آخر الأخبار
The news is by your side.

الحملة ضد الدكتور عمر القرّاي: المغزي والمرامي!

الحملة ضد الدكتور عمر القرّاي: المغزي والمرامي!

 

بقلم: د. محمّد جلال أحمد هاشم

 

خاتمة المقالات: في الرّدّ على الواثق كمير وفعلة حمدوك النّكراء في طول هذه المقالات ركّزنا على أمرين؛ الأوّل هو كشف نوايا الثورة المضادة متمثلة في “الكيزان” وأتباعهم، ثم جموع النفعيين الطفيلين، الذين اتخذوا من تنصيب مواطن سوداني مؤهل في وظيفة عامة، أي وظيفة عارية، غير دائمة، سوف يتنازل عنها عمّا قريب ــــ رأوا في هذا فرصة للنيل من وزارة التربية والتعليم، ممثلة في وزيرها بروفيسور محمّد الأمين التوم، لا لشيء إلا لأن الوزارة أعلنت عن جوهر سياستها المتمثل في مراجعة المقررات الدراسية لتنقيتها من المواد ذات التحاميل الأيديولوجية التي أدخلها كيزان النظام المباد، بجانب تحقيق مجانية التعليم. أما مسألة التنقية ومراجعة المقررات، فذلك يعني تفكيك أحد أهم معاقل الكيزان. ولكن مجانية التعليم مسّتهم في مقتل، مع آخرين كثر من الطفيليين.

فاليوم يقوم التعليم الخاص بما نسبته 65% من مهام التعليم العام، جراء تراجع المدارس الحكومية بموجب سياسات الكيزان الرامية لتصفية القطاع العام. وتلك كانت سياسة متعمدة من قبل نظام الكيزان. وهكذا وجدوا في تعيين الدكتور عمر القراي في وظيفة مديرة إدارة المناهج فرصتهم للنيل من الوزارة ووزيرها الهمام. فقد رأوا في هذا أمراً إدّا، لمجرد أن القرّاي فكرياً يختلف عنهم. وهكذا شرعوا في حملتهم بالباطل، دون الحق، كما هو العهدُ بهم، مزايدةً وابتزازاً. وقد وقف لهم كلا بروفيسور محمّد الأمين التوم والدكتور عمر القرّاي وقفة الطود الأشم، لم يلينوا ولم ينكسروا أمام هذه الحملة المأجورة القائمة على تأليب مشاعر الناس بالباطل مما عهدناه في الكيزان منذ ستينات القرن الماضي إلى أن سقطت دولة باطلهم عبر ثورة الشعب.

ولكن كم عقدت الدهشةُ ألسنتنا ونحن نرى أحد كتاب ومفكري السودان الجديد، وأحد أقرب الأقربين للراحلين جون قرنق ومنصور خالد، ألا وهو صديقنا الدكتور الواثق كمير، وهو يكتب مقالةً في موقف عمر القرّاي، يبدي فيها ثلاث ملاحظات لا تقف على أي أقدام من الحق والحقيقة، تحت عنوان: “د. عمر القراي: ثلاث ملاحظات حول مؤتمره الصحفي”. أدناه سوف نتناول هذه النقاط الثلاث ونحاول أن نكشف عن حُجّيّتها وإذا كانت تقوم على أي منطق، ثم نحاول أن نكشف عن دوافعها. بعدها سوف نعرّج على قرار رئيس الوزراء عبدالله حمدوك بتعليق مراجعة المقررات الدراسية التي كان المركز القومي للمناهج قد شرع فيها وانتهى منها، أو كاد.

الملاحظة الأولى

تبدأ هذه النقطة بقوله: “ما كان للقرّاي أن يُدخِل نفسه في هذه المعرِكة باختيار وضع هذه اللوحة المُثيرة للجدال”. هذه الافتتاحية وحدها تكشف عن نهج صديقنا الواثق كبير في مقاربة الموضوع. فالقراي ليس هو من اختار هذه اللوحة، ذلك ببساطة لأنه لا يقوم بإعداد أي مقرر بنفسه. القراي هو مدير إدارة المناهج، ما يعني أنه يشرف على كيفية إعداد المقررات ومراجعتها عبر الاستعانة بالخبراء في هذا المجال، كلٍّ في مجال تخصصه. وليس لنا أن نعجب أو نستغرب من الخلل المنهجي في مقاربة الواثق كمير للمسألة كلها.

فهو في فاتحة بيانه يقول:“ظلَّ د. عُمر القرّاي، مُدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي بوزارة التربية والتعليم، يتعرّض لهجوم وكتابات لاذعة من عدّة أقلام وبعض الجهات، في انتقادٍ حاد للتعديلات التي أُجريت على المناهج. ومع ذلك، قامت الدنيا ولم تقعد هذه المرة بسبب لوحة “خلق آدم” المشهورة للرسام الفنّان الإيطالي المعروف مايكل أنجلو، المُلحقة بكتاب التاريخ للصف السادس الإبتدائي. فقد فسّرها بعض المُنتقدين بأنّ هذه اللوحة تُجسِّد الذات الإلهية في صورة رجل يحاول مد ذراعه والوصول للآخر، آدم، بلمس أصابعه” (انتهى الاقتباس).

هذه هي القضية! والواثق كمير ملم بها جيداً، كما نرى. وكان ينبغي له أن يعكس لنا رأيه فيها، ذلك بوصفه أحد الذين ينتمون لخطاب السودان الجديد. فقد وصف القراي هذه الحملة بأنها جزء من حملة منظمة تقودها قوى الثورة المضادة. هذه هي القضية يا سادتي! فماذا يقول عنها الواثق كمير؟ إنه يتملص من مسئولية مواجهتها! فهو يقول: “لا أرغب في الخوض فيما أثارته هذه اللوحة من سجال عنيف من منظورٍ ديني أو أيديولوجي أو سياسي، لا أملُكُ ناصيته، على شاكلة الشجار الذي نشب بين القرّاي والطيب مُصطفى ومُجّمع الفقه الإسلامي”.

كذا! هو لا يملك ناصية هذا السجال العنيف! فهل هذا سجال عنيف حول قضية دينية؟ وهل يُعجزُك أن تخوض فيما هو أيديولوجي، وأنت أنت أستاذ علم الاجتماع الذي يدرّس لتلاميذه كيف أن الأيديولوجيا هي وعي زائف وأنها تقوم بتزييف الواقع؟ هذا سجال سياسي، فهل أنت فعلاً لا تملك ناصيته، أم هو سجال لا تريد أن تخوض فيه؟ ثمّ إيه رأيك يا صديقنا الواثق كمير بأنك قد خضت فيه بالفعل، كما سنثبت لك هذا أدناه؟

الواضح أن الواثق كمير يتملّص هنا من مواجهة القضية ويكتب في صالح فقهاء الظلام والثورة المضادة. وهو إذ يفعل هذا إنما يفعله بوعي تام! لكن لماذا ولمصلحة من؟ أنا شخصياً لا أدري على وجه التحقيق، ولكن ربما كان لنا رأي عن دوافعه من باب الترجيح! الآن دعونا نقرأ ما جاء بخصوص النقطة الأولى.

يقول الواثق كمير في نقطته الأولى: “… فنقرة واحدة على مُحرك قوقل تنقلك إلى وثائق ومجلدات تُنبئك بتفسيرات اللوحة وحمولتها الدينية المُتصلة بخلقِ الإنسان. ذلك، خاصةً وهو يدرك أنّه ومُنذ تعيينه مُديراً للمركز القومي للمناهج أثار جدلاً واسعاً بعد اعتراض بعض الجهات لتسنُّمه هذا الموقع، مما أشعل معارك إعلامية على الورق والأسافير”. وهذا قول ملتبس من عدة وجوه. فهو هنا يناقش ما قال قبل قليل أنه لا يملك له ناصية، ألا وهي المحمولات الدينية للوحة مايكل آنجلو. ثم هو يتورّط أكثر في الحديث عن الحملة الضارية التي قادتها قوى الثورة المضادة والطفيليون ضد أخينا عمر القراي. يقول كل هذا دون أن يكلّف نفسه بمناقشة القضية الأم، ألا وهي لماذا هذه الحملة من أساسها. فهو قد أعفى نفسه بنفسه من مغبة هذه المناقشة.

ولكنه مع هذا يورّط نفسه (عن عمد) في مناقشة الحملة. ولكنه، كونه واعياً لما يفعله، يقوم بتدليس هذا عندما يردفه بقوله “… ماذا كان سيتغير إن وُضِعت لوحة أخرى للفنان مايكل أنجلو تُعبِّر أيضاً عن الفنون في نفس العصر”؟ بهذا، يُضفي الواثق كمير كامل المشروعية للحملة المسعورة ضد اللوحة، وهو الذي وعدنا في فاتحة مقاله بأنه لن يخوض في هذا السجال لأنه لا يملك له ناصية. هو هنا لا يخوض فيه فحسب، بل ويُفتي فيه بما يتماشى مع الحملة الظلامية ضد وزارة التربية والتعليم ممثلة في وزيرها عبر ما ظنوه الحلقة الضعيفة (عمر القراي ــــ لمجرد أنه جمهوري، فتصوروا). وطبعاً جميعنا يعلم بأن هذه الحملة ليست موضوعية ولا تهتم بأي صورة وُضعت في المناهج. فما وضعوه هم بأنفسهم في مناهجهم يفوق هذا سوءاً من حيث القيمة العلمية والتربوية.

وعليه، لو وضعوا أي صورة، أو لم يضعوا أي صورة، فهذه الحملة كانت ستقوم بنفس درجة سُعارها. هذا ما كان ينبغي للواثق كمير، بوصفه كاتب رأي مقروء، أن يتصدى له، لكنه ازورّ عن هذا في يوم الزحف. فهل فعل هذا جبناً؟ لا وأيم الله، وليته تجابن! إذا لكنا عذرناه وأعذرناه؛ فكثيرون هم الذين سقطوا في درب النضال واتّكأوا بأظهرهم وأيديهم على أوهى الأسباب دون أن نقف عندهم. فقطار النضال لا يتحسر على من يترجّل عنه. فالواثق، فيما نعلمه عنه، سابقاً وحاضراً، رجل شجاع وجسور. فماذا اعتراه يا ترى؟ سوف نرى عما قريب ترجيحاً إذ قد استغلق علينا موقفُه!

الملاحظة الثانية

هنا نراه يناقش دفوعات عمر القراي. دعونا نستعرض هذه الدفوعات: تقول وجهة نظر عمر القرّاي إن إسقاط رأيك في اللوحة، ومن ثم الخروج باستقراء بعينه، يخصك أنت دون غيرك. فهم في المركز القومي للمناهج عندما وضعوا مجتزأ لوحة مايكل آنجلو، فعلوا ذلك في سياق استعراض حركة النهضة، كونها كانت متكاملة علماً وأدباً وفلسفةً وحكماً وفناً. ولكن، فقهاء الظلام ذهبوا إلى اتهام القرّاي (لاحظوا: لم يتهموا الذين قاموا بصياغة المنهج، بل مديرهم) بوصفه هو من وضع هذه اللوحة (بينما هو لم يضع اللوحة بنفسه ولم يقم بنفسه بتعديل أي مقرر أو مراجعته)، ومن ثمّ عمدوا إلى تحميل عمر القرّاي مسئولية استقرائهم الخاص، وهو أنها تحوي صورة الذات الإلهية. هذه هي دفوعات عمر القرّاي، وهي دفوعات منطقية للغاية.

وهذا ما كان يجب على الواثق كمير التصدي له بوصفه كاتب رأي راتب، وبوصفه ينتمي لفكر السودان الجديد.

فماذا فعل الواثق (بكل ثقة)؟ قال الآتي في معرض تعليقه على حجة عمر القراي: “حقيقة، لم أجد هذا المنطق مُستساغاً ولا ينسجم مع جوهر أطروحة المركز القومي للمناهج وفكرة تعريف التلاميذ بتطوّر العصور والحضارات الإنسانية”. حسناً! لاحظوا معي أن حجة القراي هي ما قمنا بتلخيصها، وهي مقنعة وقوية للغاية. ولكن صديقنا الواثق يرى أن هذه الحجة لا تستقيم مع جوهر وفكرة المركز القومي للمناهج. إذا، عليه أولاً أن يوضح لنا رؤيته حول منهج وفكرة المركز القومي للمناهج حسبما ينبغي، ثم بعدها عليه أن يوضح لنا مفارقة حجة القرّاي لهذا المنهج. إلا أنه لا يفعل هذا، بل يعمد إلى القفز حول عدة حبال ويمارس نوعاً من الجمباز الفكري Intellectual Gymnastics الذي لا ينبغي له أن يفعله وهو في سنه هذا. فالوقوع عن حباله هذا يمكن أن يعني نهايته (يا بعد الشر).

يبدأ الواثق مرافعته حول رأيه فيما ينبغي أن يكون عليه منهج وفكرة المركز القومي للمناهج بتساؤله: “فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل فعلاً من المُجدي تربوياً أن نعرض على التلاميذ في هذه السن المُبكِّرة نموذجاً لفن الرسم أو النحت على مِثل هذه اللوحة المُعقّدة، المُتجذِرة في الفلسفة والفِكر؟ وهل لهم القُدرة على استيعاب فكرة مايكل أنجلو عن الخلق”؟ إنه هنا يتساءل، دون أن يجيب على السؤال، ودون أن يكشف لنا عن وجهة نظره فيما ينبغي للمنهج وفكرة المركز القومي للمناهج أن يكون عليه. إلا أن ما نأخذه عليه في مقولته هذه (بجانب مآخذ أخرى كثيرة) هو أنه لا يزال يورّط نفسه في مناقشة السجال الذي وعدنا بدءاً بأنه لن يتورّط فيه لأنه لا يملك ناصيته. فها هو يملك ناصية فرد وبسط حجج قوى الثورة المضادة، دون أن يقول ولو كلمة واحدة مفيدة في القضية مثار النقاش (الحملة المسعورة ومراميها النهائية).

ثم من أين للواثق أن يتكلم كلام الواثق الخالي بأنه ليس من المصلحة التربوية أن يبدأ تعليم صغار التلاميذ الفنون؟ فما لا يتعلمه التلاميذ في الصغر، لن يتعلموه في الكبر! هذه إحدى قواعد التخطيط التربوي السُّلّمي (لاحظوا “السُّلّمي” بمعنى أن يكون كعتبات الدرج يصعدها التلميذ صغيراً من مرحلة ما قبل التعليم المدرسي لينتهي بالتخرج في الجامعة). الواثق يرفع هذه الأسئلة بكل ثقة، كونها ليست أسئلة استفهامية تستوجب الإجابة، بل هي أسئلة استنكارية تحمل موقفاً بعينه. لكنه، في بهلوانياته هذه لا يقدم لنا أي قاعدة علمية معروفة في علم التربية، وبالأخص في علم تربية الفنون.

جانباً عن كل هذا، من الذي قال للواثق أن إيراد هذا المجتزأ من هذه اللوحة القصد منه تمليك التلاميذ فكرة مايكل آنجلو عن الخلق؟ فالكتاب ليس مخصصاً للفنون، بل للتاريخ. ثم إن الكتاب لم يورد اللوحة كاملة (وهذا من حقه كما سنرى)، كما لم يقصد منها مناقشة فكرة الخلق، بل استعراض جوانب من حركة النهضة. من قاموا بجرجرة الموضوع إلى هذه النقطة التي يناقشها الواثق (ما يعني أنه يملك ناصيتها) هم فقهاء الظلام الذين حاولوا أن يصوروا هذا الكتاب كما لو كان كتاباً حول فكرة خلق آدم وكيف قام مايكل آنجلو بتجسيد الذات الإلهية. هذا ما فعلوه، وهذا ما سايرهم فيه الواثق كمير بكل ثقة.

فلماذا فعل هذا. هو قطعاً لم يكن لا في ماضيه ولا في حاضره من “الكيزان” أو السلفيين أو كان له أي انتماء لفقهاء الظلام. فلماذا يفعل هذا؟ سوف نرى ترجيحاً؛ وإذا صدق ظنُّنا عندها سوف نتمنى لو أنه كان ينتمي لهذه الجماعات الظلامية. ثم ألا يعرف الواثق كمير أن الكيزان لا يرسلون أطفالهم إلى المدارس الحكومية، بل إلى المدارس الأجنبية التي تقوم بتدريس المناهج الغربية ومن ضمنها مادة الفنون الجميلة حيث يبدأون أوّل ما يبدأون بكل الجداريات العارية لعصر النهضة؟ ليس هذا فحسب، بل هم يقضون إجازاتهم في أوروبا، ومنهم من يصطحب أطفاله معه. وقد قابلتُ بنفسي بعضهم في بعض متاحف أوروبا بأطفالهم. فلماذا وكيف يأكلون “راس النّيفة” ثم يجزعون فرَقاً ويتملكهم الخوف عندما يأتوا للعيون؟ هل كل هذا فات على صديقنا الواثق؟ معقولة؟

وأعجب من كل ما قاله الواثق، بكل ثقة، في ملاحظته الثانية، بخصوص استشهاد عمر القرّاي بأن نفس هذه اللوحة موجودة في مقررات جامعة أمدرمان الإسلامية، هو قوله: “وللمُفارقة، استشهد د. القرّاي، ضمن استعراضه هذا، بالجامعة الإسلامية حيث تُدّرس هذه اللوحة ويتناقش الطُلّاب مع الأساتذة حول تفاصيلها الفنية. فهل يضع د. القرّاي تلميذ الصف السادس الابتدائي مع طالب الجامعة في مرتبة واحدة، وعلى نفس المُستوى من الإدراك والمعرِفة؟ في رأيّي، أن منظور د. القرّاي غير سليم”.

فالحقيقة التي نعلمُها جميعاً أن هذه الحملة المسعورة لم تكن بسبب أن الكتاب المعني مخصص لسن بعينها، وبالتالي لا يجوز لمن هم في مثل هذه السن أن يتعرضوا لكذا وكذا. هذه لم تكن حجّتُهم بالمرّة! ويشهد بذلك ما قاله الواثق بنفسه من حيث استعراضه لرفضهم لفكرة الخلق مزاعمهم بخصوص تجسيد الذات الإلهية .. إلخ. هذه هي الحجة التي قامت بموجبها قيامة فقهاء الظلام! ولهذا استشهد عمر القرّاي بما قام هؤلاء الفقهاء الظلاميون أنفسُهم، ممثلين في نظام الإنقاذ، في مناهج جامعة أمدرمان الإسلامية بالذات. لماذا؟ لأنها قبل كل شيء تمثل قلعةً لهؤلاء الفقهاء الظلاميين، ثم ثانياً لأنها تحمل اسم الإسلام. فإذا كان استعراض لوحة تتكلم عن الخلق من باب تدريس عصر النهضة محرّم لهذه الدرجة، فمن باب أولى أن يكون تدريس نفس هذه اللوحة من باب تدريس الفنون أكثر تحريماً.

هذه هي وجاهة استشهاد عمر القرّاي! فكيف فات كل هذا على صديقنا الواثق فقام بكل ثقة بتقديم مناقشة لا تقف على قدميها بالمرة، بل تطير كما تطير الفراشة فتحملها أي موجة ريح إلى حيث لا ترغب ولا تشتهي؟ كيف ولماذا؟ الواثق كمير من القلائل الذين يزنون كلماتهم بميزان من ذهب، كما يُعنون باللغة وما قد تحمله من إشارات وتنبيهات. فكيف فاته كل هذا؟ ولماذا يقول ما يقوله ويسير في خط فقهاء الظلام والطفيليين؟ إذن، إنّ وراءَ الأَكَمَةِ ما وراءها، وسنرى!

الملاحظة الثالثة

إزاء حجّة عمر القرّاي القوية والبسيطة في آن بخصوص القائلة بأن اللوحة الواردة في الكتاب (بوصفها مجتزأً للوحة الأصلية) ليس فيها ما يخدش الحياء. وما فعله فقهاء الظلام عندما ذهبوا للإنترنت ينقّبون عن اللوحة الأصلية بما تحمل من مناظر عري هو نوع من الافتئات والمزايدة ما كان لها أن تنطلي إلا على السُّذّج والبسطاء بحيث يعتقدون أن مناظر العري واردة في الكتاب المدرسي المعني. هذه هي حجة عمر القرّاي، وهي حجة قوية ومنطقية، بجانب أنها تكشف عن سوء طوية من قادوا، ولا يزالون يقودون، هذه الحملة. فماذا تُرى ما قاله صديقنا الواثق كمير عن منطق عمر القرّاي؟ دعونا نرى! يقول الواثق كمير في معرض ردِّه على حجة عمر القرّاي ما يلي: “شاهدت واستمعت جيداً للمؤتمر الصحفي كاملاً، وصُدمت بالمنطق الذي ساقه د. القرّاي وأفزعني تعبير “القطع” الذي يُضرس السامع في سياق الحديث عن الفنون والرسوم، فهو تعبيرٌ من العسير هضمِه [هضمُه] في هذا المَضمار [المِضمار].

أقدمت عليه لجنة المناهج، وبصم مدير المركز عليه، هو (إعادة تحرير) لصورة، مبثوثة على الإنترنيت، دون واعز أدبي في زمنٍ تسود فيه معاني الملكية الفكرية”. والله هذا ما قاله! صدّقوا أو لا تصدّقوا! أولاً، وقبل أيّ شيء، علينا أن نلاحظ أن الواثق هنا لا يرد بالمرة على حجّة عمر القرّاي. فهو يقفز فوقها، ضمن الجمباز الذي قرر بكل ثقة أن يمارسه فوق رؤوسنا، ومن ثمّ يمضي إلى موضوع آخر لا يملك له أيّ ناصية. أي حقوق أدبية يتباكى عليها الواثق كمير للدرجة التي تصطكُّ فيها أسنانُه حتّى تسبّب له “ضَرَس” الأسنان؟

والله إني لأتعجب من الواثق إذ يحاول أن يصوّر لنا نفسه جاهلاً بأحد قواعد الملكية الفكرية، ألا وهي القاعدة القانونية التي تقول بأن الملكية الفكرية تسقط بعد مرور 50 عاماً على وفاة صاحب الملكية الفكرية. أيّ ملكية فكرية لمايكل آنجلو الذي وُلد في عام 1475م وتوفّي في عام 1564م؟ أي بعد أكثر من 407 عاماً من نفاد فترة ملكيته الفكرية. واليوم يمكن لأي شخص أن يقوم بإعادة رسم لوحة مايكل آنجلو، بل ويقوم ببيعها دون أن تجرؤ أي جهة في العالم على مقاضاته. لماذا؟ لأنها مجّانيّة الحقوق Copyright-free.

ثم كيف يمكن أن نقتنع بأن الواثق كمير لا يعلم أن اجتزاء أي لوحة من قبيل حصرها في تفصيل detail بعينه هو أمر ليس فقط مشروعاً وقانونياً، بل هو موازٍ للاقتباس في البحوث الأكاديميّة، شريطة أن يقوم الشخص بذكر المرجع كاملاً. وهنا المرجع هو لوحة مايكل آنجيلو عن خلق آدم الموجودة في كاتدرائية سانت بول في الفاتيكان. فهذه التفصيلة عمل مشروع وقانوني، وكلي ثقة في أن الواثق يعلم هذه المعلومة جيداً. فلماذا يقول ما يقول؟ وكأنما قرر الواثق كمير، بكل ثقة، ألا يقطع علينا حبل استغراشاتنا (استغراب + اندهاشات)، واصل في خاتمة ملاحظته الثالثة التورط في مناقشة الموضوع الذي وعدنا، بدءاً، بأنه لن يتورط فيه، ببساطة لأنه لا يملك له ناصية.

لماذا يفعل الواثق كل هذا؟ الظاهر سِرّو في حمدوك!

الآن دعونا نحاول أن نجد تفسيراً منطقيّاً واحداً، ذلك من باب التّرجيح (على الأقل لنا نحن شلة ومعارفه وأصدقائه اللصيقين)، لما يفعله الواثق؟ في الحقيقة، لم أتمكن من فهم دوافع الواثق كمير عندما أراد أن يستأنس برأيي (كعادتنا متى ما كتبنا شيئاً جديداً) حول هذا المقال. ثم هممتُ بالرد عليه بمجرد أن قام بنشر مقاله. ولكن صرفتني عن ذلك الشواغل. ثم نما اليوم إلى علمنا جميعاً أن رئيس الوزراء عبدالله حمدوك قد قام بتعليق مراجعة المناهج، ومن ضمنها الكتاب المدرسي مثار الحملة الصليبية الغاشمة. وهنا انجلى لي الأمر ترجيحاً! فما أعلمه يقيناً عن الواثق وحمدوك هو تواصلهما عبر النت مفاكرةً واستشارةً، فضلاً عن عمق العلاقة وقدمها. وما أعلمه يقيناً عن موقف حمدوك من حملة فقهاء الظلام إزاء وزارة التربية، بما فيها الكتاب المعني، هو أنه أصبح قبل فترة قاب قوسين أو أدنى من أن ينكسر أمام هذه الحملة، وهذا ما كان متوقّعاً منه. فكما قلت عنه، وظللت أردّده آلاف المرّات دون أن يقتنع به النّاس هو أن حمدوك هذا ينطبق عليه المثل القائل “مرمي الله ما بترفع”.

باقتباس جملة غرّاء قالها لي أحد الرّجال اللصيقين بحمدوك عن طبيعة الرجل وعدم ثوريته أن الثوري يركب المخاطر risk-taker، بينما حمدوك في طبيعته، فيما نعلمه كلنا، يتحاشى المخاطرrisk-inverter . ولكم صدق الرجل! فقد قام بتلخيص ما صرفنا فيها كلاماً كثييييييراً لإثباته، ألا وهو أن الثوار في وادي، وحمدوك في وادي آخر، وليس هناك ما يجمعهم بحمدوك إلا “المقلب” الذي قامت قوى الإمبريالية العالمية “بتدبيس” ثورتنا العظيمة، غير المسبوقة، في حمدوك، ذلك بتحضيرهم له وتلميعه عبر الحسابات الوهمية في مواقع التواصل الاجتماعي (بالضبط كما قامت روسيا “بتدبيس” أمريكا في المخبول ترامب). فهم الذين تمكنوا من عقد الاتفاق معه لأن يكون رئيس وزراء الفترة الانتقالية بنهاية شهر مارس 2019م وعمر البشير لم يُخلع بعد. هذا فضلاً عن علاقاته الوطيدة بنظام الإنقاذ. وقد كانت أحد شروط الدبلوماسيين الغربيين الذين عقدوا معه هذا الاتفاق هو أن تقوم سياساته على تنفيذ مشروع الهبوط الناعم الذي قطعته ثورة ديسمبر المجيدة.

فالربيع العربي قد علّم الغرب أن الثورات الشعبية تنجح في إسقاط الأنظمة، دون أن يكون في مؤخرة ذهنها أي فكرة عن الشخص الذي سيقود الفترة الانتقالية. هنا قرّ رأيُهم على أن يقوموا بتحضير الشخصية التي سوف تشغل مقعد القيادة وتلميعه عبر ملايين الحسابات الوهمية في وسائط الخدمة الاجتماعية إلى أن يبدو وكأنه معبود الجماهير. أي أن يملأوا فراغ الوعي الثوري (مقابل الفعل الثوري العالي) بجائحة من التفكير الرغبوي تمثلت في مقولة “شكراً حمدوك”. وطبعاً، جميعُكم يمكن أن يرادع المقالات التي كتبناها في هذا الحمدوك (سوف تُنشر في كتاب عما قريب).

حمدوك (والقلم في يده) يتآمر من وراء حجاب لإقالة القرّاي

من ناحية أخرى، فإنني أعلم يقيناً أن حمدوك قد فاتح وزير التربية والتعليم فيما يتعلق بعمر القرّاي، ولكن الوزير الهمام وقف كالطود، كما هو العهد به. أكثر من ذلك، قام أحد مساخيط حمدوك بالاتصال بعمر القرّاي ليخبره أنهم بصدد إقالته. فلما علم الوزير بهذا، اتصل بحمدوك وحذره أن يصدُرَ قرارُه هذا منوسباً إلى توصية الوزير المعني بذلك، مشيراً إلى أن عمر القرّاي يؤدي مهامه بصورة أكبر من المطلوب. عندها، كعادته، لجأ حمدوك إلى الكذب الصراح، وهذه إحدى ملكاته الفكرية، يفعلها وهو مبتسم. إذ قال للسيد الوزير بأنهم قد صرفوا النظر عن هذا الموضوع. ثم تحرّك وزير التربية والتعليم الذي لا يخشى في قولة الحقِّ لومةَ لائم، فأدلى بتصريحات صحفية وإعلامية أبدى فيها تمسكه بعمر القرّاي، مستنكراً أن تكون لجهات غير تخصصية أي دور في تحديد كيفية مراجعة المقررات المدرسية!

ردة فعل الحكومة الحقيقية

هنا جُنّ جنون حمدوك الأصلي! أي الحكومة الحقيقية، كما يعلمها كل من يعمل، أو عمل، في مكتب حمدوك. فعلى مقولة إن وراء كل عظيم امرأة، هناك أيضاً “حمدوكة” قوية الشخصية تقبع خلف الكواليس. وأذكر جيداً أيام ترشيح تجمع المهنيين لحمدوك لرئاسة الوزارة ورفضي له (من قولة تيت)، أنني، إزاء إصرارهم وتمسكهم، قلت لهم بالإنكليزي:

• OK! OK! However, if you insist on Hamdok, then it is better to be Mrs. Hamdok rather than Mr. Hamdok!

ففي مواجهة خَوَر الرجل، تصدت “أم القانون” (بالقاف المخفّفة) للمهمة! وكعادتها قامت بالاتصال بنساء المسئولين، ومنهم حرم وزير التربية والتعليم، مستنكرة كيف يمكن للوزير الهمام أن يتكلم للإعلام بهذه الطريقة … إلخ. عندها تملّكنا اليقين بأنّ هناك مؤامرة تُحاك ما بين “القانون” وما بين “أم القانون” بخصوص الرجل الذي لم يُؤذِ في حياته ذبابة، الدكتور عمر القرّاي، وبعده وزير التربية والتعليم، بروفيسور محمّد الأمين التوم، الرجل الثوري الوحيد بحق وحقيقة في كل تشكيلة مجلسي الوزراء والسيادة. ها هو حمدوك الذي لم يجسّد شيئاً كما جسّد الهبوط الناعم والثورة المضادة.

ثم تسامعنا بأن وزارة التربية والتعليم سوف تكون من نصيب إحدى فصائل سلام جوبا، هذه الاتفاقية التي لم تفعل شيئاً، ولن تفعل شيئاً، أكثر من نسف السلام القليل المتبقّي بفضل ثورة ديسمبر المجيدة. إذن، فالمسألة واضحة! انتصر فقهاء الظلام وقوى الكيزان وقوى الرجعية التي لا تريد للتعليم العام (والعالي أيضاً) أن يستعيدا مجدهما بوصفهما أقوى القطاعات العامة الحكومية. وما هذا إلا لأن هذه القوى تريد أن تحافظ على نظام الإنقاذ في بنيته الأساسية دون رموزه الذين في السجون أو غيّبهم الموت، بجانب عدم القضاء على نشاطاتهم الطفيلية. إذن، فحكومة حمدوك تسير حسب الخطة الموضوعة لها من قبل قوى الإمبريالية العالمية التي أتت به وعقدت معه الاتفاقات. وقد تأهّل لهذه المهمة بدءاً من علاقاته المشبوهة بنظام الإقناذ المباد. ثم لا يزال هناك بعض السُّذّج الذين يرددون مقولة “شكراً حمدوك”!

وبعد؛ عودٌ على بدء: لماذا فعل الواثق ما فعل؟

هذا هو السياق الذي كتب فيه الواثق كمير مقاله المقدود من قُبُلٍ ومن دُبُرٍ. بما أعرفه يقيناً مما استعرضتُه أعلاه، ودون أن أجزم بأي يقين لا يداخله الشكّ بخصوص الواثق، رأيتُ أن الواثق كمير قد كتب مقاله هذا كخدمة من تحت الطاولة لصديقه حمدوك. فهو الوحيد من بين جميع كتاب الرأي المقروئين الذي قام بكتابة مقال في هذه القضية دون أن يسلك محجَّتها الغرّاء الواضحة وضوح الشمس رأد الضحى. وبهذا يمكن لحمدوك أن يستشهد بما قاله باعتبار أن موضوع المناهج والقرّاي، قد اتفقت والتقت فيه كلمةُ الجميع، بيمينهم ويسارهم.

ولكن، لدى استلامي تعليقات الواثق على مقالي هذا، ومع نفيه في أن يكون هناك أي تواصل هذه الأيام بينه وبين حمدوك، ثم مع عميق إحساسي بأن مثل هذا لا يشبه الواثق الذي أعرفه جيداً، عندها قرّ الرأي عندي أن ما كتبه الواثق قد خدم نفس الغاية، حتّى لو لم تكن هناك تفاهمات بينه وبين حمدوك، وحتى دون أن يقصد هو ذلك. وهذه عندي كبوة جواد ما كان الظنّ أنّه سوف يكبو يوما. فالواثق، كما سبقت إلى ذلك الإشارة، ممن يزنون الكلام بميزان الذهب. فهو إذ أطلق مقاله في عنان الأسافير ورياحها الأربعة، كان يتوجّب عليه أن يحسب أيّ الرياح سوف تملأ أشرعة مقاله ذلك.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.