آخر الأخبار
The news is by your side.

 الوجه و القناع فى الثقافة السودانية

 الوجه و القناع فى الثقافة السودانية

بقلم: احمد الامين احمد
مراجعات فى الأدب و الثقافة

كتاب جديد لفضيلى جماع

فضيلى جماع شاعر وناقد وروائي وكاتب أعمال مسرحية وتمثيليات إذاعية ، وهو كذلك كاتب أغنية مقل لكنه عالى التجويد – من طينة قرشى محمد حسن صاحب الفراش الحاير وخمرة العشاق! وفضيلي جمّاع كاتب مقالات فى الادب والسياسة. موضوعه التأمل فى إبداع وطنه الواسع القديم حسب حدود ١٩٥٦م.

يصنف فضيلى كشاعر ضمن كوكبة شعرية تكاد تكون أخر طبقة رصينة فى الشعر السودانى (حسب مزاجى الخاص). هى مجموعة عالم عباس، محمد محى الدين، عبدالقادر الكتيابى وتندرج بسهولة فى طبقات شعراء السودان الفحول التى تضم جل من سبقهم من شعراء القرن العشرين ومنهم: العباسى، التجانى يوسف بشير، محمد المهدي المجذوب، إدريس جماع و من كان فى طبقتهم المغلقة ادخل. تشهد له دواواينه المنشورة فى أكثر من عنوان منذ ( فى أودية الغربة 1973)- كان وقتها طالباً بالجامعة وحتى(المشى على الحبل المشدود.لندن.٢٠١٦) و بين هذين الديوانين: (الغناء زمن الخوف.الخرطوم ) و (شارع فى حى القبة. القاهرة. ٢٠١٠). وقد تفجرت شاعريته خلال دراسته بخورطقت الثانوية حيث كانت تنشر شعره صحيفتا “كردفان” و”الرأي العام الأسبوعي”. وقد قام الصحفى الكبير الفاتح النور محرر صحيفة “كردفان” النوعية قبيل رحيله بإعادة نشر كل القصائد التى كتبها الشعراء فى صحيفة كردفان قبل التأميم فى كتاب يحمل عنوان : (الشعر فى كردفان).

ولاحظت من فهرس الكتاب ان كلّ الشعراء الذين كانوا ينشرون فى الصحيفة وقتها شعراء كبار وموظفو خدمة مدنية كبار منهم المحجوب الذى عمل قاضيا بالنهود وتوفيق صالح جبريل مساعد مأمور أم روابة القديمة إلى جانب العباسى. والإستثناء الوحيد فى الشعراء حسب السن كان الطالبان: فضيلى جماع ومحمد حامد أدم – والأخير من قرية نبق ريفى الحمادى. وهو من الشعراء الذين كتبوا أجود أغنيات الفنان عبدالرحمن عبدالله، تحديدا أغنية -(ضابط السجن). له التحية حيثما حل .

قصيدة طالب خورطقت وقتها فضيلى جماع المنشورة بصحيفة كروفان قبل عام من ولوجه بوابة جامعة الخرطوم (القديمة) عنوانها: (صدى الكروان).
وقد أهداها بعبارة سحرية فلسفية بعبارة:
وهى نونية تدخل في باب الرومانسية وتتكون من أحد عشر بيتاً يقول مطلعها :
حائر بين ربانا والجنان ** وزّع البِشرَ علينا والحنانْ
إلى أن يقول:
ذهبت أيام امسى وانطوت ** صفحة الحب بقلبى فاستكانْ
أنا لا ارجو عزاء فى الهوى ** حسبى اليومَ دعاءُ الكروانْ

أرجح أن هذه القصيدة منشورة فى ديوانه الأول (فى أودية الغربة ) الصادر عن المجلس القومى للاداب والفنون منتصف سبعينات القرن الماضى. .هذا الديوان البكر حوى الأشعار الأولى للشاعر بعد أن تم تعميده شاعرا بواسطة لجنة من كبار شعراء السودان القديم ضمن مسابقة (الشعراء الشباب) التى عمدت كذلك الشاعرعالم عباس وابى بكر الشنقيطى وآخرين. واوصت بطبع دواوينهم عبر المجلس القومى للاداب والفنون الذى تخضع مطبوعاته لمعايير صارمة. وقد حوى ديوان فضيلى الأول قصيدته (كردفان تصحو) التى شارك بها فى المسابقة. علما بأن الشاعر الكبير تاج السر الحسن قد توقف بقوة على شاعرية فضيلى جماع فى تلك التجربة ضمن مقال له احتفى بكتاب فضيلى جماع (قراءة فى الادب السودانى الحديث).

برزت الموهبة الشعرية لفضيلى جماع باكراً ، وهو فى مقاعد الدراسة. غذتها بقوة مناهج التعليم وقتها ، الى جانب سعة الإطلاع بحرية واسعة عبر عدة ألسن إلى جانب متعة الترحال فى ارض الله الواسعة. وقد تمخض عنها حتى اليوم أربع مجموعات شعرية ، احتلت موقعها على أرفف التأريخ الجمالى ما بقيت الكلمة الرصينة.

وبالرغم من طغيان الشعر على سيرة فضيلى جمّاع عبر أعماله الشعرية إلا أن أول أعماله المنشورة كانت رواية. كتبها ونشرها فى بداية دراسته الجامعية تحت عنوان: (دموع القرية). صدرت عن دار الإرشاد ببيروت.

تدورأحداث الرواية فى فضاء سحرى بمكان ما حيث التمازج المدهش بالغ الثراء والتعقيد فى منعرج تتقاطع به دارفور و كردفان وبحر الغزال فى قرية خيالية تتشابك عناصر الواقع بها والخيال، أسماها المؤلف (خيرات ).

المتأمل لهذه الرواية يحتار فى تصنيفها داخل الاجناس الأدبية لفرط سيطرة الشعر، الضوء، الصورة الثابتة والمتحركة، الدراما عليها. حتى(الغناء) الذى تجلى عبر حنجرة عبدالقادر سالم من أشعار فضيلى جماع من لدن( جيناكى زى وزين) و (ردي القليب جيبى) ومسرحيته الشهيرة (المهدى فى ضواحى الخرطوم ) والتغزل فى الغرنوق..نرى أنه نقل بعض هذه الصور كذلك إلى فضاء روايته الجديدة (هذه الضفاف تعرفنى ) ، في أغنيات ضمن النص السردي، مثل:
يا أمى الخلوق نامت
وانا الوحيد صحيان
شال نومى من عينى
ظبيا كحيل نعسان
يا المحلب المسقى
وين نلقى ليكا بكان؟

لكن الفتح الاكبر والتجلى السحرى فى روايته (هذه الضفاف تعرفنى ) كان دون شك للطبيعة وذاكرة الراوى فارس وهو صوت mouthpiece للمؤلف فضيلى جماع. يقول في الرواية الأخيرة : (هبطنا من التل بمحاذاة ضفة النهر. لاذت طيور الرهو إلى نبات البردى الذى غطى أطرافا من شاطئ النهر. اما الاوز فقد ظل فى قلب النهر. تارة يسبح وأحيانا يطير إلى لجة بعيدة هربا من الضجة وطلبا للامان….) صفحة ١٥٤ طبعة الخرطوم.

وتأمل معى مونولوج فارس واللفظ له:
(هذه الضفاف تعرفنى…اعرفها!
خبرتها وأنا صبى دون العاشرة. عشت حياة الظعينة عبر السهول المترامية وراءها مد البصر. يكاد الفرد من العشائر التى تعيش فى هذه السهول الممتدة أن يعرف اوديتها الوادى تلو الاخر. ويذكر أشجار الكوك والخروب و الجميز شجرة إثر شجرة…..) المصدر السابق ١٥٥.

إلى جانب التشكيل والزخرفة المحلية الإفريقية : (…..اناء من القرع يزينه من الخارج وشم افريقي جميل ) قدم به مضيفه من قبيلة الدينكا وجبة أكب المحلية لضيفه فارس. ازدانت الرواية بمستويات مختلفة عالية الجودة من اللغات واللهجات. وهذا ليس مستغربا فى وسط لغوى شديد الثراء هو تلك المنطقة الجغرافية التى شكلت فضاء السرد.

يبدو لي أن فضيلى جماع لم يكتب رواية (هذه الضفاف تعرفنى ) عبر يراع أو لوحة مفاتيح بل صورها عبر كاميرا بالغة الحساسية تخاطب كل الحواس كالشم ، البصر و السمع إلى جانب اللمس و الذوق وقد ساعده على ذلك التصوير الخرافى حبا لتلك المنطقة حيث تدور معظم مشاهد الرواية من خلال تيار الوعى بطبيعة عذرية بالغة الثراء وبخاصة النبات و الطيور المهاجرة والأنهر وبرك الماء فى فصل الخريف.

تعج رواية (هذه الضفاف تعرفنى ) بعدد من الشخصيات اللصيقة بالواقع. حيث يمثل فضاء (رويانة) مركز الحدث الجمالى. وهى ذات (خيرات) فى (دموع القرية ) مع تبدل فضاء الزمن وتشابك الأحداث وتعقيدها عقب التغيرات السالبة على مستوى الأخلاق والسياسة والاقتصاد الذى اعترى الوطن بأكمله وشهدت عدد من جهاته(حروب هوية وموارد) فى باب الدراما كتب فضيلى جماع مسرحية (المهدى فى ضواحى الخرطوم). حيث اسقط من خلالها لحظات مضيئة من تأريخ وطنه الثورى على حاضره السياسى فى (أدب المقاومة) ضد نظام مايو حين فقدت البوصلة. كما كتب عدة مسلسلات للإذاعة هى:

(العصافير تهاجر) ، (الشمس و القطار) ، (كان زمان) و (حكاية حب فى الزمن الصعب) والتي لم ترمسودتها استديوهات الإذاعة بعد.
وفضيلى جماع كاتب مقالات رفيعة القيمة، ذات لغة شعرية وصور درامية عالية السبك فى الادب والسياسة. ومتأمل فى إبداع وطنه الواسع القديم حسب حدود ١٩٥٦. و قد قام بالإدلاء بشهادته فى إبداع وطنه حين كتب سلسلة مقالات راقية جدا فى أكثر من صحيفة ومجلة (قبل 30يونيو 1989) وقام حين ضرب فى ارض الله الواسعة بنشره من حُر ماله فى كتاب هو (قراءة فى الأدب السودانى الحديث ) الذى نشره بمسقط فى فترة وجوده الأول بسلطنة عمان. علما أن له مقالات سابقة لها لم تظهر بعد فى كتاب أشهرها تلك التى نثرها ونشرها للسابلة على الصفحة الأخيرة من صحيفة( الايام) عبر تلك(اليوميات) التى تبارى فيها كيشو، ابن البان،عمر بشير، التجانى عامر ومصطفى سند وأبو امنة حامد وكوكبة من أبرز كتاب السودان القديم.

فى هذا العام ٢٠٢٠ صدر لفضيلى جماع كتابه الثاني في النقد تحت عنوان: (الوجة والقناع فى الثقافة السودانية ) – مراجعات فى الأدب و الثقافة. وقد حوى ثلاثين مقالا، سبع عشرة منها فى باب الأدب و الثقافة. وما تبقى يندرج تحت باب الهم السياسى الذى شكل سمة بارزة فى النشاط الفكرى لفضيلى فى سنوات حكم الترابى والبشير عبر مشاركة فاعلة سلاحها القلم
الملفت فى بعض مقالات الادب و السياسة فى هذا الكتاب هجرة عدد من مقالات (قراءة فى الأدب السودانى الحديث ) الصادر قبل ثلاثة عقود. لكن من يتأمل المقالات المهاجرة إلى الكتاب الجديد يجدها قد تم احكامها وضبطها وتهذيبها وتوسعتها عبر مراجعة دقيقة وشاملة بصورة جعلتها كأنها قد كتبت لأول مرة. مع ملاحظة أن مقالا جديدا حول عالم عباس قد ظهر فى هذا الكتاب ليصبح المقال الثالث الذى كتبه فضيلى عن مجايله عالم عباس الذى كتب عنه فى كتاب المقالات الأول كذلك. تجلى محمد عبدالحى ومصطفى سند والفيتورى(قبره بمغرب الشمس) عن جدارة واستحقاق فى الكتابين خاصة انهم من أكثر شعراء السودان القديم انشغالا بالهوية التى شكلت أحد محاور الكتاب الثانى فى نصفه الأول.

من ماثر مقالات الكتاب تخصيص بعضها للمبدعين من الجيل الجديد فى الادب السودانى مثل محسن خالد، عبدالغنى كرم الله، بركة ساكن و ( قاص موهوب إسمه مريود) وهو القاص عبدالحفيظ مريود.

من الأشياء الموجبة فى هذا الكتاب تخصيص أكثر من مقال لبعض أبناء السودان القديم من منطقة ابيي هما : فرانسيس مدينق دينق وأخوه السلطان كوال دينق مجوك.
تنوعت مجالات الكتاب عبر السياحة بمتعة بين الشعر والرواية وأدب الأطفال.
صدر الكتاب عن دار (نشر رفيقى) بدولة جنوب السودان فى دلالة أن الوحدة الثقافية رغم التعدد بين مكونات السودان القديم لاتزال سارية بين أبناء الوطن القديم رغم فشل الساسة فى الحفاظ على وطن شاسع مساحته مليون ميل مربع، يمتاز بثراء الموارد والبشر واللغات والعادات.
شكرا استاذ فضيلى جماع على متعة القراءة وعلى النسخة الإكرامية.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.