آخر الأخبار
The news is by your side.

لا يَستقِيْم الإنتِقَال إلا بإِصلاح الأحزاب (3-3) … بقلم: محمد عبدالله ابراهيم

لا يَستقِيْم الإنتِقَال إلا بإِصلاح الأحزاب (3-3) … بقلم: محمد عبدالله ابراهيم 

أن كافة عمليات التغيير التى حدثت في بلادنا جاءت فطيرة وتخللتها عجز وفشل في إدارة الدولة، و إن بلادنا اليوم في أمس الحاجة إلى مشاريع جديدة وأسس جديدة للعمل السياسي، وذلك لأن الإشكالات المتمفصلة في الأحزاب والتنظيمات السياسية أحدثت تعقيدات وصُعوبات عديدة عقعدت عملية الإنتقال وأدت إلى إفرازات سالبة وعقيمة طغت على حياة الناس إقتصادياً وإجتماعياً وزجت بالحياة السياسية في بلادنا نحو الإنسداد.

وبلا شك أن هذا يدل على أن أحزابنا وتنظيماتنا السياسية لم تتعلم شيئاً من عِبَر ودروس الماضي رغم  التجارب السياسية العديدة والمواقف المخزية منذ مؤتمر الخريجين عام 1938م والذي كان يسعى إلى توحيد نضالات الطبقة المتعلمة ضد الإستعمار والقطاعات المتعاونة مع المُستعمر حيث كان مواقف بعض الخريجين متباينة بين المصالحة ومهادنة الإستعمار والتعاون مع القيادات التقليدية مما أثر ذلك على نتائج إنتخابات الخريجين عام 1943م وذلك عندما تدخل الزعماء التقليديين في عملية التصويت وحددوا خيارات الخريجين.

أن الصراع السياسي الحالي بين مكونات الحكومة هو ليس من أجل قضايا التغيير والاهتمام بمعالجة مشاكل ومعاناة الشعب، وإنما هو صراع من أجل السلطة وتوسيع دائرة النفوذ السياسي، وهو أس البلاء ومصدر الخلل الرئيسي في التعقيدات التى تشهدها الساحة السياسية في البلاد، ولن يخدم الثورة ولا يحسن الأوضاع الإقتصادية والظروف المعيشية للمواطنيين العاديين، وإن مكونات الحكومة الانتقالية وكآفة الأحزاب والتنظيمات السياسية هى أقل قامة من ثورة ديسمبر المجيدة، وعلى الرغم من مرور عامين على الثورة وسقوط النظام إلا انه للأسف الشديد لا زال الشعب السوداني يطالب بتحقيق نفس المطالب التي كان ينادي بها قبل قيام الثورة؛ من تحسين للأوضاع الإقتصادية والظروف المعيشية والخدمية.

وان الأحزاب والتنظيمات السياسية وقوى الثورة حتى الآن لم تستطيع أن تنتقل من مرحلة الإحتجاجات إلى مرحلة تحديد الأولويات والأهداف ناهيك عن إنجاز مهام الإنتقال وتوفير الأمن والإستقرار، وان طموح الشعب السوداني ليس مختصراً على تكوين الحكومة وإكمال مؤسسات الدولة وتحسين الأحوال الاقتصادية وظروف المعيشة فقط، وإنما المحافظة على المنجزات التي تحققت مثل رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وتنفيذ السلام والإنفتاح على العالم الخارجي وبناء علاقات مع دول ومؤسسات دولية وبناء وطن أكثر ازدهاراً يقوم على الحرية والعدالة والسلام والديمقراطية والمواطنة بلا تمييز، ويجد فيه كل مواطن نفسه، وان تتاح فرص عادلة ومتساوية للجميع؛ في التعليم والتنمية والخدمات والصحة والتوظيف في كآفة مؤسسات الدولة. 

أن عملية الانتقال الديموقراطي يعتبر المدخل الرئيسي لتحقيق التغيير الشامل في البلاد، ودونه لا يمكن إحداث إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي، وهو عملية في غاية التعقيد تحتاج إلى تقديم تضحيات كبيرة وتنازلات مقدرة من قبل قوى الثورة والتغيير تمكنها من الوصول إلى أهداف واضحة لقيادة الفترة الانتقالية ورؤية مشتركة لمقاومة القوى القديمة ومراكز نفوذها والتصدي على مجموعات المصالح الشخصية وأصحاب الإمتيازات التاريخية، وبحكم التجارب الدولية فإن عملية الإنتقال الديمقراطي يؤدي إلى إحداث تغييرات جذرية في بنية هياكل ومؤسسات الدولة والمجتمع، وينهض بها على مستويات أكثر عدالة وتطور، وتُحسّن من مستوى مصالح الأفراد والمجتمعات وترفع نسبة وعيهم بالحقوق والواجبات.

وما حدث في إسبانيا والبرتغال وعدة دول أوروبية هو خير دليل؛ حيث تمكنت البرتغال من الإنتقال إلى الديمقراطية  في 1974م عندما أسقطت نظام الإسطادو نوفو العسكري الدكتاتوري عبر ثورة سلمية أطلق عليها اسم ثورة القرنفل،-“1” والتي بدأت بتمرد عسكري من قبل أفراد القوات المسلحة أصحاب الرتب الصغيرة الذين كانوا معارضين لنظام اسطادو الإستبدادي ، ولقد تزامن تمردهم مع حملات مقاومة شعبية غير متوقعة قام بها المدنيين حيث خرجوا إلى الشوارع واختلطوا مع الجنود المتمردين على الرغم من مناشدات النظام التى تطالب المواطنين بعدم الخروج من المنازل، إلا أنهم خرجوا بالآلاف في الشوارع وصنعوا ثورة أسقطت النظام، ولم يتم إطلاق أي رصاصة في هذه الثورة التى عرفت بإسم ثورة القرنفل، وذلك نسبة لقيام الناشطة البرتغالية سيليستي كاييرو بعرض القرنفل على الجنود وحذا المواطنين حذوها عندما خرجوا إلى الشوارع يحتفلون بسقوط نظام الإسطادو نوفو الديكتاتوري وكانوا يحملون القرنفل وقاموا بوضعه في بارول البنادق وعلى ملابس الجنود.

واسقطت الثورة نظام إستادو نوفو الذي يعتبر أطول نظام استبدادي في أوروبا الغربية، وعمل النظام الجديد على تفكيك الإمبراطورية البرتغالية وأطلق سراح المعتقلين السياسيين وعمل على صياغة دستور جديد أعاد للبرتغاليين الديمقراطية ووضع أسس سليمة لعملية التحول والإنتقال الديمقراطي في البرتغال، ولم يتوقف المد الثوري عند البرتغاليين وحدهم بل سرعان ما إمتد ليصل الجارة إسبانيا، وذلك نسبة لمجموعة من السمات التاريخية والقواسم المشتركة اجتماعياً وسياسياً بين الشعبين البرتغالي والإسباني، حيث ظهرت مجموعات داخل الجيش الإسباني تعارض السياسات الديكتاتورية لنظام فرانسيسكو الدكتاتوري، وتطالب بالإصلاحات.

وايضاً هنالك مجموعات أخرى مدنية سياسية ظهرت تطالب بالديمقراطية والتغيير السلمي، ويعتبر ادولفو سواريث أول رئيس وزراء منتخب ديمقراطياً في إسبانيا بعد دكتاتورية فرانسيسكو،-“2” ويرجع له الفضل في نقل إسبانيا من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وحققت إسبانيا إنتقال ديمقراطي حقيقي عندما فتحت حكومة ادولفو الأبواب واسعة للحوار والنقاش المؤسساتي الموضوعي حيث شارك فيه كآفة التنظيمات والمكونات السياسية، وعلى الرغم من وجود بعض الجماعات اليمينية واليسارية المتطرفة “أنصار فرانكو” أو أنصار إسبانيا الفرانكوية-“3” والذين كانوا يشكلون خطرا مستمراً لعملية الإنتقال الديموقراطي نسبة لتوغلهم داخل مؤسسات الدولة والمؤسسة العسكرية، إلا أن حكومة ادولفو سواريث استطاعت أن تحقق إجماع وطني شامل نتيجة للتوافق والتعاون الذي تم بين كآفة المكونات السياسية التى شاركت في صياغة بنود الدستور والذي تم المصادقة عليه في 1978م.

ولقد رسخ الدستور مبدأ استقلال القضاء وإصلاح القوانين، ومن أهم مضامينه هو كفالة الحريات الشخصية والكرامة الإنسانية، والغاء عقوبة الإعدام والسجن المؤبد وتحريم التعذيب والاعتقال التعسفي، واشاع الحريات العامة السياسية والمدنية وحرية التعبير والصحافة وحق التظاهر، وايضا تبني الدستور نظام انتخابي قائم على أساس التمثيل النسبي وتم الفصل بين إجراءات التحقيق وإجراءات المحاكمة في القضايا الجنائية، كما تبني نظام لامركزي شبه فيدرالي يتيح للمقاطعات الحكم الذاتي والاعتراف بخصوصياتها المختلفة اجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ووضعت القوات المسلحة تحت سيطرة المؤسسات المدنية وحصر إعلان حالة الطوارئ بين البرلمان والحكومة، ولقد أرسى الدستور أسس مكتملة وسليمة لعملية الإنتقال وعبد طريق الديمقراطية لدى الإسبان.

 وفي بلادنا أتاحت ثورة ديسمبر المجيدة فرصة عظيمة إذا ما تم استثمارها بشكل أمثل ستسمح بتشكيل وعى سياسي قومي قادراً على تجاوز الخلافات السياسية من خلال تراكم الخبرات، ويمكن أن تقود إلى خلق إجماع وطني شامل يضع بلادنا في مسار الإنتقال السليم، ولا سيما ان الأحزاب والتنظيمات السياسية أبان ثورة ديسمبر شكلت تحالف سياسي عريض استطاع أن يقود الثورة ويسقط النظام، ومن المؤسف بعد سقوط النظام أن نرى أحزابنا وتنظيماتنا السياسية التى كانت مع الثورة وصنعت التغيير هى نفسها غارقة في أساليبها القديمة، ونتيجة لخلافاتها الداخلية فشلت في إستلام السلطة من المجلس العسكري واخفقت في وضع خطة وبرنامج سياسي وأهداف واضحة لإدارة الدولة في الفترة الانتقالية، وأصبحت الأحزاب والتنظيمات السياسية تمارس ما ظلت تعيبه على النظام البائد وتنتهج نفس أنماط سلوكه السياسي وتعمل من أجل الهيمنة وتحقيق المكاسب السياسية والحزبية.

وإن الأزمات التي تعاني منها بلادنا اليوم والتى خلقت عدة تعقيدات سياسية واقتصادية واجتماعية غيّمت على الساحة السودانية، هى أزمات سياسية ناتجة عن غياب القيادة السياسية الموحدة وانعدام الرؤية السياسية الشاملة في البلاد، وذلك نسبة لعدم الوضوح الفكري وضعف المسؤولية الوطنية لدى أحزابنا وتنظيماتنا السياسية وفشلها الزريع في إدارة الحوار والإختلاف السياسي فيما بينها، وهذا نتاج طبيعي لعملية التعصب السياسي والفكري والتمسك في الرأى وعدم احترام وقبول آراء الآخرين، فكان ينبغي على أحزابنا وتنظيماتنا السياسية أن تكون نموذجاً لقبول آراء الآخرين المختلفة ومثالاً لإحترام الديمقراطية، وأننا لا يمكن ان نحقق إنتقال ديمقراطي حقيقي في ظل عدم وجود ممارسة ديمقراطية داخلية على مستوى الأحزاب والتنظيمات السياسية وهى في الأساس تفتقر لأبسط مقومات الإنتقال.

ولا يستقيم أن تنادي الأحزاب والتنظيمات السياسية بترسيخ الديمقراطية في هياكل ومؤسسات الدولة والمجتمع في حين أن الديمقراطية نفسها غائبة داخل مستوياتها الحزبية والتنظيمية، وبالتالي لا يمكن أن نحقق تحول ديمقراطي وإصلاح سياسي على مستوى الدولة بإستخدام أدوات وآليات سياسية هى في حد ذاتها في حاجة ماسة للإصلاح، وأن أزمة القيادة التى تعانى منها الدولة هى نتاج طبيعي لأزمة القيادات السياسية على مستوى الأحزاب والتنظيمات السودانية، كما أن سلوك هذه القيادات هى التى ساهمت في افراز واقع سياسي فوضوي في البلاد، ويكاد ان يكون السودان هو الدولة الوحيدة التي يوجد بها كم هائل من الأحزاب والتنظيمات السياسية مدنية ومسلحة وجيش جرار من السياسيين، كما ان معظم هذه المكونات لا تمتلك رؤى ولا مشاريع أو برامج سياسية واضحة؛ بينما وجودها التكويني لا يخرج عن شيئين هما الفشل في إدارة الخلاف السياسي داخل المنظومة اوالأطماع الشخصية لمنتسبيها.

ومن الفواجع المؤسفة أن نجد المنشقين الجدد “سواء إن كانوا أحزاب أو تنظيمات سياسية مدنية كانت أم مسلحة” يمارسون نفس السلوك الذي كانوا يبررون به إنشقاقهم، لا سيما أن العديد منها تتبنى مشاريع سياسية واحدة ورؤى وأهداف مشتركة ومع ذلك تفشل في إدارة حوارات أو إقامة نقاشات أو تنسيقات بين بعضها البعض ناهيك عن بناء تحالفات حقيقية واضحة وشفافة. 

إن وجود هذا الكم الهائل من التنظيمات والأحزاب في الساحة السياسية السودانية في حد ذاته يدل على وجود أزمة سياسية تعاني منها البلاد وتتجلى تأثيرها على مجمل الاضاع الداخلية والخارجية، وتشير بوضوح إلى أي مدى تعاني أحزابنا وتنظيماتنا السياسية من أزمات مستفحلة في الممارسة السياسية والديمقراطية، وهو بلا شك يمثل عمق الأزمة السياسية في بلادنا.

إن ثورة ديسمبر المجيدة والتى لا شك إنها تمثل فرصة حقيقية وعظيمة لكل السودانيات والسودانيين محبات ومحبي التغيير والديمقراطية، كنا نأمل في أن تستفيد أحزابنا وتنظيماتنا السياسية من هامش التغيير الذي طرأ على بلادنا بفضلها، وان ترتقي بسلوك الممارسة السياسية الراشدة ديمقراطياً وتعمل جاهدة على وضع بلادنا في مسار الإنتقال الصحيح الذي يحقق أهداف الثورة ويقود إلى التحول الديموقراطي الحقيقي، إلا أنه للأسف الشديد أن القرارات السياسية في العديد من هذه التنظيمات والأحزاب يشيبه الغموض ويميل إلى الشخصانية أكثر من كونه سياسي، ويبني على أساس المصلحة الحزبية والتنظيمية الضيقة.

وان بعض الأحزاب والتنظيمات أظهرت مواقف سياسية متناقضة منذ اليوم الأول لسقوط النظام، وهى تفتقر لرؤية سياسية واضحة، وتتميز بالنزعة الخلافية وعدم القبول بالراي والرأي الآخر دون مسوغ موضوعي وإنعدام الممارسة الديمقراطية الراشدة وبذلك أصبحت تشكل عبئاً ثقيلاً على الثورة وخطراً يهدد نجاح الفترة الإنتقالية، وان ظاهرة الصفاء الثوري وادعاء الحرص على الثورة أكثر من الجميع وتصنيف الآخرين في خانة الخيانة ماهى إلا تكتيكات سياسية ضيقة تهدف إلى إقصاء الآخرين وهى آلية تمكين جديدة ولدت انقسامات واختلافات حادة ضخمت الواقع السياسي وأظهرت أزمة الوعي والسلوك السياسي التى تعانى منها العديد من قوى الثورة الفاقدة لمقومات الممارسة الديمقراطية، ولذلك فإن التنظيمات والأحزاب السياسية السودانية تحتاج إلى مراجعات فكرية وسياسية شاملة، ولا سيما تغيير السلوك وأساليب الممارسة بما يتسق مع أهداف وشعارات الثورة المجيدة، والثورة ليست هتاف وإنما فكرة ورؤية سليمة، ولا يستقيم الإنتقال إلا بإصلاح هذه الأحزاب والتنظيمات لأهميتها القصوى في عملية الإنتقال الديمقراطى.

 

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.