آخر الأخبار
The news is by your side.

الأولويات الانتقالية لثورة السودان .. والباب (البجيب الريح) “1”

الأولويات الانتقالية لثورة السودان .. والباب (البجيب الريح)

بقلم: د/عوض الجيد محمد احمد

 

قوة الشعب الأعزل:

في رائعته (الحرب والسلام) يروي (تولستوي) أنه عندما دخل (نابليون) موسكو بعد أن أخضع معظم أوربا لسلطانه- بما فيها إيطاليا مركز المسيحية وألمانيا مهد التنوير المسيحي- استغرب من كثرة الكنائس في موسكو وكأنه توجس شراً غامضاً بحسه النفاذ وحاسته الأمنية التي تشم رائحة المخاطر العسكرية. فكنائس موسكو لم تستقبل الجيش الغازي بأجراسها وصلواتها المرحبة، بل تحولت إلى مأوىً للجنود المهزومين وللمشردين والسكارى وصارت مخازن للمؤن والسلاح.

لم يأته رجال الدين مسلِمين للغازي المنتصر، كما توقع وكما فعلوا في بلدان أخرى اكتسحها نابليون. وكان توجس (نابليون) في محله. فقد أحرق رجال الدين الكنائس ومخازن المؤن وشاركهم في ذلك السكارى والمشردون والهائمون في الطرقات بلا مأوى والجنود المنهزمون والفارون من زحف (نابليون). اشتعلت موسكو كلها نيراناً في وجه الجيش الغازي واحترق حتى مبنى الكرملين حيث كان الامبراطور يتجهز لاستقبال علية القوم ليسلموا على الفاتح العظيم ويتبوؤا المراكز التي يجود بها عليهم.

قاد التدين الفطري، البعيد عن التسييس، وحب الوطن الصادق المجرد عن كل نزغ حزبي أو طائفي، جموع الشعب الروسي لتحديد الأولوية الوطنية الأهم وهي دحر الجيش الغازي لا الاستسلام له. لم يخطر ببال الامبراطور الفرنسي الغازي ولا الامبراطور الروسي المتقهقر أن الجيش الفاتح سينهزم – لا بقوة الجيش الروسي – ولكن بإيمان الشعب الموسكوفي وبسلامة فطرته وحبه لوطنه ولإدراكه لأولوياته الوطنية عندما يكون الوطن كله في مهب الريح. هذا الإيمان الجماهيري العارم لم يحترق مع الكنائس – مهد العبادة- ولم يتبخر مع زعيق المتدينين الأجوف الذي يصل إلى عنان السماء في السلم، ويتحول إلى شعارات خاوية حينما يتعلق الأمر بنهب قوت الدهماء والضحك عليهم.

إن الدرس المستفاد من ردة فعل المواطنين الروس البسطاء على هتك بلادهم هو أن تكامل الشعب والأرض هو صمام الأمان لبقاء أية دولة يتهددها خطر الزوال بسبب عبث أبنائها أو طمع أعدائها. ولن يكون أيٌ منهما بخير إذا تخبط الثوار أو قادتهم فضاعت أولوياتهم الثورية.

وبذات الأسلوب الذي تحدث عنه (تولستوي) قهر الشعب السوداني الأعزل نظاما قويا صلباً قام على الصخب الديني الذي يصم الآذان، أكثر منه على الوطنية الصادقة أو قيم العدالة والحكم الرشيد القائم على مخافة الله. لم تكن الثورة الجماهيرية ثورة يسار منظم أو فورة أحزاب تقليدية لها أتباع نمطيون. بل كانت ثورة كل شباب البلاد اليافع من كل حدب وصوب والذين حركتهم الفطرة السليمة تماما كما حركت أهل موسكو ضد جيش نابليون.

فلأول مرة في تاريخ السودان صام مئات الآلاف من الشعب السوداني الأعزل شهر رمضان وصلوا العشاءين والتراويح في ساحة القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية لا يفرق بينهم حزب ولا لون ولا عرق ولا جهوية. وكان إجماعهم خالصا وصادقا لا تحزب فيه إلا للوطن والديار. ولذلك حينما دهمتهم جهات مسلحة حتى النخاع وطحنتهم بآلتها العسكرية في ليلة القدر من شهر رمضان الكريم ذلك العام استشهد أبناء الشعب الأعزل من مختلف الطبقات دون أن يزعم أي حزب أو فريق أنه هو من قدم الشهداء. بل إن الشباب السوداني الأعزل هو الذي قدم القرابين فداءً للوطن وللأمة كلها.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.