آخر الأخبار
The news is by your side.

تأملات رمضانية… الآية 143 من سورة البقرة

تأملات رمضانية… الآية 143 من سورة البقرة

بقلم: د. هاشم غرايبه

يقول تعالى في الآية 143 من سورة البقرة: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا”.

ربما يتساءل البعض عن سبب الاستهداف الدائم لأمتنا من قبل قوى البغي والظلم، فطوال التاريخ ظلت الأمة الوحيدة التي لم يتوقف العدوان عليها في أية حقبة.

ربما نجد الإجابة عند التأمل في هذه الآية.

ففي قوله تعالى: ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ” [آل عمران:110]، بيّن مقومات هذه الخيرية وعلتها، لكن هذه الآية حددت المهمة والغاية لها.

وللتأمل في العلاقة بين العلة والغاية، أورد العناصر التالية:

1 – في مجيء الفعل الماضي (جَعَلْنَاكُمْ) وبعده الفعل المستقبلي (تَكُونُوا) المسبوق بلام التعليل، هنالك ربط جدلي بين ما أوجده الله في هذه الأمة وبين المهمة التي أوجدها لأجلها.

2 – جعل الله هذه الأمة وسطاً، له عدة معانٍ: فالتوسط المادي هو توسط مكاني وزماني، فموقعها أختاره الله لها في مركز العالم القديم (ملتقى القارات الثلاث)، لتكون متصلة بباقي الأمم ويسهل عليها التواصل معها وتبليغها الرسالة.

وتوسطها الزماني في أن الرسالة أنزلت عليها بعد أن تم إعداد البشر بسلسلة من الرسالات السماوية، فنضجت مفاهيمهم، وتقدمت معارفهم، الى الدرجة التي أصبحت عقولهم مستعدة لاستيعاب المعاني العظيمة لهذا الدين المغطي لكل احتياجات البشرية للفترة الباقية من عمر العالم.

ومن معاني التوسط هو النضج والإكتمال، فالطرفان من كل أمر عادة ما يكونا متطرفين عما هو في الوسط، أحدهما فج لم يكتمل نضجه، والآخر تجاوز النضج الى الذبول وذهاب النفع.

كما أن من معاني الوسطية الإعتدال في التناول والعمق في الفهم، بعيدا عن المغالاة والإفراط من ناحية، وبعيدا عن التراخي

والتفريط من الناحية الأخرى.

3 – (جَعَلْنَاكُمْ): تعني أنها مواصفات أوجدها تعالى فيهم، ولم يكتسبوها طلبا وابتغاء، لذا فهي طبيعة لازمة لهذه الأمة، لا مغير لها.

4 – لا شك أن ذلك ما جعله إلا لغاية جليلة، وهي أن تكون حكما نزيها على غيرها من الأمم، وذلك بأن تشهد لها أوعليها، في الدنيا وفي الآخرة.

5 – في الدنيا عليها تبليغ ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يكونوا كبعض بني إسرائيل الذين أخفوا ما أنزل الله عليهم، استئثارا لأنفسهم بالخير “وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ” [البقرة:76].

6 – وعند الحساب في الآخرة، ومن عدل الله أنه لا يُدخل النار أحدا إلا بعد أن يعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه، ويسمع للشهود.

فالأمم السابقة جميعها قد بعث الله فيها نبيا أو أرسل لها رسولا “وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ” [فاطر:24]، يطلبه للشهادة، ولدحض حجة الذين ينكرون منهم أنه بلّغهم، يطلب شهادة أمة محمد، فيشهدون له ولو أنهم لم يدركوا زمنهم، لأن خبر ذلك جاءهم في القرآن، والقرآن كلام الله لا ينطق إلا بالحق، وكفى بالله شهيدا.

7- أما الأمم التي جاءت بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمسؤولية تبليغها تقع على عاتق المسلمين معاصريهم، إلا أنه من رحمة الله بهم، أن أصبحت الوسائل متاحة، ولم تعد هنالك بقعة قصية، ولا أناس لا يمكن الوصول إليهم ولو بوسائل التواصل، لذلك ففي هذا العصر لا حجة لمحتج بأنه لم يأته نذير، ولا عذر لمسلم بعدم أدائه لواجب التبليغ.

لهذا كان المسلمون شهداء على غيرهم من كل الأمم، قديمها وحديثها.

أما السند القوي والحجة الأبلغ للدعاة، فهو القرآن الكريم، فقد حفظه الله مصانا من أي تحريف الى آخر الزمان، وهو متاح لكل طالب، وقد قيض الله من ترجمه الى كل لغات البشر، والمرجع في شرحه وتفسيره هم حملته من الناطقين بلسان العرب.

وفوق كل هؤلاء، كان النبي صلى الله عليهم شهيدا، وسيشهد عليهم أن قد بلغ الأمانة وأدى الرسالة، وأنه ترك فيهم كتاب الله وسنته، هما كل المرتجى، وفيهما الهدى.

هكذا وبسبب هذه الخيرية أولا، ولمكانتها الرفيعة كأمة التبليغ والشهادة، نالها حسد الكافرين من أهل الكتاب، مثلما نالها حقد الكافرين من أولياء الطاغوت، فتحالف على عدائها الطرفان.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.