة أعداد الحيوانات الأليفة لضرورتها لعيش الإنسان، وغير الأليفة لضرورتها للحياة، حيث لم يخلقها المولى الكريم عبثاً. ولا بد من تعظيم النفع منها، أليفةً وغير أليفة. فالحيوان ليس لبناً فقط، ولا لحماً فحسب، ولا جلداً لا غير. فالنمور والتماسيح و(العين سيت) التي نقتلها لنصنع من جلدها (مراكيب) أو (سياطاً) يمكن أن نؤمَنها في محميات تدر ملايين الدولارات على البلاد. وقس على ذلك الغزلان، والطيور، والجاموس، والكثير من الحيوانات في البر والبحر والجو. ولنتدبر كم من المياه الجارية على ظهر الأرض والتي تقتلع وتهدم كلما يعترض طريقها في الخريف ثم تصير الأرض يبابا لباقي العام؟ كم منها يصلح لنقيم عليه سدودا ينتفع بمائها لباقي العام وينتفع بها للشرب والري وكمزارع للأسماك  التي هي ثروة مهملة كغيرها؟

ليت سلطاتنا الانتقالية تضع خططا تنموية طويلة المدى تعم البلاد بأسرها وتنفع البلاد وقاطنيها نفعاً مستداماً. ولتنفذ منها ما وسعها ولتنير الطريق لمن يرث الحكم من بعدهم. ولنتذكر أنه من أخطر مهددات الاستقرار والسلم الأهلي، ترك الناس يجتهدون حسب الحاجة الآنية في التوسع الزراعي والحيواني والعمراني مما يولد تصادمهم بل واقتتالهم. فالدولة يجب أن تكون هي المنظم لكل الأنشطة الحيوية الاقتصادية والاجتماعية الهامة في الدولة على بصيرة وعن علم ودراسات وحسن سياسة. وقد نجم عن غياب سياسات وإدارة الدولة تفلت وصراعات مات فيها الكثيرون، وفقد الوطن ارواحاً عزيزةً وأموالاً واستقرارا كان أحوج ما يكون إليها.

لقد حفظ المستعمر الانجليزي السلم الأهلي في دارفور منذ عام 1916 ، حين قتل السلطان علي دينار -رحمه الله تعالى- وفتحت فاشر الصمود. ولم يخترم هذا السلم بشكلٍ يذكر إلا في سنة 1966 حين اندلع صراع دامٍ بين المعاليا والرزيقات أيام حكم المرحوم الفريق إبراهيم عبود- رحمه الله وصحبه الكرام. فسياسة الحاكم تفرق الناس أو تجمعهم. ونحن بأمس الحاجة لمن يؤلف القلوب، ويوحد الناس ولا يتاجر بخلافاتهم.

وفي الختام:

أناشد السلطات الانتقالية – مدنيين وعسكريين- وشعب السودان العظيم ألا يضيعوا فرصة تحديد المسار الاستراتيجي للوطن وأهله نحو تنمية شاملة مستدامة تحفظ ثرواتنا ومواردنا الغالية وتعيدنا لسكة الوطنية الصادقة والعيش الكريم. كفانا الجدل والصراع والبحث عن داعم خارجي لهذا التوجه أو ذاك ممن لا دين لهم ولا خلاق، أو ممن لا يفقهون من الحياة إلا ما تبثه وسائل الإعلام والملتميديا الموجهة الحديثة والناطق الرسمي باسم الشيطان في أكثر الأحيان. لنبحث عن مقومات الوفاق الداخلي بين فئات الأمة ومكوناتها، وليأتِ الشقيق العربي، وغير العربي، بعد ذلك مستثمراً على أسسٍ معلنةٍ ومدروسة بوعي ومهنية وتحت مراقبة دقيقة، لتخدم الوطن وأهله قبل كل شيء ولتحقق للمستثمر -مواطناً كان أو أجنبياً- ما يصبو إليه من النفع الحلال غير المنهوب، ولتوظف الملايين من شباب الوطن المشردين في الداخل والخارج بعد أن بيعت ثروات وطنهم بالدعاوى الهلامية والشعارات الكاذبة، وقبضوا السراب من وراء ذلك.

والله الموفق 

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.