الذائقة بين التدهور والسمو
الذائقة بين التدهور والسمو
بقلم: ناصر عراق
هل بإمكان أي قارئ أن يتذوق شعر شوقي أو حافظ أو نزار قباني ومحمود درويش؟ وهل يستطيع أي متابع لفن الرواية أن يكتشف بيسر روعة نجيب محفوظ وفرادته؟
السؤال نفسه يجوز طرحه عند الكلام عن عالم الموسيقى والغناء والسينما والفنون الجميلة مثل الرسم والنحت والتصوير الزيتي،
فليس كل امرئ بقادر على التفاعل والانفعال والتمتع بما يترنم به عبدالوهاب وأم كلثوم، أو بمنحوتات محمود مختار وجمال السجيني أو لوحات محمود سعيد وعبدالهادي الجزار إلى آخره.
من هنا نقول بيقين كبير إن القدرة على تذوق الآداب والفنون ترتبط ارتباطا وثيقا بمستوى ثقافة الإنسان ومدى اطلاعه على ما أنجزه المبدعون في المجالات كافة،
فمن الصعب جدًا أن نرى رجلا محدود التعليم يطالع شعر المتنبي أو يقرأ رواية لماركيز، أو نصادف شابًا أميًا يعي فحوى قصيدة (مضناك جفاه مرقده) لشوقي وعبدالوهاب، حتى وإن دندن بموسيقاها.
لقد لاحظت في الآونة الأخيرة انتقادات واسعة يوجهها بعض الشباب على صفحات التواصل الاجتماعي لمبدعين كبار تحت عبارة (إنه اختلاف الأذواق)،
فهذا يعلن كراهيته لأم كلثوم وعبدالوهاب، وذاك يفاخر بعدم إعجابه بـ (الحرافيش) لمحفوظ وانزعاجه من (مائة عام من العزلة) لماركيز،
والسبب أن (ذوقه) لا يتوافق مع هذا النوع من الغناء أو الرواية، ثم يجد أولئك الكارهون وهؤلاء المنزعجون من يعزز آراءهم بأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد اختلاف في (الأذواق)!.
صحيح أنه اختلاف في (الأذواق)، ولكن بأي منطق؟ أي أن الذين حرمتهم الظروف من تحصيل المعارف المطلوبة لتطوير وعيهم وذائقتهم، لا يمكن أن يقاسوا بمن عكفوا على القراءة والاطلاع والاستماع من أجل النهوض بوجدانهم ومشاعرهم وعقولهم،
الأمر الذي يؤكد أن (الذوق الرفيع) وراءه إنسان بذل جهدًا كبيرًا ليرتقي ويسمو، أما أصحاب (الذوق البسيط)، ولن أقول (السوقي أو المبتذل)،
فهؤلاء مساكين لا يدركون كم فاتهم من إبداعات راقية، وتركوا أنفسهم لقوانين السوق الذي يفرض، في معظم دول العالم الثالث، أعمالا (إبداعية) قليلة القيمة تلبي (أذواق) البسطاء معرفيًا وثقافيًا وفنيًا.
لا يغيب عن بالك أن هناك دومًا أعمالا رائعة عالية القيمة والمقام، مثلما ثمة أعمال شاحبة باهتة لا تصمد للأيام،
فالزمن الذي شهد تألق أم كلثوم وعبدالوهاب، ظهر فيه أناس محدودو المواهب استطاعوا أن يلفتوا نظر بعض الجمهور،
لكن الفن العظيم هو الذي انتصر لأن الذوق العام المسيطر حتى منتصف السبعينيات كان راقيًا يعي الفرق بين الشهد والحنظل.
أما الآن، فمن أسف، تنتشر بكثافة (روايات وأغنيات وموسيقى وأصوات) محرومة من الحدود الدنيا المطلوبة لكل فن جميل، ومع ذلك يقبل عليها الكثير من الشباب بزعم (اختلاف الأذواق)!.
إن مهمة الارتفاع بالذوق العام تقع بلا جدال على كاهل الدولة، إذ ينبغي أن تضع الخطط والميزانيات الكفيلة بنشر الأعمال الإبداعية الراقية والترويج لها عبر الوزارات والمؤسسات والأجهزة المعنية،
فمتى يتحقق ذلك؟.
