آخر الأخبار
The news is by your side.

القراءة في عصر السرعة… كيف تكون؟ (1-2) … بقلم: التيجاني عبد القادر

القراءة في عصر السرعة… كيف تكون؟ (1-2) … بقلم: التيجاني عبد القادر

سمعت أستاذنا الراحل عبد الله الطيب، رحمه الله، يقول كلمتين حفظتهما عنه، وما زلت أتدبرهما: الأولى: إنك لن تنتفع بكتاب من كتب التراث العربي دون أن تقرأه من الغلاف الى الغلاف، والثانية: إن درجة الدكتوراه ما هي إلا خطوة أولى تتأهل بها لمرحلة القراءة. وكنت أعجب من هذين القولين، إذ لو كانت “الدكتوراه” بداية لتعلم “القراءة” فماذا كان الطالب يفعل في السنوات الطويلة الماضية من عمره وهو يتنقل من مرحلة الى أخرى، ويحصل على الشهادة من بعد الشهادة؟ أما قراءة أمهات الكتب من الغلاف الى الغلاف ففيه استحالة، إذ كيف يتسنى لك مثلا أن تأخذ في جرعة واحدة البيان والتبيين للجاحظ، أو المعارف لابن قتيبة، أو المقدمة لابن خلدون، أو الكامل للمبرد، أو العقد الفريد لابن عبد ربه، أو تاريخ الطبري أو تفسيره، وهي مجلدات ضخام، وتشتمل على صنوف من المعارف وضروب من الفنون لا قبل لك بها ولا وقت لديك تنفقه فيها؟
ثم أدركت بعد حين أن الأستاذ لم يقصد ما يقول حرفيا، وإنما قصد أن يشير الى طريقة التأليف الموسوعي وأسلوب “الاستطراد” الذي درج عليه الأولون، إذ أن الكتب التراثية العتيقة أراد لها أصحابها أن تكون بمثابة “موائد علمية” تحتوى على معظم العناصر الغذائية التي تشبع الروح والعقل والحس معا، ولا يتأتى ذلك بأن تختطف “لقمة” من طرف المائدة تزدردها على عجل ثم تنصرف الى غيرها، وإنما ينبغي عليك أن تأكل متمهلا على مائدة واحدة، فستجد فيها الطرفة الى جانب الحكمة، والفلسفة الى جانب الشعر، والسياسة الى جانب النحو والبلاغة؛ أي أنك ستجد فيها تغذية ومتعة ، وذلك خير من التنقل بين موائد كثيرة لا تسمن ولا تغنى من جوع.
وهذه الكتب “المراجع” لا تقرأ مرة واحدة، وإنما تعاد قراءة الكتاب الواحد مرات عديدة، ويرجع إليه من حين لآخر حتى تكاد الذاكرة تحتويه. وقد حدثني مرة الأستاذ الدكتور الطيب زين العابدين، حفظه الله، أنه كان يدرس تاريخ السودان القديم بجامعة الخرطوم عند أستاذ إنجليزي مقتدر، فلاحظ أن عباراته تكاد تتطابق مع نصوص الكتاب المقرر. قال الطيب فسألته: كم مرة قرأت هذا الكتاب؟ فقل: قرأته تسعا وعشرين مرة! قال الطيب: فازداد عجبي. وقديما كانت بعض هذه الكتب الجامعة لا تقرأ بطريقة فردية وإنما تعقد لها حلقات مدارسة، وكانوا يحتفلون في يوم انتهاء المدارسة بوليمة عامة. وسيقول بعضهم بالطبع إن هذا هو عصر “السرعة”، فمن منا يملك وقتا فائضا ينفقه في قراءة مجلدات ثم إعادة قراءتها؟ وسيقول آخرون إن الناس في العالم “المتقدم” يقرؤون بسرعة هائلة، فتجد الطالب يقرأ عشرات الكتب في فصل دراسي واحد، فلماذا لا نتعلم “تقنية” القراءة السريعة بدلا من تزيين التباطؤ في القراءة؟ وهذا قول فيه جانب من الحقيقية، وقد لاحظت بنفسي أن معدل سرعة قراءة طلابنا (في مناطق كثيرة من العالم العربي) تقل بكثير عن سرعة أمثالهم في العالم الغربي، حيث تعتبر القراءة هناك واحدة من المهارات “الإستراتيجية”، ينفقون في سبيل تحصيلها الغالي والنفيس.
ولكن الصحيح أيضا أن “سرعة القراءة” ليست هدفا في ذاتها، فقد يقرأ الإنسان كتبا كثيرة وبسرعة فائقة ولكن لا يلامس شيء منها شغاف قلبه؛ حتى أن بعضهم قسم القراءة الى ثلاثة أصناف: قراءة السائح، وقراءة رجل المباحث، وقراءة الناقد المستبصر. أما السائح فهو من يلتقط صورة من هذا الجانب في المدينة وصورة من هناك، وفكرة من هنا وكلمة من هناك، ولكنه من بعد ذلك لا يعرف لغة المدينة ولا ثقافة قومها، ولا يتذوق فنها ولا يفهم نكاتها ولا يعرف تاريخها. وهذا هو حال القارئ “السائح”؛ يقرأ الكتب العتيقة كما يقرأ الصحف السيارة، ويقلب صفحات “المقدمة” وهو يتفرج على المسلسل؛ يفعل ذلك تمضية للوقت وليس طلبا للمعرفة.
الصنف الآخر من القراء يشبه رجل المباحث من حيث أنه لا يهتم بشيء مثل اهتمامه بأن يقبض على الكاتب “متلبثا” بجريمة. فهو أيضا لا يبحث عن معرفة بقدر ما يبحث عن العيوب ويتسقط الأخطاء، فإذا وجد حديثا ضعيفا طار به، وإذا وجد فكرة طريفة أو رأيا حصيفا أعرض عنهما. وقد أعجبتني في هذا السياق مقدمة ابن القيم لكتابه “طريق الهجرتين”، فكأنه قد كتبها وهو يتوقع مثل هذه القراءة “التجريمية”، فتراه يخاطب القارئ/الشرطي: “فيا أيها القارئ والناظر فيه، هذه بضاعة صاحبه المزجاة مسوقة إليك، وهذا فهمه وعقله معروض عليك. لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه، ولك ثمرته وعليه عائدته، فان عدم منك حمدا وشكرا، فلا يعدم منك مغفرة وعذرا، وإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح”. نواصل

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.