آخر الأخبار
The news is by your side.

تداعيات … بقلم: يحيى فضل الله .. مرثية غير معلنة

تداعيات … بقلم: يحيى فضل الله .. مرثية غير معلنة

كنت قد لاحظت ان الستارة وللوهلة الاولي من دخولي الغرفة (14 ) ستحرمني من متابعة تساقط الجليد في ليل مقمر ، كنت لتوي قد أستلمت ورديتي الاولي لحراسة مجنون جديد ، إنشغلت بموضوع الستارة المسدلة علي النافذة الوحيدة في الغرفة التي تطل علي شارع منسي وقديم و أكتفيت بإلقاء نظرة سريعة علي المريض المكوم علي السرير في وضع جنيني ، وضعت حقيبتي بالقرب من الكرسي الذي سأشغله لمدة 12 ساعة تبدا من الساعة الثانية عشر ليلا و تنتهي في الثانية عشر منتصف نهار اليوم التالي.

خلعت معطف الجليد الاسود المؤكد عليه اسم شركة الامن التي اعمل فيها كحارس حرفته بيع خبرته مع السهر ، تخليت عن فكرة نفض المعطف متخلصا من ما علق به من جليد حتي لا ازعج (مريضي) في استرخائه الجنيني ، ألبست الكرسي المعطف ،فتحت حقيبتي و اخرجت سيرميس القهوة و دفتر أدون عليه يومياتي و رواية ممتعة و عصية و مستعصية هي ( مالوي يموت ) للكاتب الايرلندي المحسوب علي اللغة الفرنسية ( صموئيل بيكيت ) ، مترجمة الي العربية و من إصدارات دار الهلال المصرية ،وضعت كل ادوات السهر هذي علي منضدة صغيرة علي يميني من حيث جلوسي علي الكرسي ، جلست علي الكرسي و (مريضي) لازال في إسترخائه الجنيني و حين كان علي ان اتخلص من ربطة العنق السوداء و التي تمارس تضادها علي بياض القميص ، تململ (مريضي) قليلا ، انا لم ار وجهه حتي الان , انتبهت لململته واستطعت ان اخطف لمحة من وجهه و هالني ما رأيت من شرود وأسي و رعب مزمن في نظرة عينيه ، هي نظرة خاطفة التقت فيها عيوننا و لكنها تكفي تماما كي اعرف انني امام مريض مختلف عن المرضي الذين حرستهم من قبل ، ظل (مريضي) يتقلب علي السرير من جهة الي الاخري مع الاحتفاظ بالوضع الجنيني وحين ينقلب علي الجهة التي تمكنه من ان يرأني وانا جالس علي الكرسي و ابدو محايدا جدا ، كان يقذفني بنظرة سريعة و خاطفة فيها كثافة من الشك و الرعب او هكذا خيل لي .

وفي لحظة من بين هذ النظرات تأملت في وجهه ،كانت ملامح وجهه تعلن عن شاب في وسامة طاغية برغم تلك النظرة المتوترة والمتواترة مع الاسي و الشك والرعب ، كان شابا اسمرا وبه قريب شبه بالسودانيين حتي اني خفت من ان يكون (مريضي) سودانيا من سودانيي هذا الشتات ، (مريضي) يتململ و يتقلب علي السرير وانا بي رغبة ملحة ان اخلص النافذة من الستارة كي افتح المشهد علي الليل الكرستالي بالخارج فحبيبات الجليد كانت تتراقص علي ضوء القمر المكتمل في سماء مدينة هاملتون ، تنازلت عن فكرة إزاحة الستارة عن النافذة مؤجلا ذلك الي حين ان يستقر (مريضي) علي حال ولكنه ظل يتململ و يتقلب من جهة الي اخري و فيما بين ذلك الفعل المتكرر يقذفني بتلك النظرة المستريبة تماما في وجودي هنا ، ينقلب الي الجهة الاخري التي هي حائط ، يظل علي هذا الحال برهة من الزمن و ينقلب علي جهتي ، يقذفني بنظرته المستريبة و فجأة و بحركة حادة ينقلب الي جهة الحائط ،حركة حادة اخري ، ينقلب الي جهتي ،نظرة مستريبة ، ينقلب الي الحائط ،يرهة ، ينقلب الي جهتي ، نظرة بها رعب مزمن و متنامي ، ينقلب الي الحائظ ، برهة ، ينقلب علي جهتي ، نظرة تحدق برعب مركز نحوي ، ينقلب الي الحائط وكنت قد لاحظت انه تخلي عن وضعه الجنيني و فرد جسمه الناحل علي السرير ولم اري في حياتي جسدا متوترا مثل جسد هذا الشاب الاسمر الناحل الطويل.

ظل (مريضي) يتقلب و ينقلب بيني وبين الحائط ويقذفني بنظراته المستريبة في متوالية حركية متوترة علي مدي اكثر من ربع الساعة و فجأة همد متمددا علي السرير واضعا كفيه علي صدره و نظره شاخص نحو السقف ، ظل علي هذا الحال فترة حتي انني ظنت انه نام ، مددت يدي ، تناولت السريميس ، فتحت الغطاء ليصبح كوبا ، صببت القهوة وحين كانت القهوة تمارس سيولتها علي الغطاء الكوب نهض (مريضي) بحركة حادة و مفاجئة جلس علي السرير ولمعت عيناه تجاهي برعب غريب ، حول نظره عني سريعا و بنفس االسرعة عاد وقذفني بنظرته التي يشع منها خوف واضح ، حركة حادة تناول بها جك يلاستيكي فيه ماء ، ظل ممسكا بجك الماء وهو ينظر الي ، صب الماء علي كفه اليمني و لشق بها وجهه بسرعة مفاجئة وظل يلشق وجهه بالماء في حركة بطئية حتي ان اللشق تحول الي مسح ناعم بالماء علي الوجه ولم ينس ان يقذفني بنظراته بين مسحة ماء واخري و رويدا رويدا دخل (مريضي) في همهمات ، كان صوته غليظا و مشبوبا بالخوف حد ان تحس يإرتجاف الصوت ، ظل (مريضي) يمسح وجهه بالماء ويهمهم وهو جالس ثم بدأ جسده يسترخي علي السرير و دخلت همهماته منطقة الهمس و دخلت به الهمهمات سرداب طقسي فتمدد علي السرير ، الكفين علي الصدر و يهمهم ويهمهم و يهمهم وتحولت الهمهمات الي لغة لا افهمها ولكنها مألوفة الجرس لدي فخيل لي انه يصلي وان ما اسمعه هي تعاويذ ديانة قديمة و دخلت تعاويذ (مريضي) به الي غفوته فقلت بارتياح فلاقم الي ادوات سهري وكانت قد مرت الساعة الاولي من وريدتي الليلية ، إسترخيت علي الكرسي ممددا رجلي ، رشفت من القهوة التي بردت وانا اتابع همهمات وتعاويذ (مريضي).

تناولت رواية ( مالوي يموت ) و بدأت اواصل القراءة من حيث الصفحة التي وقفت عندها ، تذكرت أمر الستارة و النافذة وتساقط الجليد والقمر المكتمل فنهضت من الكرسي واتجهت نحو النافذة ، ازحت الستارة عن النافذة و ما ان إحتشد نظري بالليل الابيض في الخارج هب (مريضي) في حركة مفاجئة و وقف بطوله الفارع علي السرير مرعوبا ولم يمهلني حتي اقترب منه فقفز من السرير وظل يدور في الغرفة حريصا علي الابتعاد من المنطقة التي انا فيها من الغرفة ، كان مريضي يتحرك في دوائر متوترة وقلقة والغريبة انه لم يكن يصدر اصواتا فقد كان يتحرك في توتر صامت عنيف وكان علي ان اتحرك من مكاني قرب النافذة كي اصل الي الزر الاحمر بالقرب من الباب وهكذا فكلما تحركت خطوة ، فعلا كانت خطواتي حذرة.

كلما تحركت خطوة يزداد توتر (مريضي) و يجاهد كي يمارس حركته الدائرية العنيفة بعيدا عني ،وصلت الي الزر الاحمر وقد اهدرت الكثير من الوقت كي اصله ، اضغظ علي الزر فتأتيني الممرضة الشقراء فتحاول ان تهدئ (مريضي) بانجليزنة ناعمة وحنون و لكن دون جدوي مما اضطرها هي نفسها ان تضغظ علي الزر الاحمر فيأتي اليها ممرضان وتدور معركة صغيرة للامساك ب(مريضي) وهو في هيجانه الحركي الدائري المتوتر و لا استطيع ان اصف الرعب علي وجه (مريضي) حين تم الامساك به ، تم تثبيت (مريضي) علي السرير بمشقة فحقنته الممرضة بحقنة وسرعان ما همد وبقيت اصارع ساعات الليل بادوات سهري مضيفا اليها النافذة التي يطل منها الليل الابيض في الخارج .

فيما بعد العاشرة من صباح اليوم التالي أستيقظت من (مريضي) العيون وظل جسده ممدا علي السرير دون حراك بسبب تلك الحقنة ، كانت نظراته مثبتة علي و فيها ما فيها من ذلك الرعب المزمن ، كان يبدو هامدا ولكن عينيه تسرب الي هذيان دواخله النشط و المتوتر ، تناولت الحقيبة و اخرجت السندوتشات و بدأت أكل و عيون (مريضي) تتابع كل حركة اقوم بها ، انتهيت من الاكل و لملمت البقايا في كيس يلاستيكي ، تناولت من الحقيبة علبة بها (نكاتات) الاسنان وشرعت اخلص اسناني من ما اندس بينها من بقايا الطعام وانا اقوم بهذه العملية التي تتحالف مع الإستغراق و السرحان كنت اختلس النظر الي (مريضي) الهامدة حركة جسمه وعيونه تتابعني بتركيز شديد ، إنتهيت من نكت اسناني ، وقفت و اتجهت نحو سلة القاذورات ،كان (مريضي) يتابعني و حالما قذفت بالعصا الخشبية والتي لايتعدي طولها بضعة سنتمترات في السلة عادت الحياة الي جسد (مريضي) فهب من السرير بحركة مفاحئة كالملدوغ فعدت انا الي الكرسي بينما وقف هو مشدودا مرعوبا و ظل ينظر الي نظرة كثيفة الريبة وينظر الي السلة ، ينظر الي ، ينظر الي السلة ، ينظر الي ، ينظر الي السلة ، تحرك خطوة ، هي خطوة مستريبة ،نحو السلة ، وقف ، نظر الي وانا هامد في الكرسي و متحفز و مستعد لاي حركة مفاجئة ، خطوة اخري نحو السلة ، وقف ، نظر الي نظرة تشع بالشكوك ، حول النظرة نفسها الي السلة , وقف ، نظر الي ، الي السلة و خطوة خطوة حتي وصل الي السلة ، انحني و نظر الي السلة نظرة فاحصة و دقيقة و في انحناءته لم ينس ان ينظر الي و ظل ينظر الي والي السلة ، انحني اكثر و بحركة حذرة وبطيئة ادخل يده في السلة واخرج (نكاتت) الاسنان ، قربها الي وجهه ، حدق فيها ملينا و نظر الي نظرة حادة وظل لفترة يحدق في (نكاتت) الاسنان ، يتفحصها جيدا و يقذفني بنظراته المستريبة ، تم إنقاذي من حالة (مريضي) العبثية هذي حين جاءني زميلي الذي يتناوب مع في حراسة هذا المريض و بمجرد وصول زميلي لاستلام ورديته تحرك المريض نحو سريره بحركة بطئية يحكمها تحديقه الغريب في( نكاتت) الاسنان.

كانت شركة الامن التي اعمل معها كحارس قد جدولتني لحراسة هذا المريض النفسي لمدة ثلاث ورديات و يبدو ان الشركة قد لاحظت انني راكمت خبرة لا باس بها في مهمة – مراقبة مريض – لذلك كنت دائما ما انفذ هذه المهمة – مراقية مريض – في كل مستشفيات مدينة هاملتون ولكن مع (مريضي) هذا تختلف هذه المهمة باختلاف نوع المرض فقد كنت قبلها اراقب المرضي العاديين ولكنني اعمل هذه المرة في قسم الامراض النفسية بمستشفي جامعة ماكماستر التعليمي بمدينة هاملتون ، كنت قد وصلت الي الغرفة (14) قبل موعد ورديني بنصف ساعة وبي فضول ان يحكي لي زميلي المتناوب معي علي حراسة هذا المريض حكايات و حكايات عنه فاخبرني ان المريض دخل في حركته الدائرية المتوترة فتم حقنه فاسترخي ممددا علي السرير و لم ينس زميلي ان يصارحني بانه توجس خيفة من هذا المريض ونظراته المستريبة وأسر لي بانه سيدعي انه مريض حتي يتخلص من مغبة حراسة مريض قد يشكل خطرا مفاجئا علي حارسه ، جهزت ادوات سهري للوردية الثانية و كان (مريضي) في استرخائه الجنيني ولكن بعدها احتشد المشهد بالنظرات المستربية والتي يشع منها الرعب و كثرة الململة و التقلب علي السرير ولم يدخل في هذه الليلة في الهمهمات و التعاويذ ولكنه بدلا عن ذلك ظل يهذئ ويحادث نفسه او يتحدث مع اشخاص يراهم هو وحده او يستحلبهم من ذاكرة تخصه هو.

انقضت ساعات الليل ودخل علينا الصباح انا و (مريضي) ولم اكرر طبعا عادتي السخيفة في استعمال (نكاتت )الاسنان وكان لي شرف محاولات كتيرة و متعمدة كي احاول التواصل مع هذا الشاب الاسمر الوسيم ولكن دون جدوي وفيما بعد التاسعة جاء الي (مريضي) زائر و منه عرفت ان هذا الشاب اثيوبي جاء الي كندا قبل ثلاث شهور فقط من معسكر للاجئين بكينيا عبر اصدقاء له سبقوه الي كندا و الشاب يعتبر نجم من نجوم كرة القدم وكان الزائر يحدثني عنه بحب و أسي غريبين ، انتهت ورديتي وبدلا عن مجئ زميلي المتناوب معي حسب الجدول لحراسة ومراقبة هذا المريض استلم مني الوردية زميل أخر.

وصلت الي الغرفة(14) واستلمت ورديتي الثالثة في الموعد تماما وكان (مريضي) في وضع الاسترخاء الجنيني المعتاد بالنسبة لي مع بداية كل وردية ولكن جئت هذه المرة وانا اكثر تعاطفا مع (مريضي) بسبب حكايات زائره عنه و قررت ان امارس نوع من التحدي تجاهه ، قررت ان اقتحم عالمه باي وسيلة وباي اسلوب مستفيدا من خبراتي في الدراما ولكن باءت كل محاولاتي في الاقتحام والتواصل بالفشل الذريع ، اولي تلك المحاولات هي انني حاولت ان اصافحه في يده و لكني لم يستجب و صفعني بنظراتة المريبة و لاحظت حين كنت متحركا نحوه مادا اليه كفي بالسلام انه انكمش علي نفسه مبتعدا عني مرعوبا و لاحظت رعشة في بدنه ، حاولت ان ارد علي نظراته المستريبة بإبتسام واضح ولكن دون جدوي ، تحدثت اليه بالانجليزية ،لم يرد علي وظل يحدق في بتركيز غريب ،حاولت و حاولت و حاولت وحين توغل بنا الليل والسهر المواتر قفزت الي ذهني فكرة غريبة ،تذكرت عشق الاثيوبين لاغنيات الموسيقار والمغني العذب محمد عثمان وردي وقتها كان (مريضي) قد دخل في طقس لشق الماء علي الوجه و من ثم تدرج الفعل الي المسح والهمهمات و التعاويذ فما كان علي الا ان استغل حالة الطقس هذي فوجدتني ادندن باغنية لها نصيب كبير في عشق اهل اثيوبيا لوردي و انطلق صوتي بالغناء متخللا نسيج طقس (مريضي)

(( ما تخجلي

ياالسمحه

قومي

إستعجلي

شفقتي قلبي

كل يوم تدللي

اديني كلمة

و سامحيني واعذري ))

تداخلت انغام وردي مع تعاويذ (مريضي) ذات الاصداء الدينية القديمة فكان ان لاحت لي بداية إبتسامة في تلك العيون المستريبة ذات الرعب المزمن ، لم اصدق نفسي و لكني كنت عمليا جدا فلم اتوقف عن الغناء و الترنم بموسيقي وردي

(( ما خلاص كبرتي

وليك تسعتاشر سنه

عمر الزهور

عمر الغرام

عمر المني ))

و ظللت اترنم واغني و اغني واترنم حتي اتسعت الابتسامة في وجه (مريضي) وبان اشعاعها الجميل في عينيه و بدأ نوع من الالفة و التالف بيننا حتي انني حملت الاغنية وذهبت بها اليه في السرير و جلست بجانبه اغني واترنم و بدلا عن التعاويذ الدينية القديمة منح (مريضي) صوته الي الاغنية وانطلق صوتي و صوته بالغناء والترنم عاليا عاليا حتي ان الممرضة الشقراء داهمت الغرفة لتجدنا انا حارس المريض والمريض نستعذب اغنية وردي

قبل إنتهاء ورديتي جاءني الطبيب النفساني المسئول و طلب ان اقابله في مكتبه

فذهبت اليه حدثني عن حالة (مريضي) وطلب مني بتهذيب جم ان اقبل باستمرار ورديتي مع (مريضي) لمدي اسبوعين واذا وافقت علي ذلك سيقوم هو بمكاتبة الشركة حول هذا الامر واضاف ان ورديتي ستتغير الي وردية نهارية ، كل ذلك لا لسبب سوي اني اعرف اللغة التي يتحدثها هذا المريض.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.