آخر الأخبار
The news is by your side.

ﺗﺪﺍﻋﻴﺎﺕ  … بقلم: يحيى ﻓﻀﻞ ﺍﻟﻠﻪ  .. اللجوء الي خبايا الذاكرة

ﺗﺪﺍﻋﻴﺎﺕ  … بقلم: يحيى ﻓﻀﻞ ﺍﻟﻠﻪ  .. اللجوء الي خبايا الذاكرة

ناعم جداً هذا الليل، ملمسه لا يحتمل إلا الأنين. أتجول في خبايا الذاكرة، تتداعى الصور، وأكاد لا أحتمل هذا التتابع المتناثر في أنسجة الهواجس والظنون. ليل ناعم يقذف بي في متاهات الانفعال، ها هي النافذة مفتوحة على دهمة هذا الليل، أصوات لا أكاد أستبين أو أتذوق معانيها؛ لأنني مغلق الذهن، مششت العاطفة، لا أجد لي من مرقدي ارتياحاً، أستدعي النوم، أغمض عينيّ، أنقر بأصابعي على حديد السرير مهتوك الكرش، أنقر نقرات برتابة متعمدة أحاول بينها أن أغفو، ولكني ودون إرادتي أجدني يقظاً تلك اليقظة القاتلة، أتجول في خبايا ذاكرتي، أتحالف مع قلقي وهواجسي وأنتمي مجبراً إلى وحدتي، وحدة تقذف بي إلى اللاجدوى، شعور مميت أن تحس باللاجدوى، أتمرد على هذا الشعور المميت، أتحرك من على السرير الذي يئن ممتصاً حركتي، أقف في وسط الغرفة، أتجه نحو الباب، أفتحه، أقف برهة، أغلقه، هارباً من دهمة هذا الليل، أضغط على زر النور، تضاء الغرفة المتناثرة أشياؤها بفوضى هي فوضى عواطفي وانفعالاتي، أتجه إلى منضدة في ركن الغرفة، عليها بعض الصحف القديمة كنت قد نكتُّها من شنطة جلدية قديمة، حتى أنني انعتها بشنطة الذكريات، وقتها كنت أبحث عن ألبوم صور قديم لعلِّي أجد صورة صديق لي من أيام الثانوية العليا، صديقي مات في صيف العبور، وكانت بي رغبة حارقة أن أتهجأ ملامحه، لعلها الملامح تعفيني من ارتباكات مفهوم الشهادة والشهيد. هي رزمة من الصحف القديمة، أتناول كومة منها، أحاول أن أهرب من ذاكرتي بالقراءة، أجلس على كرسي متهالك رافعاً رجليَّ على حافة السرير، كوم الصحف أضعه على الأرض، كنت أحاول أن أقرأ مبتعداً عن هواجسي: ((تسلّم الرئيس جعفر محمد نميري رسالة من الدكتور حسن الترابي رئيس المجلس الوطني – البرلمان – في السودان وقد سلم الرسالة أمس الأول عبد العزيز شدو نائب رئيس المجلس الذي زار مصر………..))، وأقذف بالجريدة على أرض الغرفة، ومن خبايا ذاكرتي، أرى في ما أرى، أزقة حميمة كنت أتجول فيها، مقاهيَ كنت ألتقي فيها بأصدقاء قدامى تبعثروا وتناثر من تناثر منهم وبدلوا تبديلاً، ها هي أمي، أراها لا تستطيع مطلقاً أن تتحمل غيابي، أمي ترفض أن تتذوق غيابي، وكلما أهاتفها من هذا البعد البعيد يأتيني صوتها ممعناً في فكرة إلغاء كل هذه المسافات التي بيني وبينها: ((أها أنا الليلة عاملة ملاح بامية مفروكة، بننتظرك بالغداء وكان ما جيت للغداء وجيت في الليل بتلقى حلة الملاح في المطبخ والكسرة بتلقاها في الطبق وكان صحيتني بعمل ليك سلطة الطماطم بالدكوة والشطة الخضراء وكمان خجيجة جات هنا وجابت ليك مديدة دخن……)). (خجيجة)، الصبية التي علمتني أن أنحاز إلى أنوثتها، أعرف أن حلمها بي قد تلاشى حيث لا واقع حقيقي يستوعب فكرة أن نصنع حياتنا، وتتمادى أمي في إلغاء المسافات بيني وبينها، وتمادت لأبعد من ذلك وأصبحت تستدعيني في كل التفاصيل، تستحضرني من غيابي: ((إنت أمبارح وكت جيت بالليل يا شقي من حفلة نادي الهلال البنومك في الحوش شنو؟ يعني ما حاسي بالرطوبة ولّا ما هاميك البعوض………..)). أمي، أصبحت أخاف أن أهاتفها، هروباً من دمعة تكلفني الكثيف من الهذيان حد الجنون، (خجيجة) تمرح الآن بين خبايا الذاكرة بثوبها الأخضر المربوط على خصرها بحرفة أنثوية ساحرة، أحس بخطواتها في دروب عاطفتي، أحسها بخطوات أحلامها المتوثبة، صوتها يدغدغ ارتعاشي المنتمي لتلك العذوبة، لتلك الإلفة المضاعة في تفاصيل الغياب، شجرة الحراز التي كنا نلتقي عندها في أمسيات تمتد إلى بدايات الليل، كم كنا نحلم أن يتوغل لقاؤنا إلى نهايات الليل، ليالي الصيف، ها هي (خجيجة)، الصبية يانعة الأحلام، تقترب بخطوات أليفة من حيث أقف أنا تحت شجرة الحراز المعلنة خضرتها بتضاد متراكم الخبرة مع يباس الصيف، (خجيجة) لا تعرف كيف تدس لهفتها، ولكنها تعرف كيف تدس الفرح بين مسام الروح، دائماً ما تترك في يدي ورقة صغيرة عليها تمارس كتابة أحلامها وخواطرها البريئة بعد نهاية كل لقاء، ضاعت تلك الأوراق الصغيرة المحتشدة بالعاطفة في حقيبة فقدتها بداء الرحيل المزمن من مكان إلى مكان، أوراق (خجيجة) ليست في شنطة الذكريات، ها هي (خجيجة) تقترب، وأقترب أنا من تفاصيل فرحي
((أمبارح ما جيت ليه؟))
((أمبارح؟))
((أيوه، أمبارح، أمبارح مش كان يوم الخميس؟))
((لا، ما نحنا متفقين نتلاقى الليلة يوم السبت، إنتي جيتي هنا يوم الخميس؟))
((وانتظرتك لحدي الساعة سبعة))
((معقول؟))
(خجيجة) ضاعت في الغياب، ها هي تطل من الذاكرة متبرجة بعاطفتها النقية ومحتشدة بأحلامها. أهرب مرة أخرى من ذاكرتي وألوذ بالصحف القديمة، لماذا كل هذا الحنين المفاجئ جداً في هذا الليل الناعم المتحالف مع كل ذلك الأنين المعذب للدواخل؟ لماذا عليّ أن أجادل كل هذا الحنين؟ أتناول صحيفة من على الأرض وأقرأ: ((الحركة الشعبية تقلل من أهمية تعيين كاربينو نائباً لرئيس مجلس الجنوب)). أتجول بنظري في العناوين الكبيرة هارباً من كل هذا الشجن الخاص: ((والي شمال دارفور يقول إن 2% من المدارس متوقفة لعدم سداد رواتب المعلمين، المفوضية العليا لللاجئين قلقة لاستمرار تجميع اللاجئين السودانيين بإثيوبيا، قبيل العيد، الأسعار مرتفعة والمواطنون محجمون عن الشراء، الصادق المهدي لا يسعى للمشاركة في السلطة وإنما للديمقراطية ورفع الظلم عن الشعب، الحكومة زيفت الجهاد وخربت البلاد وأذلت العباد، محاكمة خمسة شبان بتهمة اختطاف وزير التعليم العالي)). وتقذف بي القراءة إلى سأم فأضطر أن ألوذ بذاكرتي مرة أخرى، أحرض حنيني وأنتمي إلى شجني، أهرب من ذلك العام المقلق إلى الخاص الأكثر قلقاً، ولكنه قد يحيلني إلى بعض التماسك، وأرى في خبايا الذاكرة شوارع أحن إليها، أزقة شاحبة، أسواقاً تجولت فيها، أماكن عدة ومختلفة لها بي علائق ولي بها نسيج من علاقات تحرض شجني، وأرى في ما أرى زرقة مياه بحيرة (كيلك) تتلاصف مع شمس خريفية المزاج، كنت وقتها أتباهى بخاتم من العاج ناصع البياض، وعليه نقطة منكير حمراء، لطشة من منكير أحمر على بياض العاج الناصع، كنت أتباهى بهذا الخاتم على أصبعي، والنقطة الحمراء أحس أن فيها دفقة مرمزة من عاطفة (خجيجة) النقية، الخاتم الأبيض بنقطته الحمراء أدخلته (خجيجة) في أصبعي موثقة جموح علاقتنا نحو الممكن من الأحلام وضد هذيان المستحيل، بحيرة (كيلك) ابتلعت هذا الخاتم في جوفها وأنا استحم فيها، خرجت من البحيرة فاقداً خاتم (خجيجة) الأبيض بنقطته الحمراء، أكاد أحس الآن بشعور ذلك الفقد، انقبض مني الفرح وقتها وانكمش ولاذت أفكاري بتفسير ميتافيزيقي بفقدي لذلك الخاتم، خفت من أن يكون معنى هذا الفقد هو فقد (خجيجة)، ترى، لماذا بعد كل هذه السنوات وكل هذه المسافات، لماذا تتجول (خجيجة) في دروب ذاكرتي؟ هل هو ذلك الحنين إلى براءة العاطفة؟ إلى نقائها؟ إلى ذلك الانفعال الجياش المفعم بالأماني والأحلام؟ ها هي (خجيجة) مجرد ذكرى، مجرد فكرة في نسيج هذا الغياب.
هذا الليل ناعم جداً، ملمسه لا يوحي إلا بالأنين، الأنين الذي يحتل الدواخل، أنين هامس وخافت، أحسه أنا وحدى، أنا الذي باعدت بيني وبين فرحي تفاصيل هذا الغياب، أنزل رجليَّ من على حافة الكرسي، أقذف بكوم الصحف إلى ركن الغرفة، أنهض من الكرسي، أقف في وسط الغرفة وعلى ذهني تضج ارتعاشات الحنين والشجن، أفتح باب الغرفة، أخرج، أنظر إلى سماء لا تنتمي مطلقاً إليّ وأعرف أنني أمشي على أرض لا تخصني في شيء، أترك خطواتي تقودني إلى حيث لا هدف، أمشي وذاكرتي تجادل بريق اللهفة في عينيْ (خجيجة)، لماذا (خجيجة)؟ ولماذا الآن؟ وأنا أعرف أن في خبايا الذاكرة الكثيرات من اللواتي فرضن إشعاعهن الأنثوي على ذاكرتي، (إعتماد)، من كانت خطيبتي، أورثتني مذاق الخيبة العاطفية الحارق، التي لا زالت تنهشني في الذاكرة التي أنقب فيها الآن وبكل ذلك التعب عن معنى الصدق والبراءة، أنقب عن علاقة عاطفية بكر، خارج مظاهر ذلك الزيف، وأعرف أن جرح الخيبة العاطفية لن يندمل إلا بلجوئي إلى نقاء (خجيجة)، باعتني (إعتماد)، (إعتماد) خطيبتي، تلك التي إليها انتميت، باعتني هكذا فجأة، باعتني مع تاجر طفيلي يملك مصنعاً للظهرة، كانت تخونني معه، تتبعت خطواتها حتى كان أن شاهدتها تفتح باب سيارة فاخرة، أظنها كريسيدا، عربة ناصعة البياض، وتجلس (إعتماد) على مقعدها الأمامي، كان قد حدث ذلك في شارع له عتمة، وكنت أراقب ذلك الحدث مختبئاً خلف جدار متهدم، وتحركت تلك السيارة وبها (إعتماد) إلى حيث لا أدري، لا، ذهبت إلى حيث أدري وتوارت تلك العربة البيضاء عن عينيّ وأنا أتابعها، وآخر ما رأيت منها هو ذلك النور الأحمر الذي شع من خلفيتها وهي تنحرف يساراً أو يميناً، لا أذكر، ولكنني أذكر تماماً كيف أن النور الأحمر في خلفية العربة البيضاء أحالني إلى خاتم العاج الأبيض ونقطة المنكير الحمراء التي أراها الآن تشع أمامي في نسيج دهمة هذا الليل الناعم جداً الذي لا يحتمل ملمسه إلا الأنين.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.