آخر الأخبار
The news is by your side.

عارفني منك … بقلم: جعفر عباس

عارفني منك … بقلم: جعفر عباس

أذكر كثيرا في النصوص التي أكتبها انني نوبي محسي على دنقلاوي، ولكن يشهد الله انني لم أكن يوما متعصبا لأصولي النوبية، ونشأت متعصبا فقط – إن جاز التعبير- لسودانيتي، ولا أظن ان زملائي وزميلاتي في المرحلتين الثانوية والجامعية كانوا يعرفون أنني نوبي (في المرحلة الابتدائية كنا نحسب السودان “مدينة “وليس دولة تقع الى الجنوب من منطقتنا، وفي المرحلة المتوسطة كنا نعرف ان بيننا “مغتربين” من الشايقية، ذلك أنهم كانوا يتحدثون العربية، ولكن لم تكن بينهم وبين النوبيين حساسيات).

ساعدتني ظروف تنشئتي على الإحساس بالانتماء لكل السودان، فقد ولدت في الخرطوم بحري، وقضيت الشطر الأول من طفولتي في كوستي، وكان جيراننا من مختلف انحاء السودان، وكان التاجر الذي يثق به ابي ونتعامل معه خلال رحلاته الى الجنوب هو تقلا القبطي، وكنت العب يوميا مع طفلين من أطفال الاقباط هما نادي وجورجي، ثم انتقلت الى جزيرة بدين وقضيت فيها سنوات مرحلتي الابتدائية والمتوسطة، ثم التحقت بوادي سيدنا الثانوية، وكان معظم الطلاب فيها من شمال السودان، ولم تكن العلاقات بيننا تقوم على القبيلة او المنطقة، وانتقلت الى جامعة الخرطوم.

 وهنا أيضا لم يكن أي منا يعرف “قبيلة” الآخر، بل لم يكن التعصب حتى لناديي الهلال والمريخ معروفا في ذلك الزمان في الجامعة، حيث كانت اللعبة الأولى هي كرة السلة منذ المرحلة الثانوية قوي ارتباطي بكوستي، وفيها أقمت علاقات مع زملاء من مختلف انحاء السودان، ولم أكن اتعصب الا لنادي الرابطة بحكم أنه كان نادي حي الحلة الجديدة الذي كان فيه بيتنا، ولكنني كنت تحت- تحت احب مريخ كوستي بحكم ان معظم أصدقائي كانوا يشجعونه، كما ان هذا النادي ونادي كوستي العريق في حي المرابيع كانا يحتضنان نشاط اتحاد طلاب مدينة كوستي الذي كان يتشكل في كل عطلة مدرسية.

وطوال سنوات الجامعة كنت اقضي الخريف في الأبيض فأركب القطار من كوستي وقد أنزل منه في تندلتي او ام روابة او الرهد لزيارة زميل دراسة، وانطلاقا من الأبيض زرت بارا عدة مرات، وعشقت وما زلت اعشق كل شيء في كردفان، وذات مرة توقف القطار لساعات طويلة في ام روابة التي وصل اليها في اول المساء، لأن السيول جرفت الخط الحديدي، وقضينا ليلة العمر هناك بعد ان تدافع اهل ام روابة لاستضافة جميع ركاب القطار، حيث نحروا الذبائح، وصارت جميع المطاعم القريبة من المحطة تطهو الطعام وتقدمه بلا مقابل للركاب، وانعقدت حلقات سمر وطرب في محيط المحطة، وعندما تحرك القطار في اليوم التالي كان معظم سكان المدينة في وداع الركاب بعيون فيها دموع الود الصادق.

وعملت مدرسا في رمبيك الثانوية المخصصة لأبناء جنوب السودان، ولأن الكثير من طلابها كانوا في مثل سني او اكبر مني، فقد أقمت مع بعضهم علاقة صداقة بعضها مستمر الى اليوم، وعند التحاقي بالتلفزيون السوداني تم تكليفي بوضع الدراسة الخاصة بإنشاء قناة دارفور التلفزيونية، وسافرت لذلك الغرض الى الفاشر وكتم وام كدادة والجنينة، وفي دارفور أكلت الدجاج المسحب (الخالي من العظم) لأول مرة، وعشقت عصيدة الدخن، كما انني رأيت فيها لأول مرة ما صار يسمى هوت بوت hot pot، وهو الوعاء الذي يحتفظ بالطعام ساخنا، وكان الوعاء الدارفوري مصنوعا من الفخار، ولهذا كان يحتفظ بطعم الاكل الأصلي.

وتسنى لي التجول في ديار الشايقية: مروي وكريمة والبركل والقرير ونوري، وزرت عطبرة وفيها “أجمل فول” في السودان، كما زرت بربر والدامر، وعملت في سنار وزرت سنجة والدندر،وعشت دهرا في مدني السني عندما عملت بتلفزيون الجزيرة الريفي وكانت مدني تضاهي الخرطوم من حيث الأناقة والنظافة والنشاط الثقافي وطفت طويلا بقرى الجزيرة وعشقت بركات ومارنجان وعملت مدرسا في الطلحة الزراعية وزرت المدينة عرب وأهل الكرم والطيبة في المحيريبا وشرق السودان هو الجهة الوحيدة التي لم ازرها، رغم ان اختي فاطمة رحمها الله كانت عاشقة للشرق وعاشت طويلا في أروما؛ كل هذا جعلني أنتمي الى السودان كله بلا تعصب لعرق او منطقة.

ورغم انني عشت معظم سنوات عمري بعيدا عن السودان جسديا إلا أنني أخاطبه يوميا: عارفني منك/ لا الزمن يقدر يحول قلبي عنك/ لا المسافة ولا الخيال يشغلني عنك، وسويا … حنبنيهو نحن جيل الشباب ونسترد الثورة والوطن من اللصوص والانتهازيين والمجرمين القتلة.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.