آخر الأخبار
The news is by your side.

كلام بفلوس: إمتزاج رائحة التاريخ والأحلام فى بربر العريقة 

كلام بفلوس: إمتزاج رائحة التاريخ والأحلام فى بربر العريقة 

بقلم: تاج السر محمد حامد

من يسير على تراب مدينة (بربر) فإنه يجدها مخضبة بروح أهلها الطيبين .. أودعوها أسرارهم فأودعتهم حياة ذات نكهة متفتحة .. تتلاقى فيها الإلفة والمحبة والترابط تهضمهم جميعا لتفرز محبتها المتمثلة بهوية خاصة فى الملبس والمأكل وجوانب الحياة كافة .

حظيت مدينة بربر بإمتزاج رائحة التاريخ وأحلام غد مشرق .. ومنها تشع أوسمة التميز من بين مدن السودان .. تشتم رائحتها من شوارعها المعانقة لبعضها البعض وكل هذا أخرج لنا نكهة متميزة وشذا حلم يسامر أهلها الممتزجين بترابها .. أما هى فأمتزجت بروحهم وقدمت رجال شوامخ قدموا الكثير الخالد على مر العصور ومن بين هؤلاء الأخ الأستاذ/عبدالمنعم على الأمين الذى كتب وبريشته التى غمسها فى محبرته ليخرج لنا هذه السياحة البربراوية المميزة حيث قال:-

دلفت بربر من مدخلها العتيد ( المخيرف) منتصف نهار رمضانى وكانت المدينة ساكنة كعهدها .. حبلى بسرها الأزلى ولا تبوح بعبقها إلا لمن يعرف سره .. وأخذت أفكر كثيرا فى سر ذلك الإرتباط الذى لا أدرك كنهه بين الإنسان والمكان .. كنت كثيرا ما أخفى عن أصدقائى تحركاتى مثل أن يكون من بين أهدافى لزيارة أمدرمان الذهاب إلى مدرسة التجارة الثانوية القديمة والداخلية التى كنا نسكن فيها أو التسلل إلى المدرج (102) بكلية الأداب جامعة الخرطوم خشية أن يظنوا بى (مسا) من الجنون أو أن يصفوا تصرفى ذاك بأنه حاله مرضية على أحسن الفروض .. غير إنى لم أخجل يوما أن أعلن أننى متيم بحب بربر .

وجدتهم كعهدى بهم صامدين كما أبطال أسطورة يونانيه .. عفويين فى ودهم .. وأضحين كحد السيف .. يتدفقون عذوبة لو أحبوا .. ويهدرون كما النيل حين يغضب إذا كرهوا .. فطرنا فى الشارع وأم جمعنا مدنى توفيق .. محمد حسن موسى .. ويوسف خليفة ابو شنب .. وأخرون لم أعرفهم .. كان بعضهم قد تركتهم أطفالا قبل عقدين من الزمان .. فأصبحوا لهم أصوات خشنة .. وبدايات شوارب تقترب كثافة من شوارب أبائهم إن لم تزد .. وأمنا فى صلاة المغرب وأحد منهم عرفت أنه عمر مدنى توفيق وقرأ ماتيسر وأجاد وأمتلك القلوب بعد أن عمرت البطون بالحلو والمر .

بكى على كتفى الزين عبدالنبى .. لم أكن أعرفه جيدا ولكنه قال إنه يرى فى شخصى صديقه المرحوم عبدالمجيد الأمين .. هزنى وفاؤه وبكيت بدورى .

صعقت من ذلك الذى يتدفق ودا وهو يعالج كلماته اللذيذه بصدق لم تغيره الأيام .. الشامخ أبدا .. إسماعيل قدور صعقت لأنه لم تبدله الأيام ولم تزده إلا رقه .. كذلك كان إسماعيل الأخر إبن خضر وهو يمتطى (الفيزباء) العتيدة .. الساخر حتى من نفسه .. وأدركت ولأول مره كيف يمكن أن يكون الصمود والتصدى .. الصمود فى بربر والتصدى لعاديات الأيام .

لك عزيزى القارئ أن تتصور كيف يمكن للحزن والفرح أن يجتمعا عندما أطلت الكهرباء فى تلك الليلة الرمضانية ونحن نتجاذب الذكريات .. وكذلك فعل الماء .. فرح الناس واطفأوا بطارياتهم وظمأهم أيضا .. وهرعت إلى الحمام إذ ليس أحلى من ( الدش) البارد والهواء يتسلل إلى جسدك العارى من شقوق الباب .. ولو كان ذلك نهارا ( نحن فى رمضان) لوجدت إغراء لا يقاوم بأن ترشف من ذلك الماء المتدفق حتى ترتوى .. ولا زولا تشوف ..

إحتضنتى (بخيته عمر ابوعائشة) جارتنا وكذلك إبنها إسماعيل وسكبا على كتفى دمعا غزيرا .. منزلنا على مرمى حجر من بيتهم العامر .. وقفت امام الباب .. ويسكنه الأن مستأجرون .. تجمدت يدى .. لم اقو على طرق الباب .. هل يطرق الإنسان باب بيته ليستأذن الدخول ؟ دارت فى مخيلتى تلك الأيام .. أبى وأمامه جبنة الصباح .. وأمى وهى تعالج بهبابة سعف ماتبقى من جمرات على المنقد لتشعل المكواة (لكى) جلابيتى الوحيدة ليوم السبت .. وأنا أذكرها بموقف الناظر (شيخ الدين جبريل) إذا كانت الجلابية ( مكرفسة) ذلك الفلاش باك الطويل العريض تلك الرابطة الأزلية بين الزمان والمكان .. فلم أقو على دخول المنزل حتى ولو أذن لى .. ولم أقو على تدارك دمعة لازال طعمها فى حلقى وهى تنحدر من قلبى إلى قلبى .. وعجبت لم كنا نعجب لذلك الشاعر الذى يقبل ذا الجدارا .. وذا الجدارا .

فى السوق وجدت السر بريمة خليفة الحاج شبرين يبيع الجريدة البايته بنصف قيمتها أى كل صحيفتين بمائتين وخمسين جنيها .. كان ذلك راتب موظف كبير فى عام كامل .. فى يوم ما عاصرناه .. أحمد التازى لازال يبيع الثلج .. ولأن تلك الأيام فى رمضان لم تشهد حرا أو سموما .. فكان أحمد مهموما يدعو جهرا أن يزنق الله على عباده المسلمين الصائمين بموجة حر أو سموم صحراوية .. قال لى أن تجارته لم تعد رائجة فالناس إذا وجدوا الماء لا يسألون هل هو بارد ام حار .

يوسف خليفة أبو شنب .. يشكو من شكوى الناس بأنه يطحن لهم ربع العيش بمبلغ من المال .. لأنه يشكو من أن الحكومة لا توفر له الجازولين فيشترية بأضعاف سعره من السوق .. فاكرم باع التاكسى وأشترى عربة كارو لم يكن أمامه غير ذلك لأن حكام هذا الزمان يضعون العربة أمام الحصان.

الطريق بين بربر وعطبره .. تيقنت أن أحد ملوك مروى القديمة كان قد رصفه .. ولو كانت لنا خطة سياحية جيدة لأصبح مزارا سياحيا عالميا .. كنت أقول لعمى عبدالعظيم الأمين عليه الرحمة زهجنا ياحاج من الغربة .. كان يقول لى الفقر فى الوطن غربة .. لكن مابالكم عندما يجتمع الفقر والغربة فى الوطن .. عزيزى القارئ هل تعلم بأننى مارست تجربة إجتماع الحزن والفرح ولا زلت أعجب لمسألة الإرتباط بين الكائن والمكان.

ولكنى إستحى من التفكير فى كل ذلك ويؤرقنى هذه الذاتية التى أخذت تحتوينا نحن أنصاف المثقفين والمتعلمين فهل نستطيع أن نعيد الزمن إلى أصله حتى نكون جديرين بالإنتماء إلى المكان الذى نحبه ؟ هل بإمكاننا التسامى فوق جراحاتنا وهمومنا الخاصة ونسهم فى توسيع رقعة الفرح لكل الناس ؟ أم نظل أسرى الأنا ونبصم على رقعة التمزيق ونتيح للكل أن يزايد علينا فى الوطنية .. وأخيرا لكم عظيم ودى .. وعاطر تحياتى .. ومعذره إن كنت قد أثقلت عليكم .. لكنها بربر عشق حبى الأول والأخير . ( إنتهى).

ولايسعنا فى أخر المطاف إلا أن نقول لك أخى وأستاذنا عبدالمنعم على الأمين شكرا على هذه السياحة البربراوية والتجوال فى تراب بربر الحبيبه والعزيزه لنفوسنا .. وكفى .

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.