آخر الأخبار
The news is by your side.

تري هل سأهاجر؟ .. أحزم حقائبك و دع لهم تحديد الإتجاه

تداعيات … بقلم: يحيى فضل الله 

تري هل سأهاجر؟ .. أحزم حقائبك و دع لهم تحديد الإتجاه

 

مبكرا هذا الصباح – الخميس 2 اكتوبر 1997م ، اخرج من الشقة الجديدة التي رحلت اليها من جبل – المقطم – بالعاصمة المصرية القاهرة ، العمارة التي بها الشقة الجديدة تحمل إسما شاعريا جدا جعلني ابتسم و انا اتأمل هذا الاسم – برج الياسمين – ، مبكرا اخرج هذا الصباح بعد ان إعتدنا علي هذا الإستيقاظ المبكر تضامنا مع خروج ( داليا ) الي مدرسة مدينة (نصر) الخاصة.

قبل خروجي تذكرت ان علي ان احمل معي اوراق – اللوتري – كي اصورها إستعدادا لملء البيانات المطلوبة و إرسالها ، كانت تلك الاوراق التي قد تقذف بي الي منفي امريكي لم أختره و لم اسع اليه إذ جاءتني هذه الاوراق بعد ان تحالف حظي الذي هو لاول مرة يعلن عن إنتمائه لي و يحرض خطواتي الي هجرة اعمق و الي منفي اخر اخاف منه و احس بان علي ان اتكاسل بقدر الإمكان حتي لا اعجل بهذا الرحيل المتوقع و المتوغل ، هأنا اخيرا مرشح لنيل الكرت الاخضر و كان الاخ ( هاشم بدر الدين) قد بعث لي بالبريد الجوي هذا الظرف الاصفر الذي احمله هذا الصباح.

تحركت راجلا الي حيث تلك الساعة الكبيرة المحاطة بخضرة النباتات المتسلقة علي تقاطع شارع- النصر- مع شارع النزهة حيث كنت علي موعد مع الاخ ( عاصم بابكر ) في التاسعة صباحا كي اسلمه بعض اشياء تخصه و من ثم ساتحرك الي جريدة الخرطوم بشارع عائشة التيمورية حيث موعدي المعتاد لكتابة مفكرة الاحد من كل اسبوع ، وصلت الي تلك الساعة المنتصبة مواجهة مع الجامعة العمالية ، كانت الساعة تشير الي التاسعة إلا خمس دقائق ، كنت مرهقا بعض الشئ ، قررت ان اجلس علي مصطبة تلك الساعة ، كانت المصطبة متسخة ، خفت من ان الوث بنطلوني الذي يجب عليه ان يصمد معي حتي نهاية اليوم الذي قد لا ينتهي ، من داخل شنطتي اخرجت ذلك الظرف الاصفر و وضعته كعازل بين وسخ المصطبة و بين البنطلون و جلست عليه.

في إنتظاري بدأت افكر في موضوع مفكرة الاحد القادم ، غالبا ما اقلب الموضوع في ذهني قبل الكتابة و قد تكون هنالك عدة خيارات ، عدة مواضيع تتنافس في ذهني حتي يتم اختياري لواحد منها ، حين بدأ تفكيري يستقر علي ان اكتب عن ذلك الرحيل الدائم من شقة الي اخري ، بل ان المركز السوداني للثقافة و الاعلام مستقر عملي مصاب ايضا بداء الرحيل من مكان الي اخر ، حين فكرت ان اربط بين رحيلي من شقة (المقطم) الي (برج الياسمين) علي شارع (النصر) بمدينة (نصر) و رحيل المركز من 10 شارع (علوي) في وسط القاهرة الي تقاطع شارع (مصطفي النحاس) مع شارع (مكرم عبيد) بمدينة نصر ، وصل الاخ ( عاصم بابكر ).

ثرثرنا قليلا حول شعار التجمع الوطني الديمقراطي ( سلم تسلم) الذي اطلقه السيد محمد عثمان الميرغني و استلم مني اشياءه و ذهب ، تحركت راجلا الي رابعة العدوية و من المكتبة القريبة لمحطة الاتوبيس حيث يجب ان انتظر الاتوبيس 995 الذي سيوصلني الي شارع (القصر العيني) و من هناك الي جريدة الخرطوم ، إشتريت جريدة الاتحادي التي نشرت اليوم صفحتي( تنويعات) المخصصة لرسائل (غسان كنفاني) الي (غادة السمان) كي استعين بقراءتها علي ذلك المشوار الطويل ، لم اجد مقعدا خاليا و بحرفة مكتسبة وقفت بالقرب من احد الاخوة من ماليزيا الذي حتما سيترك لي مقعده في منتصف المشوار لانه من البديهي سينزل في محطة قريبة من جامعة الازهر الشريف فرع مدينة نصر و قد كان.

جلست علي مقعده و حاولت ان اقرأ في صفحة (تنويعات) إلا ان ذهني كان شاردا وراء البحث عن مدخل لكتابة مفكرة الاحد القادم ، تركت الاتوبيس قبل ان يدخل الي شارع القصر العيني  وحين فكرت في تناول كوب من عصير القصب بعد ان عبرت راجلا شارع (القصر العيني) ، فجأة تذكرت ذلك الظرف الاصفر الذي كنت قد جلست عليه ، فرفرت شنطتي ، لم اجده ، تركته هناك تحت تلك الساعة ، ها هي هجرتي الي امريكا ترتبك بسبب داء النسيان و شرود الذهن ، هاهو ذلك الظرف الاصفر الذي ارسله لي الاخ ( هاشم بدرالدين ) من نيويورك بتاريخ 17 سبتمبر 1997م و الذي وصلني بعد اكثر من شهر ملقي هناك علي مصطبة تحت تلك الساعة و هانذا اتحالف سرا مع ضياعه الذي سيريحني من مغبة التوغل في ذلك المنفي أذ بي خوف ميتافيزيقي من تلك الهجرة التي إختارتني و لم اخترها.

شعور خفي بأن ضياع هذا الظرف سيحسم صراعي و مونلوجي الداخلي العميق تجاه هذه الهجرة و لي محاولات باءت بالفشل في التملص من هذه الهجرة ولا احتمل فكرة ان يكون ابني ( مصطفي) الذي ولد بالقاهرة لن يري السودان و ( داليا ) و ( حسن ) ستتلاشي الملامح القليلة التي خزنت في ذاكرتهما عن السودان و انا تهجس بي احلام مصرة علي العودة الي السودان و لي مشاريع و مشاريع لا تنفذ إلا في السودان.

بإرتباك كثيف استغل تاكسي من حيث كنت واقفا بحيرتي تلك علي شارع القصر العيني الي مدينة نصر شارع النصر حيث تلك الساعة الذي يجب ان يكون علي مصطبتها ذلك الظرف الاصفر ، بسبب الزحمة يقف التاكسي و يتحرك بطئيا كأنه يحبو و انا في دواخلي اتأمل حالة ضياع الظرف الاصفر و خلاصي من تلك الهجرة و كأني احتاج الي حدث قدري مثل هذا كي ارتاح من تأرجحي ذاك و حالة ان اجد الظرف في مكانه كي ارتاح من مغبة إتهامي من قبل ( هادية ) زوجتي باني قد قصدت هذا الضياع خاصة و اني قد اعلنت مرارا رغبتي في التملص من الهجرة و التي كانت زوجتي تهزمه يرغبة مضادة و بتكثيف فكرة ان يعيش الاطفال في العالم الاول و هذا من حقهم.

بكل ذلك التكثيف الدرامي في دواخلي وصلت الي حيث تلك الساعة ، خرجت من التاكسي راكضا الي حيث تركت ذلك الظرف الاصفر ، لم اجده في مكانه ، إرتجفت قليلا ، نظرت حولي، هاهي صفرة تلوح لي داخل كيس للزبالة مرمي بالقرب مني ، فتحت كيس الزبالة لاجد الظرف الاصفر محاطا ببقايا اطعمة ، يل ان الذي وضعه داخل الكيس لم ينس ان يضع في داخله اكياسا صغيرة و قطعة من الفلفل الاخضر المخلل ، سحبت الظرف الاصفر من داخل كيس الزبالة ذاك و ابتسمت حين تأملت رحلة هذا الظرف حتي يصلني و هاهو نسياني يتسبب في قذفه داخل كيس للزبالة.

بعد ان نشرت هذ النص في جريدة الخرطوم نسخة القاهرة بعد منتصف التسعينات من القرن المنصرم و عبر خطاب من الصديق (خالد)، اعذروني، لا استطيع إكمال بقية الاسم هذه حساسية جديدة لم تكن في خاطري و كل ذلك بسبب تلك الركاكة السياسوية التي دخلت بين الاسم و المسمي، وصلني هذا الخطاب ردا علي نصي (تري هل سأهاجر؟) و اشكر الصديق (خالد) علي هذه الحميمية التي تنبض بين السطور و لهذا الإهتمام بمشروع هجرتي المزعوم حتي الان، كتب لي الصديق خالد :- (( حين تحط رحالك علي اي من مطارات المنافي و انت قادم للتو من فجاج الجحيم، هناك حيث عيون كلابهم تصادرك و تحاصرك و تفتش حتي احلامك, تجلد في (المحطة الوسطي) و تصلب في (ابي جنزير)، حين يحط بك الطائر الميمون تحس و كان كابوسا ثقيلا قد إنزاح عن كاهلك فتملأ رئتيك بهواء الحرية و تخرج من المطار أمنا مطمئنا بإنك ستصل محطتك الاخيرة.

لا تهاجر يا صديقي

الخرطوم صيفا، الاف الوجوه الكئيبة المتعبة، هولاء الهائمون علي وجوههم لا يدرون اين المفر فقد سدت السبل و المخارج، الجوع يطحن الجميع و المرض – الملاريا -، لا يستثني احدا, ألج الي مبني الجوازات لاكمل إجراءات سفري وهروبي من هذا الجحيم، بالمنزل صفعتني شقيقتي الصغري بملاحظاتها الدقيقة قائلة :-(هذا البلد ينزف شبابا, انتم تتسسلون عبر المطارات و الموانئ و هذه الطغمة الحاكمة تدفع بهولاء الصغار الي محرقة الحرب بينما هم ينهبون كل ما يصل الي ايديهم و يمتصون حتي ما تبقي فينا من عرق و دماء، فأي مستقبل ينتظر هذا البلد بدونكم.

حزنت لحظتها، أحسست بالعجز و لم استطع ان أداريه فأشحت بوجهي عنها و انا الوذ بالصمت، تري، كم من شباب جيلنا قد حزم حقائبه متسللا عبر هذه البوابة او تلك؟، في المطار ينتابك إحساس بان عيونهم سوف تصطادك في اي لحظة، تتوتر حواسك وراء كل نداء من اذاعة المطار الداخلية، هل انا المطلوب؟، او ربما اكون التالي، حتي داخل الطائرة تبحث عن عيونهم و كأنهم يترصدونك و تتوقع في اي لحظة ان ( عايزنك يا استاذ خمسة دقائق) و من هنا تبدأ رحلة اخري.

اتصفح جريدة الخرطوم، (تداعيات يحيى فضل الله) هذا الفتي الذي كنا نهرب معه و به في (تداعيات الثلاثاء)، هذا الذي ينتمي الي جيلنا، إيه ايتها المنافي، كيف لا تموت ليالي الخرطوم الثقافية و قد احتضنت غير يحيى كثر؟، كم من حقيبة حزمت و تسللت عبر المنافذ و الحدود؟، أعلم ان امثالك لا يتنفسون إلا بمساحة حرية النفس نفسه و لا تعطينا منك إلا حينما تشعر بانك حر تتدفق كما تشاء فيأتي (كبي جزلان) و ( جمعة كافي تيه) و (يا ضلنا)، لكن يا صديقي، هل نحن نختار مرافئ المنافي الاخيرة و نعلن نعينا الكبير و موات الاغنيات؟، محزن جدا إعلان الشاعر هزيمته و إنسحابه من الساحة.

سؤالك الذي فجرته في وجوهنا و هو بالمناسبة مونولوج داخلي لمساحة واسعة من الشباب، سؤالك لم يكن سؤال (يحيى) لـ (يحيى)، انه لنا جميعا.

عادت بي الذاكرة الي اوائل الثمانينات حينما تساءل الاستاذ الشاعر (هاشم صديق) في حوار مع احدي الصحف :- ( جيلنا قدم (اكتوبر)، فماذا قدم جيلكم؟)، هذا السؤال الإستفزازي الملئ بمشاعر التحدي و التحريض علي الفعل الإيجابي من (هاشم صديق) كانت إجابته بعد بضعة أشهر انتفاضة شعبية بحجم ( اكتوبر) ، انتفاضة ابريل 1985.

تري، هل سأهاجر؟

الإجابة المطلوبة من هذا الجيل، هل سنهاجر كلنا ام سنجد مساحة للتنفس لنا و لـ(هاشم صديق) و للاجيال القادمة؟

صديقي يحيى

لا تهاجر

و لكن، أحزم حقائبك و دع لهم تحديد الإتجاه.

خالد ))

و لا مناص الان من ان اكشف عن اسم صديقي (خالد) كاملا،ًصديقي صاحب الخطاب كان قد عبر – رحمه الله – و الي هناك، الي حيث ذلك البعيد البعيد، دون ان يعبر معنا الي القرن الواحد وعشرين ، ذلك الصديق هو ( خالد جبرالله) وشقيق كل من الدكتورة (أمال جبرالله) و الدكتورة (ناهد جبرالله) و الصديق (عصام جبرالله).

هل اصبح علينا نحن الذين نتعامل مع تجليات الإبداع ان نتحمل عبء كل انكسارات و تقلبات السياسة العالمية لتصبح امريكا عدوة الامس هي حلم اليوم؟

صديقي الكاتب القاص (عادل القصاص)، خرج من بيوت الاشباح في بداية التسعينات فقرر ان يغادر السودان و في ليلة وداعه في منزلي بـ(الجميعاب)، قررت ان أستفزه مع علمي الاكيد بحساسيته تجاه كل ما يخص السودان كوطن، وهكذا اصطدت لحظة كثيفة في نسيج نشوته تلك و قلت له خلاص يا عادل إنسحبت من المعركة، خلاص قررت تهرب؟ 

فكان ان اجابني (القصاص) ببكاء حارق و مر ولم نستطع ان نلملم اشتات (عادل القصاص) في تلك الليلة الا بعد جهد جهيد، و هاهو (عادل القصاص) من مهجره في استراليا يعلن في قصيدة له انه (مضرج بالعودة).

و هكذا، ان المبدع الشاعر لن ينسحب من الساحة ولكن بمقدوره ان يذهب في اي إتجاه محتقبا اغنيته في الذاكرة و هانذا ومن مهجري في كندا ، اطلق صرختي الشعرية في قصيدتي (المنفي بكائية لا تخصني وحدي)

(( و يعاد توطيني

يعاد

و قد تمتع

من تنطع

بالجهاد )).

(تري هل سأهاجر؟)

(لا تهاجر يا صديقي ، ولكن، أحزم حقائبك و دع لهم تحديد الإتجاه)

نعم، لقد كنت متشبسا بفكرة انني لا زلت اعيش و اعايش الدنيا و انا في وادي النيل، لم أكن أفكر في مهجر بعيد ، ولكن في لحظة و قبل ان ينصرم القرن العشرين بقليل من السنوات أعاد اخطبوط القبح و الظلام- نظام الانقاذ – الدكتاتور الامدرماني جعفر محمد نميري الي السودان فكان ان شاهدت استقباله علي تلفزيون السودان و من ضمن هذا الإستقبال لافتة كبيرة مكتوب عليها (( وجع وجع اب عاج رجع)).

بعدها بيومين كنت قد بدأت إجراءاتي للإنضمام الي برنامج الامم المتحدة الموسوم بـ (إعادة التوطين).

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.