آخر الأخبار
The news is by your side.

كتابات للوطن: مراجعات مفاهيمية عسكرية

كتابات للوطن: مراجعات مفاهيمية عسكرية

بقلم : حمزة محمد الخليفة (الكودابي)

منذ انضمامي لقوات شعبنا المسلحة قبل أكثر من ١٩ عاماً مضت مررت بمواقف عدة داخل هذه المؤسسة العريقة والحبيبة انبأتني عن أخطاء مفاهيمية شنيعة أدخلت ادخالاً إلى رؤوس منسوبيها وهي المفاهيم التي تتعلق بعلاقة العسكر بالسياسة .. فهذه المؤسسة التي كتب لها وفق قانونها هي ووفق الدستور أن تتحلى بأسمى آيات القومية والحياد والابتعاد عن الانتماءات الضيقة لغيرها ولغير الوطن لم يكن منسوبيها كذلك أبداً بل إن فساداً واضحاً في المفاهيم كان يطغى على ممارسات منسوبيها وهو ما اريد توضيحه هنا لأجل الله والوطن.

و كعادتي سألجأ إلى وضع المقال على شكل نقاط استقيها من مواقف تتعلق بالفكرة التي اريد إيصالها وتصحيحها وذلك كما يلي :

١. منذ دخولنا إلى الكلية الحربية طلاباً حربيين فيها ثم طلاباً أيضاً بأكاديمية كرري للتقانة وجهت لشخصي الضعيف ما لايقل عن ثلاث دعوات من طلاب آخرين ينتمون للحركة الإسلامية (أن اركب معنا) اتذكرهم ولعلهم يتذكرون .. رفضت بكل تأكيد لأنني مذاك وبكل جد أرى أن الإنتماء لأي شيء غير الوطن خيانة .. لكن الفكرة ليست هنا إنما الفكرة في الجرأة التي كانت تمارس بها الدعوة للحركة الإسلامية وحزبها داخل القوات المسلحة والاجتماعات التي كانت تعقد داخل وخارج أسوار هذه الكليات بعلم قادتها مع توفير غطاء ملائم لهذه الممارسة الهدّامة .. في الوقت الذي لا يسمح فيه لأي حزب آخر أن يمارس الدعوة لصالحه ويمكن أن تتعرض للرفت دون مبررات إن شكت القيادة مجرد شك في صلتك بحزب غير الحزب المحتل.

٢. ليس بعيداً عن المراجعة الأولى فقد اصطدمت في مناقشاتي الكثيرة لهذا الأمر طوال مدة خدمتي بالقوات المسلحة مع أناس يعتقدون أنه لا بأس أن يمارس الحزب الحاكم (وحده) الدعوة إلى حزبه داخل القوات المسلحة ولا بأس عليه أن يستميل القوات المسلحة لصالحه لأنه الحزب الحاكم وهو (حسب زعمهم) عين ما سيفعله أي حزب آخر سيصل إلى السلطة .. هؤلاء النفر كنا نناقشهم في أمر الثورة فيعبّرون عن رفضهم لها كوسيلة للتغيير ويقولون أنهم يؤمنون بالتغيير لكنه يجب أن يأتي عبر صناديق الإقتراع فقط .. وهم بذلك يناقضون أنفسهم حين يعتقدون أن تغييراً سياسياً يمكن أن يحدث من حكومة حزب إلى حكومة حزب آخر في ظل قوات مسلحة مؤدلجة لصالح الحزب الأول .. فالقوات المسلحة إن لم تعرقل التغيير نفسه من واقع انتمائها للحزب الذي كان يحكم فإنها ستكون عرضة لأن تحال جميعها إلى المعاش ويؤتى بقوات جديدة لا تعارض الحكومة الجديدة وتنازعها الملك لصالح الحليف القديم وهو ما لا يمكن فعله ولا يسقيم عقلاً .. إذن فالمنطق يقول إن فكرة تسييس القوات المسلحة تتعارض تماماً مع فكرة تداول السلطة سلمياً كل أربعة أو خمسة أعوام وعليه لا بد للقوات المسلحة أن تتخلص تماماً من أي ولاءات داخلها لغير الوطن إن كانت جادة في حماية إرادة الشعب والتسليم بما يختاره في كل دورة انتخابية .. بل يجب عليها إجراء مراجعات عاجلة لكل المتحزبين داخلها لضمان خلوها تماماً من كل من يشوه قوميتها .. وكذلك ففكرة الإنتماء للأحزاب نفسها تضعف الإنتماء للوطن وتبعد الفرد العسكري عن قدرته على أخذ موقف محايد وسط صراعات الساسة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

٣. والنقطة السابقة تقودني مباشرة إلى أمر آخر لطالما أثار استغرابي وهو حديث الكثيرين داخل القوات المسلحة عن رفضهم التام لأن يحكمهم الحزب الشيوعي مثلاً او حزب البعث أو خلافه وبعضهم يطلقها معممة هكذا ضد أحزاب اليسار كأنه يصنف نفسه فرداً في حزب من اليمين .. وحين تسأله عما إذا كان ينتمي للحزب الحاكم يجيب بالنفي أو لعله ينكر وهذه لعمري حالة غريبة لفرد عسكري ينبغي له أن ينظر إلى المؤتمر الوطني وإلى الاتحادي والشيوعي جميعهم نظرة متساوية لا طهرانية فيها .. فما جعل العسكري يرضى بحكم الحركة الإسلامية له لا ينبغي له أن يرفض حكم الحزب الجمهوري مثلاً لأنها كلها أحزاب سياسية في النهاية .. وفكرة التكفير نفسها فكرة طائفية استخدمت لاغراض سياسية وابتلع بعض قاصري الفهم هذا الطعم وآخرون يحومون بهذه الدعوات عن بصيرة وتعمد لما اقترفوا من انتماء اعماهم حتى عن بلادهم ومصلحتها.

٤. في مرة كنت كما هي عادتي أتحدث عن الفساد الذي انتشر داخل البلاد وعن فشل الرئيس السابق في حلحلة مشاكل البلاد وعن ضعفه أمام كبح جماح جماعته المتعطشة للسلطة والمال قال لي أحد الزملاء الذين يعلونني رتبة : (كتر خيرو البشير دخلك الجيش وقراك هندسة عشان تجي تنبزو) قالها هكذا وهو لا يعلم أن هذه الفكرة التي تتملك عقله فاسدة من أساسها وقد رددت عليه بالقول أنني كمواطن سوداني بالغ عاقل كامل الأهلية مستوفٍ لشروط الدخول إلى الكلية الحربية لا أطلب من البشير معروفاً لأدخل وانتمي إلى جيش بلادي فلا جزاه ولا جزا حزبه خيراً على دخولي .. القوات المسلحة مؤسسة الوطن وهي ملزمة بأن تكون مفتوحة لكل أبناء الوطن دون تمييز أو محاباة ولا يجب أن يمارس (أي حزب حاكم) سلطة عليها أو أن يعاملها كملكية خاصة به ليقرر من يدخلها ومن يمنع الدخول إليها .. ولا يجب أن يشعر أي سوداني بالامتنان تجاه مؤسسة رضيت به فرداً داخلها ما دام قد وصل إليها بحقه وكفاءته وبمنافسته الحرة لبقية السودانيين .. فهذا المستوى من التفكير يجب التخلص منه تماماً لنتمكن من الوصول إلى القومية المنشودة.

٥. غير بعيد عن النقطة السابقة فقد كنت أعرف لجنة تسمى لجنة الإدخال المركزية نشطت لسنوات مضت في إدخال فئة منتقاة من الشعب السوداني إلى كل القوات النظامية بكل مستوياتها (الضباط والصف والجنود) .. وعرفت كما أعرف إسمي الآن أن المسئولين عن هذا الإدخال هم أولاً (مدنيون) وليسو عساكراً وهم أيضا من منتسبي الحركة الإسلامية تعطى لهم نسبة كبيرة من ارانيك الإدخال لهذه المؤسسات (القومية) ليدخلوا فيها منتسبي التنظيم فقط بعيدا عن المنافسة الحرة مع بقية الشعب السوداني .. وهذه النقطة تعود بنا إلى مفهوم الإمتلاك الذي تعاملت به الإنقاذ مع قواتنا المسلحة بل مع كل القوات النظامية حتى صارت شيئاً من أملاكها تقرر من يدخل إليها ومن يحرم ومن يرفت منها ومن يستمر .. وأهل القوات المسلحة يومئذ لم يكن لهم أدنى حديث أو شعور تجاه هيبة قواتهم التي سلبت وتسلب باستمرار حين وضعت هكذا بكامل جبروتها كقطعة على طبق أمام (المدنيين) من الحركة الإسلامية يقرروا في شأنها .. لذلك لا بد من وقف هذا العبث ويجب أن يكف العسكريون عن التفكير في أن الإنتماء إلى الحركة الإسلامية يعتبر قناعة وإيمان أو تديّن في مقابل أن الإنتماء للحزب الشيوعي أو حزب الأمة يعتبر تحزباً .. لأن الوسطية تقتضي أن ننظر لهذا وذاك على قدم المساواة ونمنعهم جميعاً من العبث بقواتنا المسلحة.

٦. بالرغم من النصوص الواضحة التي تتحدث عن قومية القوات المسلحة وعن عدم حزبيتها إبتداءً من الدستور مروراً بقانون القوات المسلحة حتى قسم الولاء الذي يقسم به الجميع كمدخل لممارسة المهنة العسكرية إلا أنه ورغماً عن كل ذلك استمرأ بعض منسوبي القوات المسلحة المجاهرة بالانتماء السياسي للحزب الحاكم دون أدنى اكتراث بالقانون أو حتى خوف من الحنث بقسم الولاء حتى أنني أذكر أن ضابطاً برتبة فريق ما زال في الخدمة إذّاك كان مرشحاً لرئاسة الحزب الحاكم حسب ما رشح في الصحف دون أن يبادر إلى التبرؤ مما نسب إليه من انتمائه لهذا الحزب .. وهي أيضاً مما يجب مراجعته والتأكيد عليه في مقبل أيام قواتنا المسلحة التي نريد.

ختاماً لا يعتقدن أحد (دون علم) أن حديثنا هذا وليد اللحظة أو أنه نوع من متطلبات المرحلة .. لأنه ليس كذلك إطلاقاً بل هي قناعات ثابتة وراسخة منذ بواكير أيامنا في القوات المسلحة جاهرنا بها ولم نخش في ذلك غضبة أو لوم .. ونكتبها الآن للذكرى والتاريخ وللتوثيق من جانب وطمعاً في إيصال قضيتنا التي ظلنا نجاهد من أجلها إلى كل مهتم يريد المصلحة من جانب آخر.

حفظ الله بلادنا الحبيبة وشعبها.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.