آخر الأخبار
The news is by your side.

(تاريخ ساسة السودان الأسود)  … بقلم: حاتم صفوت كبلّو 

(تاريخ ساسة السودان الأسود)  … بقلم: حاتم صفوت كبلّو 

بعد نيل السودان للإستقلال من تبعية التآج البريطاني بدأت مشكلة السودان الحقيقية بالتشكّل شيئاً فشيئاً عبر ذلك الورم السرطاني الذي يُسمي الأحزآب يمينها ويسارها و بدأ ينتشر في جسد الوطن يفتك به كل عام ونحن نصفق ونهلل له حتي وصلنا مانحن عليه الآن من سكرات الموت.
بطبيعة الحال لا نجد دولة حديثة او قديمة تخلو من تعدد الأحزاب السياسية ، لكنّ المؤسف في الأمر أن كل الأحزاب السياسية في السودان تتعامل مع بعضها بعض بنفس عقلية أجهزة المخابرات الأمريكية والسوفيتية في الحرب الباردة ، كمية لا نهائية من المكائد والدسائس والمكر وتفشيل الآخر لا سيما إنّ كان أحدهما حاكماً والآخر محكوماً ، دون مرآعاة أننا جميعا نُبحرُ في سفينة الوطن وأن أي ثقب فيها أو إزعاج لقبطانها يُعرض الوطن للغرق ، وعلي الرغم من أنّ كل المتحزبين والمتسيسين والمتشدقين والمتفقهين والمترنمين بالخطب السياسية المُبكية والتي تُلهب ذلك الشعب المسكين الجائع العاري الظمآن رغم أن جُلّهم من المتعلمين والدارسين بأكبر بيوت العلم والخبرة في أمريكا أو أوربا ، إلاّ أننا نلاحظ جليا عندما يتعلق الأمر بالتنافس اللاشريف في من سيخدم ومن سيحكم الوطن نجد أنهم لا فرق بينهم وبين من قاتل وقُتل في (داحس والغبراء)
يمثلون الجاهلية في أبهي صورها والدافع الأكبر لثمن كل هذا هو المواطن الآسف والوطن النآزف .
أكآد أجزم يقينا لو قمنا بإحصاء كمية المؤامرات والعمليات المخابراتية التي تمارسها الأحزاب السياسية ضد بعضها البعض وتمت مقارنتها بما كانت تحاربنا به بعض أجهزة المخابرات الأجنبية او العربية المعادية للحكومات السودانية علي تعدد أطيافها منذ الإستقلال وحتي لحظة كتابة السطور لرجحت كفة الأحزاب علي أجهزة مخابرات تلك الدول ، ولعل تلك هي مشكلة السودان الأولي التي يجب أن نحلها حلاً جذريا إن كنا نريد لأبنائنا وأحفادنا أن يجدوا وطنا لا شعثاً وكومة تراب عليها علم وصور شهداء لا يعلمون فيما قتلوا ولا يعلم قاتلهم لما قتلهم .
والمستذكر والقارئ للقرآن الكريم يجد أنّ جُلّه يقص علينا قَصص الأولين للعبرة وحتي لا نسير علي نفس خطي الخاسرون لدنياهم لأن الدنيا هي مطيّة الآخرة ولا يصل من لا مطيّة له ، والمستذكر لتاريخ السودان عقب خروج المستعمر الإنجليزي – وياليته ماخرج –
يري أن المشكلة الحقيقية في المعارضة غير المساندة علي حد زعم غندور ، المعارضة التي تُصفاحك باليمين وتطعنك باليسار متناسية أنها تطعن الوطن وتطعن الشعب الذي تترنم بأنها تريد به الخير .
شهد نوفمبر 1958م أول إنقلاب عسكري علي حكومة مدنية في السودان عقب خروج المستعمر ولعلي أجده أنجح وأفلح إنقلاب عسكري في السودان قام به الفريق إبراهيم عبود الرجل النزيه الشريف العفيف الذي خرج من الحكم وليس له حتي دارا يأوي إليها ، والمضحك في الأمر أنّ المتسبب الأكبر والأوحد في إنقلابه علي سلطة مدنية ديمقراطية هو ذلك السرطان الذي ذكرناه في بادئ المقال والمسمي بالأحزاب ، فبعد أن إختلط الحابل والنابل بألاحزاب في حكومة رئيس الوزراء المرحوم عبد الله خليل آنذاك قام الفريق عبود بتولي السلطة وقام بأنسب حلّ لذلك الزمان وياليتنا نجد الآن عسكرياً شجاعا يُقدم عليه ليوقف نزيف جرح الوطن ، قام الفريق عبود بإيقاف العمل بالدستور وإلغآء البرلمان وحلّ كل الأحزاب السياسية ومصادرة دورها ووقف أنشطتها وإعتقال كل من إعترض علي ذلك للقرار جهارا، ومنح المجالس المحلية مزيدا من السلطات ، ثم تفرغ بعدها لبناء الوطن وإكمال ما بدأه الإنجليز من نهضة في مجاهل ذلك الوطن الإفريقي المريض فقام بإبتعاث المعلمين والمعلمات الي بريطانيا ونهض بالتعليم ومجانيته الحقيقية حتي كان طلاب الثانويات في كل السودان يفطرون علي حساب الحكومة فطورا لايجده الآن 90% من الشعب السودان علي موائدهم حتي في فطور الجمعات .
وقام بتقوية علاقات السودان بالدول العظمي والوقوف علي مسافة واحدة من جميع المعسكرات الدولية آنذاك المعسكر الأمريكي والبريطاني والسوفيتي ، والمضحك المبكي أن السودان في عهده قام بتقديم منحة مالية ضخمة لألمانيا الإتحادية لدرء أثار فيضان وكان يُصنف من الدول المانحة آنذاك .
ما شيده وما ثبت أركانه الفريق عبود في فترة حكمه القصيرة جدا (1958-1964) لم يقم به رجل غيره لا النميري رحمه الله ولا الفريق سوار الذهب رحمه الله ولا الصادق المهدي ولا البشير في ثلاثين عاما ، علي الرغم من فترته كانت لا تخلوا من قرارات خاطئة كإغراق حلفا لصالح السد العالي والاتفاقية الهشة ، وتعريبه لجنوب السودان ومحاربة المسيحية في أسلمة الجنوب بطريقة غير حكيمة أوغرت قلوب كثير من اهل الجنوب عليه .
ومع كل هذا الاستقرار الاقتصادي والمالي للمواطن والوطن في عهده قامت الأحزاب اليمينية واليسارية بتعبئة الشارع عليه وخرجوا في ثورة أكتوبر المزعومة يهتفون ضده كقطيع من ثيران برية قام بالعدو أحدها فعدت خلفه دون حتي أن تسئله لماذا تعدو وإلي أين تسير !! ،
كان الأولي بالشعب أن يترك الأحزاب المريضة المتشاكسة تخرج وحدها ضده ولكن بنفس القذارة الحزبية المنتنة تم تجييش المشاعر بالهتافات الوطنية الرنانة وإبتلع الشعب الطُعم وأهرق كأس حليب أطفاله بيده ،
وبعد أن ادركوا شنيع ما فعلوا وجدوا الفريق عبود يوما في السوق يبتاع خضارا صاحوا ورآءه بكل حسرة (ضيعناك وضعنا معاك ياعبود).
كان عبود عاقلا جدا عند قيام الثورة عليه قام بتسليم السلطة للشعب ولسان حاله لسان حال الشيخ أبو منصور الحلاج رحمه الله حين قال :

دُنْيَا تُخَادِعُنِي كأنّي
لستُ أعرف حالها

ذمّ الِإلهُ حرامها
وأنا اجتنبت حلالها

مدَّتْ إلىَّ يمينها
فرددْتها وشمالها

ورايتُها محتاجة
فوهبتُ جملتها لها

ومتى عرفت وصالها
حتّى أخاف زوالها
وخرج من الحكم وهو لا يملك حتي دارا يسكن إليها.
تولي بعده مجلس السيادة الأستاذ الزعيم إسماعيل الأزهري ، الرجل العفيف الطاهر الذي إرتد شيكه يوما وهو رئيس البلاد لعدم كفاية الرصيد ، والذي إستدان لعسر الحال وهو رئيس البلاد ، وتاريخه ملئ بالنضال ضد المستعمر ومع كل هذا إنقلب عليه جعفر نميري في 1969م وهذا لا غرابة فيه ، الشئ الغريب أن و هو أحد رموز الإستقلال السوداني سُجن في كوبر حتي مات حين خرج بإذن كتابي لحضور تشييع جثمان أخيه المتوفي ليصاب بعدها بنوبة قلبية نقل بعدها الي المستشفي وتوفي هناك لنقص أسطوانات الأوكسجين المتعمد ليموت وهو لا يزال في سجلات السجن مجرد نزيل في سجن كوبر .
بدأ المشير المرحوم جعفر نميري مشواره بالسوط والعصي لمن عصي واستقر معاش الناس وتمنوا زمان عبود إلا أن مركب الوطن سارت تتهادي بكل اريحية حتي دخل عليه اليسار بمشاريعهم الإشتراكية التخيلية في عالم بدأ لحينه يتنفس أوكسجين الرأسمالية فأقنعوه بتأميم ومصادرة كل الأصول والأموال والشركات الأجنبية في السودان وللأسف كان هذا أول مِعوّل دُقّ في الأرض ليحفر قبر دولة السودان التي أورثنا لها التاج البريطاني مكتملة الأركان .
ثم إنقلب أبناء فلاديمير أليتش لينين عليه ليشاء الله أن يُحبط نميري الإنقلاب ويقوم بإجتثاثهم من جذورهم فمنهم من قفز في النيل من القصر ولم يخرج إلاّ الآن بعد ذهاب حكم الإنقاذ.
بعد طرد اليسار من حكمه أدخل الأحزاب اليمينية في الحكم فأقنعوه بتطبيق الشريعة الاسلامية علي البنوك وحظر بيع واستيراد وشرب الخمور وفعلا قام بمنع بيوت الدعارة العلنية والبارات وتم تطبيق حد الجلد علي كل شارب خمر يُضبط متلبسا ولعل هذا مما يحمده المسلمون المحافظون لنميري رحمه الله رغم سوء التنفيذ لتلك القرارات ، ولأن سرطان الأحزاب تماما كسرطان الجسد لا يغمض له جفن حتي يصل الي القلب والمخ ويقتل صاحبه ، فكادوا له المكائد وجيّشوا له الشعب و أوغلوا عليه الصدور حتي خرجت ثورة أخري لينقذ البلاد من بركانها المشير سوار الدهب عاما كاملا ليمتطيها الإمام الصادق المهدي عبر إنتخابات نزيهة
ولأن الإمام الصادق المهدي رجل أكاديمي بحت علي الرغم من غزارة علمه وتفتح مداركه لكن الأكاديميون لا يصلحون لقيادة الأوطان عادة خصوصا في إفريقيا السوداء علي حد رأيي ، فعاد السرطان يعمل من جديد في جسد الدولة من كل الإتجاهات سرطان اليمين واليسار ، إلاّ أن سرطان اليمين تغلغل حتي قام بشل مفاصل الدولة تماما حتي أنّ الكبريت صار معدوما ، تخيل أن لا يجد شعب كامل عود ثقاب ليشعل سيجارة .
قام العميد عمر البشير بإنقلاب عسكري عليه يونيو 1989م ، انقلاب البشير كان متدثرا باللباس العسكري ظاهرا وكان انقلاباً لحركة الاخوان المسلمين علي حكومة هي مشاركة فيها بنسبة كبيرة جدا علي مقاعد البرلمان آنذاك ، ليحكم ثلاثون عاما هو في الحقيقة لم يحكم فيها يوما واحدا كان مجرد ظل وقارئ نشرة أخبار جيد يُعدها الدكتور حسن الترابي رحمه الله وتلاميذه الذين غدروا به وأودعوه السجن وكأنهم لا يعرفونه ، علي الرغم من اجتهاد البشير من 1989-1999 م في تحسين معاش الناس ككل مع ظلم كل من يعترض عليهم او يعاديهم في دواوين الدولة بسياسة الفصل التعسفي التي أوغرت القلوب علي الإنقاذ ودفعت بمعظم كوادر السودان للهجرة بلا عودة ، في أواخر التسعينات تم إفتتاح أول مصفاة للبترول وبدأ السرطان المتمثل في الحزب الحاكم يأكل في نفسه شيئا فشيئا حتي انهارت الدولة من الداخل وأكل بنيها بعضهم البعض وغدروا ببعضهم البعض بطريقة رخيصة ومبتذلة جدا إغتيالات وإعتقالات بين معسكر المنشية والقصر إلي أن تم الإطاحة بثورة الإنقاذ في
أبريل 2019 بعد ثلاثون عاما.
للأسف التاريخ السياسي السوداني يُعيد نفسه بطريقة سمجة جدا ، ولا يزال سرطان الأحزاب ينخر في عظم السودان بلا توقف وبلا رحمة وبطريقة ميكافيلليية قذرة جدا فها هم الذين كانوا بالأمس يُحرضون الشباب المسكين ليموت برصاص الحكومة في سبتمبر 2013 إعتراضا علي قرار الإنقاذ لرفع الدعم هم ذاتهم أول قرار يتخذونه عند تسلمهم السلطة.
وهو لا شك قرار سليم 100% وكثير من إقتصاديي الإنقاذ نصحوا به البشير قبل سقوطه ب15 عاما بعد تفجر البترول في النصف الأول من الألفينات ، لكن تبقي صحة القرار مرهونة بسلسلة قرارات تقشفية لابد ان تنتهجها الدولة علي كل مؤسساتها حتي لا يموت ماتبقي من الشعب المطحون تحت شمس الصفوف .
أجد أكثر أبيات تصف الساسة المنافقين في السودان وصفاً دقيقا ما خطه يراع الشيخ عبد الرحيم البرعي بعد خروج المستعمر عندما تلقي عدة دعوات جادة من كثير من الأحزاب للإنضمام إليها فحكي رحمه الله وغفر له أنه رأي والده الشيخ محمد وقيع الله المتوفي آنذاك مناماً وهو يُحذره من الساسة والسياسة وعندما إستيقظ كتب هذه الأبيات :
ترآني لا أميل إلي السياسة ..
ولم أصحب مدي الأيام ساسة..
لعلمي أنّ مبدأها نفاقُ تمّوهَ بالبلاغة والملاسة ..
يبيع الدين بالدنيا ذَووها لنيل العز فيها والقدآسة..
يُحذرّنا أبونا الشيخ عنها وينعتها بأوصاف الخساسة..
* تمّوه : من التمويه

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.