آخر الأخبار
The news is by your side.

ما الذي أنعيه على سياسيينا (٤)

ما الذي أنعيه على سياسيينا (٤)

بقلم: الباقر العفيف

“وإذا الموءُودة سُئِلَت بأي ذنب قُتلت”

السيد الصادق والقدرات الخارقة
السيد الصادق يؤمن بأن له “صفات نادرة” لا تجتمع في شخص واحد “لا في الغرب ولا في الشرق”. كان من الممكن أن يوظف هذه الصفات النادرة، لو كانت حقيقة لا وهما، ليصبح حكيم القوم، وملاذ الناس وجامع كلمة السودانيين. ولكن لا يؤهله للعب هذا الدور إلا شروط ثلاثة، زهده الشخصي في السلطة، وارتفاعه عن صغائر الأمور، واحتضانه هموم الوطن وقيم الثورة. فهل هو قادر على تحقيق تلك الشروط؟ سنرى.

ما هي قدرة الصادق على توحيد السودانيين
كتبت في مقال سابق إبان الاعتصام متسائلا لماذا لا يؤم السيد الصادق المهدي المعتصمين في صلاة الجمع وصلاة التراويح بدلا عن ذلك الإمام التكفيري المدعو وهران. وقلت بأن ذلك كان مما يُمَتِّن صلته بشباب الثورة ويقوي ثقة الجميع فيه. ولكن يبدو أن ما حال بينه وبين أبنائه المعتصمين حديثه غير الموفق عن “ثقب الأوزون” والاحتباس الحراري لدى عودته من منفاه الاختياري في أواخر ديسمبر ٢٠١٨ بينما البلاد تغلي بالمظاهرات. وأحاديثه التي تشكك في نجاح المظاهرات من شاكلة “ما وجع ولادة” و”بوخة المرقة”. أما قاصمة الظهر فكان نفيه المشاركة في المظاهرة التي خرجت من مسجد ود نوباوي في أخريات مارس ٢٠١٩، بالرغم من أنها كانت كفيلة بأن تجُبُّ كل ما كان قبلها من مواقف متخاذلة.

وما زلت أذكر عبارات الصحفي خالد عويس المنتشية وهو يفاخر برئيس حزبه، وكأنه يردد مع الفرزدق بيته الأشهر “أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ”، حيث كتب قائلا:

“رئيس حزب الأمة القومي وإمام (الأنصار)، السيد الصادق المهدي، يقود بنفسه تظاهرة خرجت من مسجد ودنوباوي، اليوم!
إمام (الأنصار) يخالف توجيهات (فريق الحماية)، و..يخرج
ورسالة (الخروج) في بريد أكثر من طرف
رسالته، أولا، في بريد الملايين من أعضاء حزبه وكيان الأنصار في كل شبر من السودان
هي رسالة (شديدة الرمزية) بالنسبة لهم
وهي تعني أن الأرض ستخرج أثقالها في مقبل الأيام
وأن ٦ أبريل سيكون يوما تاريخيا
هي رسالة، تعني ببساطة أن حزب الأمة القومي (ينزل) الآن بكل ثقله، كله
وكذا (الأنصار)
رسالته، ثانيا، في بريد النظام: ألا تراجع
وثالثاً، في بريد (عبدالرحمن): تأخرت في (الخروج)، واخترت الصف (الخاطىء)
ورابعا، في بريد القوى الإقليمية والدولية: ليس الشباب وحدهم في الشارع، (الشيوخ) أيضاً، قادة القوى السياسية من الصف الأول، القادة الدينيون، القادة المهنيون، السيدات، الشباب، محبو كبار الفنانين، والأندية، العمال، المزارعون، الرعاة، الطلاب، التلاميذ
اختلفت، واختلفنا كثيراً مع (الإمام)، وها هو اليوم (يخرج) في سابقة تمنح الثورة زخما هائلا، وترسل (إشارات) كثيرة.
ليس تقليلا من شأن أي أحد، لكن خروج السيد الصادق المهدي يعني (رسالة) للملايين، وهو وقت (وحدة) الشعب السوداني كله على (قلب إمرأة واحدة)” (انتهي)”

نعم كان ذلك سيكون وقت وحدة الشعب السوداني كله تحت قيادته، وإعادة إنتاج الإمام بطلا شعبيا بلا منازع، فقط لو أنه رَكَز ولم يَتَلَجلَج. ولكنه بكل أسف “إنفزر” كما يُعَبِّر أهلنا في الريف، ونَسَفَ كل الرسائل التي أرسلها خالد عويس وهي في الهواء قبل أن تصل بريد المعنيين بها. كانت تلك صدمة ليس لخالد عويس وجماهير حزب الأمة وحسب، ولكن لجموع الثوار وللشعب السوداني قاطبة. ذلك الشعب الذي ما يزال ينتظر قائدا في قامته وشموخه وجسارته. الشعب الذي لم يجد من قادته الذين يملؤون المشهد الآن سوى الإحباط تلو الإحباط تلو الإحباط.

استغرب الناس نفي الصادق المهدي لذلك الشرف الرفيع، شرف خروجه في قيادة المظاهرات، وهو الشيخ الثمانيني، مما يُعتبر من أعمال البطولة التي تُخَلِّد الإنسان وتظل مفخرة للأجيال أبد الدهر. وأمامنا المأثرة التي تركها شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه والتي ستظل معلما بارزا في حياة الإنسانية جمعاء إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. كان ذلك الخروج سيحقق أنشودة وردي الأكتوبرية “إلتقى جيل البطولات بجيل التضحيات.. إلتقى كل شهيد قهر الظلم ومات… بشهيد لم يزل يبذر في الأرض بذور الذكريات”. كنا نظن الصادق سوف يستلهم سيرة الشيخ بانقا الضرير في القرن السادس عشر عندما قال له الشيخ تاج الدين البهاري: “لا أعطي الطريق إلا بالضَّبِح”، وكان سبقه لأخذ الطريق بهذا الثمن الفادح محمد ولد عبد الصادق، الذي عُرِفَ فيما بعد باسم الشيخ الهميم، وكان صبيا عريسا. عزم الشيخ بانقا الضرير أخذ الطريق بالضبح عندما رأي ما ظنه دم ولد عبد الصادق يسيل من داخل الخيمة. وكان الشيخ بانقا كبير السن، فقال قولته الشهيرة: “أنا توراً كَمَّل كِراه. إذا كان العريس انضبح أنا ما بنضبح”. علما بأن المخاطر التي كان يمكن أن يتعرض لها السيد الصادق جراء خروجه في المظاهرة لم تكن لترقى لدرجة “الضبح” بأي حال من الأحوال.

ولكن الصادق لم يكتف بنفي مشاركته في المظاهرة، وإنما ذهب في تبرير خروجه ومشيه في الشارع، وكأنه يجلس أمام محقق فظ متخيل من رجال الأمن ينتهره قائلا: “إنت المرقك من بيتك شنو؟” فيجيب الصادق “والله العظيم كنت ماشي لمناسبة اجتماعية في الحي”. بدا ذلك التصريح شاذا ومُحَيِّرا للناس، حتى لو كان صحيحا أنه لم يكن ينوي الخروج في المظاهرة. لأن ذلك النفي خَصَمَ من رصيده السياسي وعرَّضه للنقد اللاذع والسخرية والتهكُّم. وأذكر أن هذا الحدث كان مادة حديث مجموعة من الأصدقاء جاءوا لزيارتي وأنا على فراش المرض تلكم الأيام. وأذكر أن أحدهم كان منفعلا يردِّد بغضب وحيرة:”الجابرو شنو.. بس أنا داير أعرف الجابرو شنو”؟ ثم يضيف:”يا جماعة مش أهلنا يقولوا كان قالوا ليك سمين قول آمين”؟ ولقد خلص النقاش في تلك الجلسة إلى أنه ربما مُورست عليه ضغوط من الكيزان، أو وصلته تهديدات من جهاز الأمن. وعلى كل حال أجمعت تلك المجموعة أنه لا بد من أن يكون أُجبِر على ذلك فَرَضَخَ.

وعموما فسِجِلُ السيد الصادق في تاريخ التحالفات التي دخل فيها يشير بقوة على أنه كان العامل الرئيسي في القضاء عليها. فهو لم يكن عامل وحدة في أي تحالف سابق. واتهمه البعض بأنه يدخل التحالفات خصيصا بغرض تقويضها وتفجيرها من الداخل. وهو الآن أعلن خروجه النهائي من قوى إعلان الحرية والتغيير وسعيه لتكوين تحالف اليمين العروبي الإسلامي وهو بذلك يساهم في أكبر استقطاب ستشهده البلاد ربما أدى لتقسيمها إلى خمس دويلات، تلك التهمة التي رمى بها اليمين المسيحي الأمريكي ونسي نفسه. فالصادق ليس فقط لا يستطيع أن يوحد السودانيين حوله، وإنما سيكون عامل شقاق وانقسام مجتمعي حاد وضار بمستقبل الثورة والبلد وبه هو شخصيا.

لهذا لم يزر الاعتصام
ويبدو أن كل تلك الأسباب مجتمعة منعته من الذهاب لساحة الاعتصام. خصوصا وقد رأي الرفض الذي واجه به المعتصمون كلا من غازي صلاح الدين ومبارك المهدي. وللأسف، فبدلا عن تلافي مثل هذه السقطات أوغل السيد الصادق في درب الاغتراب عن نبض الشارع، وظل يتعامل مع الحكومة الانتقالية كغصة في الحلق، وشوكة في الجنب، وحائل بينه وبين السلطة. وهو الآن في حالة سعي حثيث لإزاحتها من طريقه. كما إنه ظل مصدر قلق دائم لحلفائه، يُخَيِّرُهُم بين إحدى خصلتين، إما الهيمنة التامة على قوى إعلان الحرية والتغيير، أو الخروج عليها واستبدالها بعقده الاجتماعي.

وكذلك يضع الحكومة أمام إحدى خصلتين، إما الخضوع التام لإملاءاته، لدرجة أن يصبح هو من يضع قانون الحكم الإقليمي، وهو من يُعَيِّن نصف الحكام، وهو من يفرض حُكَّامَ لولايات معينة من خلفيات عسكرية، بمنطق رث، مما يجعله رئيس الوزراء الحقيقي، ويحيل الدكتور حمدوك إلى مجرد سكرتير للسيد الإمام. أو ، في حالة عدم الرضوخ له، دمغ الحكومة بالفشل وهدمها من الأساس. فانظر يا هداك الله مثل هذه “المِحَن المتلتلة”. لا شك إن خروج حزب الأمة من قوى إعلان الحرية والتغيير سيضعفها، وأن هجومه المستمر على الحكومة الانتقالية أيضا سيضعفها. ويبقى السؤال الكبير ما العمل؟ هذا ما سوف نفرد له مقالا مستقلا فيما بعد.

نواصل

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.