آخر الأخبار
The news is by your side.

درجات الإيمان: جهاد النفس

درجات الإيمان: جهاد النفس

بقلم: عمرو عده

التحية والسلام…
.
متابعة لمقالاتي عن درجات الإيمان… أعتبر والله تعالى أعلم أن أحد درجات الإيمان هي “جِهاد النفس” وهو مصطلح ديني يستخدم في الإسلام للإشارة إلى النضال الداخلي والجهد الذاتي للتحسين الروحي والأخلاقي… ويعبر عن محاولة الشخص تحقيق التقوى والإنضباط الذاتي والإبتعاد عن السلوكيات السيئة والضعيفة… كما يُعتبر جهاد النفس جزءاً هاماً من العبادة في الإسلام ويهدف إلى تطوير الشخصية وتحقيق التناغم بين الجسد والروح…
.
تتجلى أهمية جهاد النفس في التزام المسلمين بتحقيق التقوى والقرب من الله… فهذا النضال الداخلي يساعد على تحقيق التحسُّن المستمر في السلوك والأخلاق، ويشجع على تحقيق الصفات الحميدة كالصدق، والعفة، والتواضع، والصبر… ويعتبر جهاد النفس أساسياً لتحقيق السلام الداخلي والاستقرار النفسي، مما يؤدي في النهاية إلى بناء مجتمع يسوده التفاهم والعدل…
.
قال تعالى…
.
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
.
وقوله “وجاهدوا في الله حق جهاده” أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم كما قال تعالى “إتقوا الله حق تقاته”… وقوله “هو إجتباكم” أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع…
.
ولا ريب أن جهاد النَّفس سابقٌ على جهاد الكُفار… وذلك لأنّ الإنْسَان لا يجاهد أعداء الله إلا بعد مُجاهدة نفسه لأن القتال مكروه إلى النفس… قال تعالى… {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فالمهم أن جِهاد الأعداء لا يتم إلا بعد جهاد النفس عليه وتَحْمِيلها هذا الأمر حتى تنقاد وتطمئن…
.
ذكر الرسول صل الله عليه وسلم… “المُجاهِدُ مَن جَاهَدَ نَفْسَهُ في اللَّه… وقال الحبيب المصطفى… “أُفَضِّلُ الجِهَادَ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ”… وقال الأمين أيضاً… “أُفَضِّلُ الجِهَادَ مَنْ أَصْبَحَ لَا يُهِمُّ بِظُلْمِ أَحَدٍ”… وأعتقد والله تعالى أعلم أن جهاد النفس إن أديناه بحقه لكِسبنا ترقية في مرتبة الإيمان عاقِبتها نصرٌ عظيم وخاتمة مرضية…
.
وذكر الإمام علي رضي الله عنه… “جهاد النفس مهر الجنة”… وقال الإمام كرم الله وجهه… “وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر”… وقال الإمام الكاظم رضي الله عنه… “جاهد نفسك لتردها عن هواها فإنه واجب عليك كجهاد عدوك”…
.
والجهاد أربع أركان… جهاد النفس… وجهاد الشيطان… وجهاد الكفار… وجهاد المنافقين… وهذه الأركان… أعتقد والله أعلم… أن المسلم لابد وأن يمر بها ويمتحن فيها في حياته الدنيا… فجهاد النفس بأن يجاهدها على تعلم الهُدى والعمل به بعد عِلمه… والدعوة إليه… والصبر على مشاق الدعوة إلى الله…
.
أما جِهاد الشيطان… بدفع ما يُلقيه إلى العبد من الشبهات والشهوات والشكوك القادحة في الإيمان… وجهاده على ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات… وجهاد الكُفار والمنافقين يكون بالقلب واللسان والمال والنفس… وجهاد الكُفار أخص باليد… وجهاد المنافقين أخص باللسان… وأكمل الخلق من كمل مراتب الجهاد كلها… والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد…
.
واعلموا أن أول عتبات جِهاد النفس إقامة الصلاة فهذا هو حبل الترويض لها حتى تتقبل تثبيط عمل الشهوات وتغذيتها بما يُحيي الفطرة السليمة لبناء سريرة الصلاح لتحقيق الفلاح… وقد علمَنا الله درس هاماً لجِهاد النفس في هذه الآيات…
.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
.
هذه الآيات تبلغنا أن “هابيل ابن آدم” عليهما السلام جاهد نفسه ومنعها عن القيام بالإثم ورضي بالإستسلام للحق سُبحانه وتعالى ورفض حُب الدنيا وزينتها… طوع نفسه وأخضعها وقبِل بنفس راضيه مواجهة الموت حتى وإن كان ظُلماً وعدواناً عليه حتى لا يقع في أكبر الكبائر…
.
فمن يريد حقاً أن ينجح مُراده بجِهاد النفس يجب أن التمسك بدرجات الإيمان التي ذكرتها لكم في مقالات سابقة… >حفظ الأمانة… >الصبر على المكاره… >طلب العِلم… وأيضاً >عدم التكبر…
.
والعامل الرئيسي لإستمرار توجيه النفس للإتجاه الصحيح هو الترفع عن السفاسف… وتجاهل كل الصغائر الفاسدة وعدم الإستسلام للإستفزاز الصادر من أي كائن في هذا الكون لا يخضع قولاً وفِعلاً إيمانياً لوجه الله سُبحانه وتعالى…
.
وأقصى من سنواجهه في جهاد النفس هو الشيطان الرجيم… لأنه {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين} فوساوس إبليس لن تقف ولن تبتعد… فهو لن ييأس أو يكل أو يتراخى إلا عندما نُبقي حائط الصد مرتفعاً أمامه بالمرابطة على الإستمرار والإصرار بالجهاد ضده…
.
والسيف الذي نحتاجه لجهاد النفس هو كثرة الإستغفار… والدرع هو الشُكر والحمد على كُل شيء قدّره رب العالمين لنا… أما عِماد هذا الجهاد فهو نقاء النية والقصد… وجسرنا إلى أمان النفس هي المحبة لكل ما هو حولنا لوجه الله تعالى… وأن نضع لوحاً مسطوراً بداخل هذه النفس مكتوباً فيه قول نبي الله عليه السلام “لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”…
.
أما زُواد هذه النفس… فهو… “لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه”… فجهاد النّفس يتطلّب من المسلم التواضع والفِداء وأن يكون قوياً في إيمانه يحرص على الحق والعدل ويبتعد عن المنكرات والإكثار من الطّاعات…
.
كما أن جهاد النّفس يستقيم بمجاهدة الخوف من الموت والثبات عند مواجهة الظالمين والأعداء… فالإنسان الذي يخاف من الموت لا يستطيع خوض غِمار المعارك… كما أنّ الجبن والخوف ممن دون مالِك المُلك هو سببٌ من أسباب التّقاعس وربما يوقع الإنسان في كبيرة من الكبائر…
.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} فهذه الآية توضح عاقبة تزكية النفس ووضعها بموقع رضا الله…
.
كما أنه مجاهدة النفس تستلزم العمل بما جاء في هذه الآية… {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}
.
كما تستلزم إتباع أمر الله لنبيه عليه السلام كما جاء هنا… {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}
.
فيا أصدقائي الأعزاء… جاهدوا أنفسكم فهي مرتبة هامة من مراتب الإيمان… وأعتقد والله تعالى أعلم… أنه لن يكتمل إيماننا بدون هذا الجِهاد… ولا تنسوا أبداً… {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}
.
وأن باب التوبة مفتوح دائماً… {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
.
وقال سبحانه…
.
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
.
تتطلب ممارسة جهاد النفس التفكير الذاتي المستمر والتقييم المنتظم للسلوكيات والأفكار… من المهم أن يكون الفرد على استعداد للتحسُّن المستمر والتخلص من العوائق التي تعوق تطويره الشخصي… فمن خلال تحسين النفس، يصبح الإنسان قادراً على تحقيق أهدافه ومواجهة التحديات بشكل أكثر فعالية وثقة…
.
ومن هنا يأتي دور الصلاة والذكر والصيام والقراءة الدائمة للقرآن الكريم في تعزيز هذا النضال الداخلي، حيث تُعَدّ هذه الأعمال الروحية وسائل لتعزيز التواصل مع الله واكتساب القوة الروحية للتغلب على التحديات…
.
في الختام… جهاد النفس يُعَدّ عاملاً أساسياً في بناء شخصية مسلمة قوية ومتوازنة، تسهم في بناء مجتمع أكثر تفاهماً وسلاماً…
.
أسأل الله لكم أن يغفر لكم الذنوب جميعاً وأن يرحمكم رحمة تامة كاملة… وأن يعاونكم على إخضاع أنفسكم للقدير وحده… وأن لا يفتنكم في دينكم وأن يُيسر لكم الخير المثمر… وأن يُسهل لكم حياتكم وأن تكون أُخراكم جنة الخُلد ومُلك لا يبلى… وأن يسبقكم لهذا الفضل أجدادكم وآبائكم وأمهاتكم وأولادكم وأحفادكم أجمعين… ويجعل مقامكم بالقرب من نبينا الأمين وآله وصحابته الأكرمين عليهم جميعاً الصلاة والسلام… وأن يكتب لي كل ما ذكرته لكم من دُعاء… اللهم آمين…
.
.
حياكم الله.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.