آخر الأخبار
The news is by your side.

نسأل ونسأل حتى اليوم…!  .. لماذا نفكر بالفرار؟

نسأل ونسأل حتى اليوم…!  .. لماذا نفكر بالفرار؟

بقلم: منجد باخوس

” تُرى؛ هل يحمل الأفريقي جينات الشتات الوجودي؟!”.

“ثــمة أغنية أرضية؛ موسيقى، أغنية ملكية تنبعثُ من فضاءات العالم كله، ملايين من الخلايا الخضراء، كرنفال رقص، الطيور الموسمية وأناشيدها، أطفال المرأة السوداء، فيافٍ، فلولُ الغابات النيلية، أجناس العالم كلها، أخلاط الله الأربعة: النار، الماء، الهواء، والتراب المُقدَّسُ الأبدي هنا: إنها أفريقيا!”.

لماذا يهرب؟!

تاريخياً؛
أيادٍ لا حدَّ لها عبثت بمصير الأفارقة. عانت أفريقيا وشعوبها من الويلات كلها: عصور من الحروب والقتال الدموي الاعتسافي، صراعات الأرض والدم والعشائر، الصراعات القبلية والتمزق الإثني بمجاهيله الغامصة، الاستعمار وقوى الشر الظلامية، المرض، الموت العبثي، الجهل، ثم لعنة الدكتاتوريات العسكرية باعتباطيتها وشراستها الملعونة المتعاقبة. ما إن تزول حقبة حتى ما تتفتَّق ألف خلية أخرى؛ فتنمو بسرعة، تستشري مواصِلة مسلسل الهدر والطغيان الميثيولوجي وامتصاص الدم.

مُسبقاً؛
لن نخوض البتَّة في الحديث التقليدي، اليومي والمجاني عن الثروات في أفريقيا، المصادر الطبيعية، الكثافة السكانية الهائلة التي وحدها – إن تم توظيفها – كافية لإغراق العالم كله في النعيم المطلق والفراديس السماوية. إنه أمر يعد الحديث عنه نافلة، لكن ما يهمني هنا: لماذا لا يستطيع الأفريقي أن يحيا في وطنه، داخل أفريقيا، المكان المنطقي والوحيد الذي ينتمي إليه انتماء سلالياً؟ ربما أكثر قرباً: لماذا يعيش الأفريقي مشرداً في الأصقاع البعيدة، على تخوم الفلوات العدمية، في الصحارى، على مشارف المدن المضاءة.. المُعلَّبَة بالأكاذيب والنفاق الوجودي وتلوث الغلاف الجوي، في أعماق المحيطات الهادرة، في الحدود المشتعلة والمحاطة بالأسلاك الشائكة؟ ولماذا دائماً ما يحلم الأفريقي بالعبور والفرار من الوطن؟!

إنها الحرب؛

هكذا.. خارطة القدر الممزقة، الحضور المضطرب للإرادة الإلـهية، الفوضى الهمجية في لباسها الخلاق، إنها أشدُّ التصاريف الكونية عبثاً في الكمال النهائي، الحرائق تشتعل في الأركان كلها، أدخنة تجتاح المدى، ليل غسقي مبهم وسوداوي، حرب بعد حرب، صراعات لا معنى لها، وطبول الحرب تعزف أناشيدها الجنائزية على ركام أجساد الموتى والمنسيين.

ثم:

السلاطين؛

في أفريقيا فقط.. فقط في أفريقيا يبقى الحاكم أربعين عاماً في الحكم! هنا فقط يجلس شخص واحد ثلاثين عاماً في عرشه العظيم! في القارة الأفريقية فقط يجلس الحاكم في العرش إلى أن يفنى! Unbelievable!

وكأن الأجداد حقنوا أحفادهم بمصل الوحشية بأرشيفهم الجيني، إذ وعبر الحقب التاريخية المتناسلة تباعاً؛ تنتج البلدان الأفريقية كلها الطغاة والكذبة والحكام المتعطشين دائماً للدم، ما إن يتسلق أحدهم السلطة – والتي غالباً ما ينتزعها بالقوة – حتى يتحول إلى طاغية دموي، إلهي، عربيد، يفتكُ بالكل ولا يثق بالكل، يُدنِّسُ المُقدَّس وينصب مشانقه على امتداد الأوطان كلها، وكأن أرحام الأمهات اللأفريقيات متخمة باللعنات، تنمو بها فقط بذور الشر المطلق؛ لا تنجو منها إلا أجنَّة القتلة والعفاريت وعبدة الشيطان!

أيضاً:

الحروب الأهلية؛

إن حياة الأفريقي برمتها نسيج معقد من الكوابيس النهارية، والعسف الليلي، روحه منهكة من وطأة النزف اليومي، متعباً من الركض والهروب الأزلي، يجد نفسه محاصراً بين القيامة الأكيدة والموت دون مقابل، الأفريقي متورط تماماً في وطنه، متورط في حرب ضروس، حروب أهلية، أفريقيون مقابل أفريقيين، أبناء النسب الواحد، الأرض الواحدة؛ الشاسعة والكبيرة، لكن رغم ذلك تندلع الحرب الأهلية بأوساط العشائر الأفريقية، آلاف من الأرواح تتبخر، أسراب من الأجساد تحترق، تتهاوى البيوت والعرائش، ويستمر نزف الدم إلى أن تفنى السلالات عن بكرة أبيها!

ثم:

الجوع، المرض، الهلاك؛

الثالوث القاتم في القارة السوداء، العدو الأول والأخير للسلالة البشرية كلها، ما لا يصدقه العقل حتى الآن: لماذا يموت آلاف الأطفال بالأمراض يومياً، لماذا يحصد الموت مئات العائلات في أفريقيا بسبب الجوع والأمراض، وما يثير الرعب حقاً هو: كيف يموت الأفارقة يومياً بسبب الجوع في قارة خضراء مليئة بالأراضي البكر والفلوات الخصبة الشاسعة؟! إنها لعنة السلاطين في تجلياتها القصوى.

أيضاً:

الهُـــوية؛

لطالما تساءلت دائما.. أبداً: لماذا تنقرض اللغات الأفريقية الأصلية وتسود لغات وافدة وسط المجتمعات الأفريقية؟! على سبيل المثال: نجد لغات أفريقية كثيرة انقرضت في نيجيريا بينما سادت اللغة الإنجليزية وسط المجتمع النيجيري! وتسود اللغة الفرنسية مقابل اللغة العربية في الجزائر والمغرب! وفي السودان ربما الأمر أكثر غرابة؛ إذ ليس انقراض عدد هائل من اللغات فحسب، وإنما مجموعات بشرية كبيرة تحاول عبثاً رفض أية صلة لها بأية لغة غير اللغة العربية؛ ليس ذلك فحسب؛ وإنما يتفاخر البعض بأنه لا يتحدث أي لغة “محلية” دالاً على نصاعته العرقية الهاشمية! في عملية سايكولوجية خطيرة لاغتيال الذاكرة الثقافية وإزالتها بضراوة عمياء تعكس التشظي النفسي البالغ إزاء الذات التراثية والجرح النرجسي العميق بتلافيف اللاوعي السوسيو_أنثروبولوجي.

وهنا بالذات تنتفح آلاف الأسئلة والحكايا، ربما أسئلة إجاباتها تحتاج عملاً شاقاً ومضنياً في مقبل السنوات القادمة إذ: لماذا تتآكل الثقافات الأفريقية؟ لماذا تنقرض مظاهر التراث الأفريقي داخل أفريقيا؟ بسهولة سترى اختفاء الأشكال التقليدية / الأصيلة للحياة بالدول الأفريقية: الأزياء، نمط الحياة، الطقوس، اللغات، والأكثر سخرية: محاولة البعض محو اللون الأسود نفسه وتبني اللون الأبيض كمعيار للجمال والجاذبية الجسدية في محاولة بائسة لنسف النسيج المورفولجي ذاته! ومن ثم: هل سيختفي الوجود الأفريقي من كوكب الأرض على السياق الثقافي؟!

أخيراً:

الخروج؛

كل هذه الأشياء ببساطة تخلق إنساناً قلقاً، مليئاً بالصراعات والاحتراق الداخلي، بائساً، حزيناً، طريداً، هائماً في المنافي، هارباً من الوطن، منهكاً وغارقاً في الكوابيس والذكريات، باحثاً عن الأرض والعشائر، ثم فاراً في النهاية بعد أن يصبح البقاء معادلاً موضوعياً للموت في الوطن../ أفريقيا.

لكن؛

رغم كل شيء، تظل أفريقيا الشفرة الأثرية الخالدة للوجود الإنساني؛ تاريخه، جذوره، حضاراته، انتصاراته، هزائمه، تطوره، نكساته، كذباته الكبرى ولعناته على مر العصور والتاريخ البشري، وعروس سنغني لأجلها يوماً، التي هي بالأساس: أسطورتنا العظيمة التي ما كان لنا خياراً آخر غير أن نصدقها.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.