آخر الأخبار
The news is by your side.

بعيدا عن السياسة وقريبا منها … بقلم: التجاني عبد القادر حامد

بعيدا عن السياسة وقريبا منها … بقلم: التجاني عبد القادر حامد

(1)
وبينما كان اللوري “السفنجة” يتهادى بنا هبوطا وصعودا في القيزان التي تقع بين مدينتي الرهد والأبيض بغرب السودان (قبل طريق الأسفلت الجديد) سمعنا دويا كدوى المدفع توقفت على أثره “السفنجة”. لم يكن المكان مكان نهب مسلح، ولم يكن الزمان زمان تمرد، ولكنا قفزنا الى الأرض يهزنا شعور قوى بالخوف والدهشة، غير أن “المساعد الكبير” الذي سبقنا الى الأرض أخبرنا أن أحد إطارات “السفنجة” قد انفجر، فتنفسنا الصعداء. ولكنه سرعان ما عاد ليخبرنا أن “الشمبر” كذلك قد طار في مكان بعيد وأختفى بين الحشيش، مما يعنى أن أمامنا مهمتان، هكذا قال لنا السائق هذه المّرة: أن أقوم أنا بترقيع الإطار المعطوب، وأن تقوموا أنتم بالبحث عن “الشمبر” المفقود، وعليكم أن تسرعوا إن كنتم لا تودون المبيت في هذا المكان.(الشمبر، بحسب غوغل، حلقة معدنية حوالين البستم!!)
قال لي رجل عجوز كان يقف الى جانبي، وكأنه قد رأى على شيئا من حيرة “أولاد المدارس” وقلقهم في تلك الحالات: دعنا نجلس على هذا “القوز”، فأنت لا تعرف “الشمبر”، وأنا لا قدرة لي على الحركة ولا أستطيع الرؤية. ترددت قليلا ولكنى رأيت أنه من الأفضل بالفعل أن أذهب معه الى حيث أراد، وقد أعجبتني روح المبادرة فيه.
قال بعد أن توهط على الرمل: أنظر الى يا ولدى جيدا، ولا يغرنك هذا الظهر المقوس، والرأس المشتعل بالشيب، فقد كنت تراني أيام الصبا أمسك بساعد الخروف فأكسره بيدي هاتين، ولا أحتاج الى فأس أو ساطور كما يفعل الجزار، وكنت أشرب “كلولا” من السمن ولا أتلعثم (ولعله قصد بالكلول إناء من الفخار). قلت له: أو لم تكن تخاف من ارتفاع “الكلسترول”؟ لم يجبني، كأنه لم يفهم ما أقول. كررت السؤال بصيغة أخرى: كم مرة ذهبت الى المستشفى، وكم مكثت به؟ قال: ليس كثيرا، ولكن المرّة الأولى التي رقدت فيها بالمستشفى كان أيام الإنجليز، أيام الحرب الكبرى (يقصد الحرب العالمية الثانية، أوائل الأربعينات) كان يرقد الى جواري شيخ صالح، يكثر من الصلاة والاستغفار، ثم دخل علينا ذات صباح حكيم خواجه ومعه أحد مساعديه من أولاد الريف، يحمل كل منهما كوبا من الدواء. ناولني ود الرّيف الكوب ولكنه غمز الى بطرف عينه، كأنه يرجوني ألا اشربه، دلقت الكوب على الرمل في سرعة البرق، وكنت بطبعي لا أحب أدوية الحكومة، ثم ناولته الكوب الفارغ، فلما استدار الحكيم الخواجة ناحيتي، وقد فرغ من “مهمته” مع المريض الآخر، وجدني أمسح على شاربي وفمي، فاعتقد المسكين أنى قد شربت الدواء بالفعل. فخرج مسرعا، أما أنا فأقبلت مسرعا على صاحبي الصالح أسأله في لهفة: هل شربت الدّواء؟ قال: نعم، قلت لا حول ولا قوة الا بالله. لم أستطع بعدها أنظر في عينيه، وأخذت أذهب الى الحمام وأعود بلا سبب، حتى إذا حان وقت الصلاة، وناديته ثلاثا فلم يجبني، دنوت منه فرأيته قد انتقل بالفعل الى الدّار الآخرة، ولكن بعد أن مدّ قامته على السرير، وأدار وجهه نحو القبلة، كأنه يتحدى أولاد الرّيف والخواجات والموت جميعا.
قلت لمدحثى العجوز وقد أشاح بوجهه في الأفق: ماذا فعلت بعد ذلك؟ قال: جمعت أغراضي وهربت من المستشفى، ثم من المدينة، ثم من العسكرية ذاتها، وكانت تلك آخر مرة في حياتي أرقد فيها بمستشفى. علمت من تلك العبارة أنه كان يعمل في المؤسسة العسكرية، ولكنى لاحظت عليه صمتا جعلني أتوقف عن الاسترسال معه في هذا الاتجاه، فذهبت أقول لنفسي: لعله قد أصيب بخرف، واختلطت عليه الوقائع، ولعل الرجل الصالح لم يمت مسموما كما توهم، وانما توفى على إثر جلطة في الدماغ، أو نوبة في القلب، أو قضاء وقدرا، ولعل ما كان بالكوب دواء حقيقي ولم يكن سما. ولكن، ومن الناحية الأخرى، لماذا غمز ود الريف بعينه للشيخ إذا كان يقدم له دواء طبيعيا؟ هل كانت هناك خطة للتخلص من أعباء العسكريين الزمنى؟
(2)
وفى محاولة لتغيير الموضوع، سألته إن كان قد نجا من الموت المحقق مرة ثانية في حياته. قال نعم، كنت وأحد أصدقائي نتاجر في الماشية، فنذهب بعيدا حتى نكاد نصل الحدود اليوغندية، فألجأنا التعب والبعوض ذات ليلة الى “كر” بأحدي القرى. أوقدنا النار لنطرد البعوض فاذا شخص طويل يحمل حربة ينادى على باسمي: يا فلان، يا فلان، فلما التفت عرفته، كان قد وقع بيني وبينه نزاع حول “تيس” اشتريته منه العام السابق. قال الرجل الطويل وقد احمرت عيناه: لقد أكلتني من قبل، أما اليوم فاني سآكلك، ثم صرخ صرخة الحرب، وأخذ يقفز في السماء ويهبط على الأرض مرات ومرات، يضع في كل مرة التراب على رأسه ثم يكرر الصراخ، وما هي الا لحظات قليلة حتى أقبل رجال القرية زرافات مسرعين، يحمل كل واحد منهم حربة طويلة، يردد صيحة الحرب، ويقفز مرات في السماء، ويضع في كل مرة التراب على رأسه.
كانت لدينا بندقية واحدة وجراب من الرصاص (والجراب، كما قد تعلم، وعاء أو كيس من الجلد يحفظ فيه الزاد ونحوه). هرع صديقي الى البندقية وأخذ يعمّرها، ولكنى نزعتها منه وأمرته بالهدوء. ثم رفعت البندقية عاليا بحيث يراها من هو بالخارج، ثم وضعتها أمامي، فتحت جراب الرصاص ورفعته عاليا بحيث يراه من هو بالخارج، ثم جعلت الرصاص يتساقط على الفروة، رصاصة أثر رصاصة، فيحدث صوتا يشبه الموسيقى الحزينة. ساد صمت بالخارج، فانتهزت تلك الفرصة وناديت: يا فلان، قال نعم، قلت له: أنظر الى هذا الجراب، فاذا نفد ما فيه من الرصاص، فتقدم بعد ذلك لتأكلني. نظر بعضهم الى بعض، ثم أخذوا يتفرقون في صمت، واحدا بعد الآخر.
(3)
قلت له: ما ذا تريد أن تقول؟ هل تريد أن تلقنني درسا في الشجاعة؟ قال لا، بل أريد أن أعلمك درسا في السياسة. قلت ما هو؟ قال: أتعلم يا ولدى لو أننا أطلقنا عليهم رصاصة واحدة، كما أراد صديقي أن يفعل لما كنت أمامك الآن، كان في مقدورنا بالطبع أن نقتل منهم واحدا فقط، ولكن كان في مقدورهم أن يهجموا علينا هجمة واحدة، فيمزقوننا أربا قبل أن نتمكن من إطلاق الرصاصة الثانية. يا ولدى، إن منظر الرصاص المتساقط من الجراب، وصوت الموسيقى الحزينة التي يحدثها في سكون الليل، لهما تأثير في النفوس يضارع تأثير الموت، فاذا كنت تملك جرابا من السلاح فخير لك أن تستخدمه في “العرضة” قبل أن تستخدمه في الحرب.
ثم توقف الشيخ الفيلسوف عن الكلام، وقد صاح فينا المساعد الكبير: أنتم ما مسافرين ولا شنو؟ فعلمت حينئذ أنهم قد عثروا على “الشمبر” المفقود، وأصلحوا الإطار المعطوب. عاد اللورى يتهادى بنا، وغلب النوم على الركاب، وكان الليل قد أدركنا، لكنى لم أنم، عادت بي الذاكرة الى الشيخ عثمان دقنه والى الشيخ عمر المختار، وقدرتهما الفائقة في التكتيك الحربى دون أن يتلقى أحدهما تدريبا في كلية عسكرية، كما عادت بي الذاكرة الى بحث قصير كنت أعددته عن “نظرية توازن الرعب” التي كان يسير عليها هنري كيسينغر أيام الحرب الباردة. يقول أصحاب هذه النظرية كما يقول الشيخ الفيلسوف تماما: اذا كنت تملك جرابا من الأسلحة النووية، فلا تتعجل باستخدامها عسكريا، ولا تبالغ في إخفائها، بل من الأفضل لك أن تجعل العدو يضطلع عليها، فان معرفة العدو بتفوقك العسكري سيكون رادعا يجعله يفكر كثيرا قبل الهجوم عليك. وتذكرت حديث رسول الله(ص) لأصحابه يوم عمرة القضاء: رحم الله إمرا أراهم اليوم قوة-يكشف عن قدراته القتالية حتى ترتدع قريش ومن معها من الأعراب. ولا قوة الا بالله
ملحوظة: نشرت هذه القصة قبل سنوات طويلة، وأعيد نشرها لعلك تجد فيها بعض ما وجدت.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.