آخر الأخبار
The news is by your side.

مُثَاقفة  … بقلم: د. عاطف الحاج سعيد  .. نحو تغيير شامل في مؤسسات التعليم العالي

مُثَاقفة  … بقلم: د. عاطف الحاج سعيد  .. نحو تغيير شامل في مؤسسات التعليم العالي

(1)
في ظني أن أهم منجز تنموي حدث خلال سنوات الإنقاذ العِضَاض هو إنشاء جامعات حكومية في انحاء السودان المختلفة حتى وإن كانت جامعات لا تستوفي الحد الأدنى لما ينبغي أن تكون عليه المؤسسة الجامعية في القرن الواحد والعشرين، وفي ظني أيضاً أن هذا الأمر تمّ ليتيح ساحات جديدة وحصرية تجند من خلالها الحركة الإسلامية الشباب في سن اليفاعة لمشروعها الإنقاذي، إذ أن جامعة تسيطر على مواردها وادارتها الحركة الإسلامية ستصبح حتماً مصنعاً لإنتاج الكوادر البشرية الموالية التي ستذهب بعد تخرجها لشغل الوظائف القيادية في دولاب الدولة خدمةً للمشروع الكيزاني، وقد حدث هذا الأمر فعلياً. شهدت مؤسسات التعليم العالي، خلال الثلاثينية الكأداء، فساداً إدارياً ومالياً وأكاديمياً مريعاً أصبحت بسببه كسيحة وطارده لمنسوبيها من الوطنيين الخلص ومفرخة لخريجين لا يتناسب تأهيلهم مع متطلبات سوق العمل المحلية والإقليمية والعالمية. سأحاول في هذا المكتوب أن أتقصى بعض المواضع التي تحتاج اصلاحاً عاجلاً على ضوء قيم ثورة ديسمبر المجيدة، وهي قيم إنسانية وديمقراطية. سيكون مضرب مثلي، إن اقتضى المقام، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا بوصفي بن سرحتها إذ أمضيت فيها أكثر من إحدى عشر عاماً طالباً ومدرساً وحصلت فيها على البكلاريوس والماجستير والدكتوراه.
(2)
كلي يقينٌ بأنه ما أن تحل الديمقراطية بمؤسسة إلا وزانتها، لذا أرى أن أعجل العاجلات هو التأسيس للممارسة الديمقراطية في مؤسسات التعليم العالي. رأينا في العهد البائد دكتاتورية حارقة في الاختيار للمناصب الإدارية وفي التعيين وفي الاختيار للتدريب والابتعاث وهي آلية تكافئ بها الموالين وتقصي بها المغضوب عليهم. ظلت سلطة تعيين مدير الجامعة ورئيس مجلسها من السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية وآلت عقب الثورة لرئيس الوزراء. سيكون من القوامة أن تختار كل جامعة مديرها عن طريق التصويت المباشر لهيئة التدريس على أن يعاد تعريف “عضو هيئة التدريس” بحيث يصبح أكثر مرونة ليستوعب مساعدي التدريس مثلاً توسيعاً للكلية الانتخابية. وتطبق ذات الآلية على اختيار العمداء ورؤساء الأقسام والمراكز. تختار كل كلية عميدها بصورة مباشرة وعلينا الغاء بدعة ترشيح ثلاثة أسماء ليختار المدير من بينها لأنها مدخل للفساد وستجعل العمداء يسترضون المدير الذي اختارهم بدلاً من العمل دفاعاً عن مصالح قاعدتهم الانتخابية ودفاعاً عن المؤسسة. ستدعم الممارسة الديمقراطية في مؤسسات التعليم العالي من استقلالية هذه المؤسسات وتعزز من اكاديميتها وانشغالها بوظائفها الحقيقية التي من اجلها أنشئت وستصبح عصية على التحشيد.
(3)
من الأمور العاجلة أيضاً مسألة تخليص الوظائف القيادية الإدارية والأكاديمية في الجامعات من منسوبي المؤتمر الوطني تمهيداً لتطبيق السياسات الجديدة التي تتماشى مع روح ميثاق الحرية والتغيير المتوافق عليه من قبل قوى الثورة. أولاً لأن هؤلاء الأشخاص حصلوا على هذه الوظائف دون وجه حق استناداً على آلية في الاختيار غير منصفة، ثانياً لأن بقائهم على رأس هذه المناصب قد يمثل عائقاً كبيراً أمام التوجهات الجديدة، وثالثاً لأن استمرارهم يمثل مسألة مؤذية نفسياً لقوى الثورة التي تريد تغييراً شاملاً وكاسحاً. كما يجب أيضاً تخليص الجامعات من الوحدات الجهادية سيئة السمعة التي كانت تمثل الحاضنة الأكبر للعنف في الوسط الطلابي، بل تُسْأل عن العنف الطلابي الذي كان في معظمه حماية للنفس من اسياخ منسوبي المؤتمر الوطني المهوسين بالعنف والاقصاء. ويجب النظر في عمادات شؤون الطلاب وتخليصها من البرامج الأيديولوجية الموجهة ومن سياسيات الكيزان البغيضة في إدارة النشاط الطلابي في الجامعات. وفي ذات السياق، وبما أن شعار العدالة يمثل إحدى الشعارات التي رفعها ثوار ديسمبر، أرى أن يعاد جميع أساتذة الجامعات الذين تم فصلهم تعسفياً خلال سنوات التمكين احقاقاً للحق ورداً للاعتبار.
(4)
كذلك يجب النظر في مسألة رواتب أساتذة الجامعات المخجلة حقاً. يبلغ راتب الأستاذ المساعد في الجامعات السودانية حوالي سبعين دولاراً في الشهر، بينما يبلغ راتب الأستاذ المساعد في تشاد الشقيقة أكثر من خمسمئة دولار ويصل الألف دولار في اريتيريا، وهي دول محدودة الموارد وتعاني صعوبات اقتصادية أكبر. بسبب هذه الرواتب التي تضع الأستاذ الجامعي في مصاف الفقراء الواجبة في حقهم الزكاة هاجر الألاف من أساتذة الجامعات إلى دول الخليج وأوروبا وأمريكا في نزيف للعقول منهك نتج عنه تراجع كبير في جودة التعليم العالي وفي تقليل فاعلية برامج التنمية البشرية والاستغلال الأمثل للموارد. رأيت بأم عيني النزيف المرعب لأساتذة كلية اللغات بجامعة السودان خلال السنوات الأخيرة والذي نتج عنه، مع عوامل أخرى، اهتزاز في الأداء العام للكلية. نعلم أن هناك هيكلاً وظيفياً عاماً لكل العاملين في الخدمة المدنية معتمد من وزارة المالية يتم بناءً عليه تحديد الرواتب لكل درجة وظيفية، سمعنا أن هناك مساعي لإخراج أساتذة الجامعات من هذا الهيكل وتصميم هيكل خاص بهم ينالوا بموجبه امتيازات أكبر، لكن أرى أنه من الأيسر أن تحسن الجامعات من شروط الخدمة بها عبر مراجعة اللوائح المالية الداخلية بتخصيص جزء معلوم من مواردها الذاتية لدعم الأستاذ، والنظر في مخصصات المناصب الإدارية والعدالة في توزيعها، فلا يعقل مثلاً أن ينال عميد كلية ما حافزاً شهرياً ضخماً بينما ينال اخر حافزاً ضئيلاً بسبب اختلاف عدد الطلاب أو بسبب التباين في موارد الكليتين، أو أن ينال رئيس الشعبة في كلية التكنولوجيا والتنمية البشرية مخصصات تمثل اضعاف مضاعفة لمخصصات رئيس الشعبة في كلية أخرى. ندرك أن النهج الكيزاني كان يقوم على إيجاد مناصب (واحات خضراء) ذات مخصصات مالية عالية داخل المؤسسة ليقدمها حافزاً لأهل الولاء وليؤلف بها قلوب الضعفاء.
(5)
تمثل اقالة مديري الجامعات وتعيين مديرين جدد ضربة البداية لثورة التغيير في مؤسسات التعليم العالي، تنتظر هؤلاء المديرين تحديات عظيمة تقتضي منهم بأساً شديداً وعزيمة قوية ذلك لأن الجامعات موبوءة حقاً بالشلل الكيزانية جيدة التموضع وواسعة الحيلة. صاغ تجمع أساتذة الجامعات الكليات والمعاهد العليا السودانية كثيراً من المطالب التي يرى أنها عاجلة حتى تستقر الحياة الجامعية ومنها العودة إلى النقابات الفئوية وتكوين نقابة أساتذة الجامعات التي ستحمل صوتهم وتدافع عن حقوقهم، وحل شرطة الجامعات التي مثلت بؤرة توتر بسبب تبعيتها لقيادة الشرطة وليس لإدارة الجامعة الأمر الذي جعل الأستاذ موضع استفزاز مستمر من بعض منسوبيها. وشخصياً مثل لي وجود الشرطة الجامعية على الأبواب معضلة يومية تسبب لي توتراً مستمراً، وربما يفسد يومي تماماً لو نسيت بطاقتي الشخصية أو لو قصدني زائر حجزه الشرطي في البوابة، بالطبع بعض هؤلاء الشرطيين لطفاء.
أرى، بعد انجاز الأمور العاجلة، أن تدعو وزارة التعليم العالي لمؤتمر كبير لمناقشة قضايا التعليم العالي بمشاركة الخبرات السودانية المحلية والمهاجرة بهدف تصميم استراتيجية بعيدة المدى تنقل مؤسساتنا للقرن الواحد والعشرين ولتصبح بالفعل زراعاً قوياً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وللتحول الديمقراطي.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.