آخر الأخبار
The news is by your side.

بخت الرضا: الزول زولنا

بخت الرضا: الزول زولنا

بقلم: عبد الله علي إبراهيم

لي رأي قديم في أن بلاهة صفوتنا في إدارة شأنها هو غرس بخت الرضا فينا. فقام ذلك المعهد فينا على فرضية استعمارية معروفة وهي أن استعمارهم غيرهم هو استنقاذ لهم من ثقافتهم المتوحشة، أو الفقيرة على أقل تقدير. وصمم الإنجليز منهجهم للتعليم في بخت الرضا على جعل المدرسة هي الفانوس في بلد للظلام الدامس يعاني من أنيميا في الثقافة حادة. وسميت هذه المدرسة بهذه الفلسفة “المرأة الحسناء في منبت السوء” في كتابي “بخت الرضا: التعليم والاستعمار”.

وبلغ سوْ الظن بثقافتنا ب ل ف غريفث[، مؤسس معهد بخت الرضا في 1933، أنه خلص من خلطته بالتلاميذ السودانيين إلى أن خلفيتهم الثقافية والبيئية قاصرة. وله حيثياته عرضنا لها في مقال سابق. ولكن لاحظ مبلغ علم قريفث بثقافتنا. فهو لا يتورع عن التصريح بأن معرفته بها لم تتجاوز خلطته بتلاميذ بخت الرضا. ولا أعرف إن جاز مثل هذا الاستنتاج الكئيب عن ثقافة الإنجليز متي اكتفى الواحد بالخلطة مع طلاب مدرسة لندن الشرقية الأولية.

فأحكام قريفث هنا مجانية. لم يصدر فيها عن بحث جدي في ثقافتنا. ويتعب ليه؟ وهو الذي جاء من وراء البحار ليبدلنا ثقافة خيراً منها. فمن كآبة مقدماته أننا لا نقيم وزناً للموسيقى ونطرب للكلمة دونها. فلو أرخى قريفث أذنه لتلاميذه في عصرياتهم لسمع عزفهم على الزمبارة بما يعرف ب”اللودات”، ومفردها لود، وهي فن معقد تختلط فيها الحكاية والشعر والنغم.

جمعت طائفة من اللودات خلال عملي الميداني بدار الكبابيش في آخر الستينات. ولا أذكرها إلا اتمغصت جداً لأن أمن نظام نميري صادر أشرطة التسجيل في ليلة من أغسطس 1971، وتصرف فيها بالبيع خاماً ونحوه لأنني كاتبتهم من المعتقل وما بعده لردها لي بلا نتيجة.

واسترعت انتباهي خاصية تراكيب اللود من نغم وحكاية ونظم. وأذكر رهاب رهاب لوداً يسمى “الريل جفل”. ولغرض هذه الكلمة اتصلت بالكاتب الشاعر موسى مروح، من أهلنا الكبيشاب الكبابيش، اتذاكر معه هذا الفن من صنع أهله. وسألته عن النظم الذي في أحشاء لود “الريل جفل”. فكان:

معيز الريل

معيز الريل جفلن

من المقيل جفلن

وحات أبوي جفلن

وحات أخوي جفلن

أما من أمتع ما ذكره لي مروح من هذا الفن فلودان. اسم اللود الأول “يا براقة” أما الثاني ف”يا دهيس”. وفيهما طرافة. ف”يادهيس” عن ولاءين: ولاء الحيوان لصاحبه وولاء المضيف لضيفه. فقيل، منغماً بالزمارة، إنه سرق السراق بقراًً لأحدهم وفيها تور اسمه دهيس بمثابة القائد لها. فخرج الرجل يبحث عنها. وفتش طويلاً. وساقه الليل ليبيت عند أحدهم أكرمه حد الكرم. ولكنه سمع، وهو في ضيافة الرجل، صوت ثوره دهيس في مراح الرجل. فأخذ يلود بالزمارة:

يا دهيس أوطينا (رحلة البادية عائدة من مراعي الخريف إلى المدامر سكنها في الصيف).

من أم حجر اوطينا

شلنا أم تبر اوطينا

فسمع دهيس اللود. فخرج دهيس بليله على رأس القطيع ليلقى سيده بام تبر. فبر الثور صاحبه الذي لم يغلط على مضيفه.

أما “يا براقة” فسكسي. جاء عاشق لدار حبيبته ليلاً فنبحه كلبهم. فأخذت الزمارة ولودت:

يا براقه (اسم الكلب) الزول زولنا

طلع السرير الزول زولنا

ولمس أم ضمير الزول زولنا

فتوقفت براقة عن النباح فالزول زولها أيضاً.

غمطنا قريفث ثقافة اللود بزعم خلونا من الموسيقي. فجعل من تعليمنا حرباً على فطرتنا وذائقتنا وسعتنا. فببخت الرضا وقع طلاق البينونة بيننا والمعرفة بأنفسنا. وصار ما نتحصل من التعليم سباقاً للحصول على شهادات هي للترقي الطبقي، في قول لمنصور خالد، لا للاستنارة.

حين أرى وجوم الصفوة في أطيافها كلها حيال المحنة التي تأخذ بخناقنا أقول لنفسي “بئس التعليم”.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.