آخر الأخبار
The news is by your side.

مُثَاقفة  … بقلم: د. عاطف الحاج سعيد  .. في ذكرى 21 أكتوبر، مسألة الديمقراطية!

مُثَاقفة  … بقلم: د. عاطف الحاج سعيد  .. في ذكرى 21 أكتوبر، مسألة الديمقراطية!

ثلاثةٌ وستون عاماً مرّت منذ اللحظة التي رفع فيها إسماعيل الازهري علم السودان المستقل ونكّس علم السلطة الثنائية الانجلومصرية. شهد السودان خلال هذه الفترة حكماً عسكرياً امتدّ لأكثر من اثنين وخمسين عاماً، وثلاثُ فترات حكم ديمقراطية شغلت حيزاً زمنيا قصيرا لا يتعدى العشر سنوات، ويشهد الآن فترة انتقالية عمرها أشهر قليلة من المرتجى أن تقود لديمقراطية رابعة تأمل شعوب السودان أن تَسلم من ذات الداء الذي أودى بسابقاتها!
باستثناء الديمقراطية الأولى التي تشكّلت عقب الاستقلال فإن كل الديمقراطيات التالية جاءت عقب انتفاضات شعبية وثورات ضد نظم العسكرية. ملخص ما سبق أن هناك شعب يعي ويتطلع- من أجل بناء الدولة الوطنية- للديمقراطية، وفي كل مرة ينتزع، بالدم والدموع، هذه الديمقراطية سرعان ما تخطفها العسكرتاريا لتهصرها تحت حذائها الثقيل!
رهانات التحول الديمقراطي
تجب الإشارة بدءاً أن الديمقراطية – في أبسط تعريفاتها – هي عَقد تتوافق بموجبه المجموعات السياسية في مجتمع ما على الخضوع لقوانين وإجراءات تتيح لها حل خلافتها عن طريق التفاوض وصولاً لاتفاق، ويصبح نظامٌ ما ديمقراطياً عندما يتم اختيار صانعي القرار فيه عبر انتخابات حرة ونزيهة ودورية تتيح لجميع المواطنين التصويت ولجميع المرشحين منافسةً حرةً. تنطوي هذه المقاربة على مسألتين: مسألة المشاركة ومسألة الاحتجاج أو الاعتراض، وتستبطن كذلك الاعتراف الفعلي بالحريات المدنية والسياسية والتي هي ضرورية لأية عملية انتخابية (صامويل هنتنجتون). صَاحَبَ التجربة السودانية فشل متكرر في الإبقاء على الممارسة الموصوفة أعلاه والترسيخ لها رغم الإرادة الشعبية الباذخة والعنيدة. يمكن أن يُفسّر هذا الأمر جزئياً بأن عملية التحول الديمقراطي التي تمت في البلدان الأوروبية وعمليات التحول الديمقراطي المنشودة في بلدان العالم الثالث – بما فيها السودان- لا تخضع لذات الرهانات. عندما بدأ تشكل (الدولة- الأمة) في أوروبا لم يكن هناك نموذجاً تهتدي به ولا نموذجاً يقيدها لذا أمضت أوروبا عشرات السنين بحثاً -في حرية تامة- عن، وابتكاراً لنظام سياسي يلبي احتياجاتها وخصوصياتها، بينما وجدت دول العالم الثالث نفسها – عقب نهاية العصر الاستعماري – أمام متطلبات قاسية تلزمها أن تكيف نفسها سريعاً وأن تُوجد لنفسها بناءً وطنياً وبناءً للدولة يتماهى مع المتعارف عليه في الدول الاستعمارية بوصفه نموذجاً مكتملاً، بل يمثل هذا التماهي شرطاً ضرورياً للالتحاق بالمجتمع الدولي (برتنان بادي). غير أنه من غير المجدي التعلل بهذه الزريعة – والتي تؤمن بها بعض التيارات السياسية وبناءً عليها تتعامل مع الديمقراطية بوصفها تكتيكاً مرحلياً وليس غاية استراتيجية- لأن هذا النموذج القاهر أصبح جزءاً من السياق التاريخي الذي نعيش فيه ولا يمكن بأي حال تجاوزه، لذا يجب التعاطي معه والسعي لتطويره وتكييفه بوصفه مكتسباً حضارياً كونياً.
سلوك النخبة وانتهاك الديمقراطية
فشل الديمقراطيات السودانية قصيرة العمر تُسْأل منه بالدرجة الأولى النخب السودانية! استجلاءً لشروط تَحَقّق الممارسة الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، ركّزت بعض المباحث الفكرية على سلوك النخبة ونزوعها لتبني قيم الثقافة المدنية المتمثلة في البراغماتية (الذرائعية) والتسامح والمرونة والاعتدال، بينما ركزت معظم هذه المباحث على قدرة النخب في ترقية دمقرطة النظام الاقتصادي والقيام بتقسيم أكثر عدالة للدخل، وهما شرطان ضروريان لبروز طبقات وسطى أكثر اعتدالاً – من الناحية الايدولوجية- من الطبقات الدنيا ولها القدرة على الوصول لاتفاقات مقبولة -لعامة الشعب- مع الطبقات العليا. في ظني أن تبني الطبقة السياسية والمثقفة السودانية لقيم الثقافة المدنية ظلّ قشرياً بمعنى أنه لا يرقى لتَمْثُّل قيمها العظيمة، لذا في كل مرة ينتزع الشعب ديمقراطيته من فك الغول ويسلمها للنخب السياسية آملاً أن تدير هذه الأخيرة شؤونه برشد وتكرس وقتها لتحقيق التداول السلمي للسلطة والرفاه لكنها في كل مرة، كما أشار بذلك منصور خالد في مؤلفه الموسوم “شذرات من، وهوامش على، سيرة ذاتية”، بدلاً عن الانكباب على الأولويات – سلامة المواطن وامنه ومعاشه- تقوم بالطرق على موضوع الدين وعلاقته بالدستور فيطغى على ما عداه من قضايا ملحة. في كل مرة تنتهك النخب – الأحزاب السياسية- الممارسة الديمقراطية لتصل بها إلى الحضيض الأمر الذي يبرر تدخل المؤسسة العسكرية – أو العسكر المؤدلجين- لإنقاذ البلاد من سوءات الديمقراطية!
معارك دونكيشوتية
خلال الديمقراطيات الثلاث خاضت النخب السودانية معارك دونكيشوتية بائسة متمترسة خلف تنظيمات طائفية أو عقدية لا تعرف الديمقراطية ولا تعترف بها إلا تقيةً، ونظرت للمُشْكل السوداني بقصور كبير في إدراك تعقيداته واستهانت بالقضايا الحقيقة التي تمثل تحدياً للدولة السودانية، بينما تركز جلّ جهدها في المحافظة على الامتيازات التي تحصل عليها. ربما مثلت قضية الجنوب في جميع مراحلها نموذجاً لما كان يمكن حله إن كانت النخبة السياسية تملك إرادة وطنية حقيقة وحكمة وتَمْثُّل لمفهوم الوحدة الوطنية ولقيم المدنية المعاصرة!
يعيش السودان الآن فترة انتقالية مرتبكة جاءت عقب ثورة شعبية رفعت شعارات عظيمة: حرية، سلام وعدالة، ستمهد هذه الفترة الانتقالية وتؤسس للتداول الديمقراطي للسلطة. سلّم الشعب السلطة لنخبه السياسية آملاً – مثلما يحدث كل مرة – في حكم رشيد على كل المستويات وفي وضع الأساس المتين للدولة السودانية العظيمة: دولة الحرية والعدالة والرفاهية. هل ستكون النخبة في الموعد أم ستعود الدائرة الشريرة للدوران مرة أخرى؟!!

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.