رسالة إلى قبر أبي.. خالد عبدالحميد عثمان
رسالة إلى قبر أبي
الراسل….
خالد عبدالحميد عثمان محجوب
العنوان: مقابر فاروق، الركن الجنوبي
الغربي، الخرطوم، بؤسستان.
يجد روحه في برزخها بخير في روْح وريْحان…
السلام والاحترام المستحق لمقامك السامي سيدي الأستاذ والأشواق الكثيرة.
أمَّا بعد
بدءاً نعتذر عن انقطاعنا عن زيارتك بل ما عاد في الإمكان فعل ذلك!!! لعلّك تتساءل أين الناس ولم طالت غيبتهم؟ أو لماذا ازدادت وحشة المكان وانقطعت خطى الزوّار! ويقيناً أن الحيرة تملكتك وكل جيرانك، فما من قدم تمشي بحذر بين المراقد ولا من أكفٍّ ترتفع بفاتحة الكتاب وتتضرَّع للرحمن الرحيم، ولا عابر يُلقي السلام. أكتب لك اليوم مُحاولاً الإجابة،
سأوجز لك ما أحدث القومُ بعدك وكيف أن كل طغاة العالم نزلوا بساحات الوطن الذي أحببت، أتى نيرون يحمل نيرانه، فأحرق المدن والقرى كما فعل بروما، أتى جنكيز خان يتبعه المغول وحملاته الوحشية ما تركت ركناً من السودان الوادع إلا وأسرفت في القتل والتنكيل، عبث التتار بأرضنا وكما غزا هولاكو بغداد وسالت الدماء أنهاراً فهاهي الخرطوم تنزف وألف هولاكو ينهش لحمها. وجلب أبو جهل خيله ورَجِلِه، فأضحى باطن الأرض حيث أنت أسلم من ظاهرها، مات الكثيرون وما عاد هناك من يدفنهم، فصارت كل الشوارع مدفن. والبعض للأسى لا يجد من يدفنه! أصبح وجود قبر يستر ميتاً ترفاً، ومن لم يمت، نزح فصارت كل الأرض منفى، وحلَّ البؤس وأقام. هي الآن بؤسستان!
قبيل الانفجار كان الناس في نضالهم الرائع ليكتمل قمر الثورة وفي ترقّبهم الكبير لتشرق شمس الوطن المرتجى، بدلاً عن ذلك هبط بأرضنا إعصار فيه نار، اشتعلت كنار المجوس فلا ارتوت الأرض من رذاذ الحرية ولا جاءت الحمائم بالسلام ولا نزل مطر العدالة، انطفأت النجيمات المضيئة وغادر الغيم وبات النيل حزينا وأطلَّت السنين العجاف، سرقت لُعبة الطفل وقرط الطفلة وصورة الجد المُعلَّقة والأقلام والألوان والأحلام، ذبحوا الماضي وبعض المستقبل.
عن النهب والسرقات لن أحدِّثك فقد سُرق الوطن، فماذا بعد ذاك؟ ولله الحمد أنَّ توفاك ودفنَّاك على الإسلام ولم تُدفن كما قبائل المايا والإنكا أو كملوك الفراعنة الَّذين تُدفن مجوهراتهم ومقتنياتهم الثمينة معهم، فلو كنتَ أو جاورك أحد منهم، لكنتَ رأيت القبور تُنبش، والأساور تُنزع والأصابع تُقطع لأجل خاتم من فضة. لا تندهش سيدي فالأمر بهذا السوء فالحرمات قد استبيحت وتلاشت الفواصل بين الصواب والخطأ وبين الحق والباطل. تغلغل الظلام إلى كل المسامات وبدأ المشهد كله يتدحرج نحو العدم.
يقولون أن الأمر بدأ بمحاولة لمحو تلك الثورة التي وهبتها قلبك وساعدك وأنت تتكئ على ثمانين ونيف ويقولون غير ذلك، وما عادت معرفة ذلك تهمُّ كثيرا. فالكل هناك هو السياسي المُلهَّم والخبير الحصيف، يسمُّونه (استراتيجي) امعانا في الخداع، والتخوين يتوفَّر بكثرة وهو على كل لسان، فما أيسر إطلاق النعوت على من يخالف رأيك، الكل يدَّعي امتلاك الحقيقة، كيف لا وطريقته هي المثلى ورأيه هو الصواب المطلق والآخرون هم الخونة، وما عادت دهور من النضال والتاريخ الناصع تشفع.
يبدو أنَّ الشيطان نفسه قرَّر أن يستريح قليلاً ويترك هذه الديار لفاقدي الإنسانية فهم أبرع منه، لعلّه اتَّخذ قرار الرحيل وهو فاغر الفاه دهشةً، مُلقي السمعَ مُصغياً ليتعلَّم فنوناً جديدة. فقد كان قبلها منهمكاً في بعض الموبقات صغائرا كانت أم من الكبائر من تلك التي اعتاد الناس عليها. شيطان يحفر بإزميل من حديد صدئ في معدة خاوية من الطعام ليُجمّل لرجل سرقة بضع دنانير، أو لآخر تعاطي المحرَّمات أو يُزيّن لتاجر الغش، كان أقصى فعل الشياطين أن تؤز الناس أزّاً. نعم كانت الأوزار تُلطِّخ جدار المجتمع والأمكنة، لكن كان هناك جدار ومجتمع وأمكنة، الآن دمَّروا الجدار نفسه وانتهكوا المجتمع وما عادت هناك أمكنة! بدأ الزمان والوجود ذاته في التلاشي، هي الشرور حين تصل إلى ما لا يخطر على قلب بشر، غادر الشيطان بؤسستان فما عاد مطلوباً فبعض المحسوبين على الإنسانية يمارسون ما يستحي عن فعله.
فات علي أن أخبرك، أن بعض الأوغاد دخل غرفتك، محرابك المقدَّس حيث البقية من صحفك وأوراقك وأدوات معارفك التي أمضيتَ حياةً باهرة في التبشير بها، دخلوا بحثاً عن ديموقراطية! غالب ظنِّي أنهم ما وجدوها فمن عاش مُعلِّماً سني عمره ينشر الاستنارة مهموما بالوعي والديمقراطية ذاتها (يا للصدفة) ما كان ينبغي أن يكون في محرابه سوى بقية من كتب وبدايات لمقالات وقصاصات لقصائد ونشيد ورؤوس أفكار مخطوطة عن سودان كنت تتمنى رؤيته. حدّثنا من دخل غرفتك بعدها، أنَّ أوراقك سليمة لكنها مبعثرة كيفما اتَّفق. لعلّك قصصت علينا عن بائع الكتب الذي يتركها بلا رقيب، وحين يُسأل يقول أن من يقرأ لا يسرق، ومن يسرق لا يقرأ. وهذا للدقَّة ما حدث.
الكتبُ هناك لازالت وحيدة تُحدِّق في الفراغ الذي أحدثه اجتياح منزلك الذي بُني بالعرق والسهر. أنتَ والذكريات. هو كل ما تبقى لنا من مليون ميل كانت محتشدة بالجمال والخير والمحبة! أنتما فقط وذهب كل شيء. يؤسفني إخبارك أيضاً أن من ضمن ضحايا المأساة، محبوبتك الأثيرة (اللغة العربية) فقد انتحرت في فوضى الواقع وأنبت خطاب الحرب القبيح مفردات لا تنتمي للجمال، لو سمعتها يا أستاذ لحسبتها اللغة السنسكريتية.
وفي الختام لك السلام وبالغ المحبة وبلَّغ عنَّا السلام لكل من معك ونبِّئهم أنَّ السلام قد غادر مع من غادروا،
وأخبرهم أن تاريخ السودان قد أُضيفت له صفحات كالحة السواد وأن جغرافيته التي عرفوا، في طريقها بثبات نحو الزوال.
ملحوظة: كنتُ أتمنى أن يكون مكتوبي هذا يحمل لك أخباراً أكثر اخضراراً لكنَّك ما علَّمتنا إلا قول الصدق.
وسلام الله عليك ورحمته ومغفرته
وما بعد الختام:
إن كنت تقرأ هذا ووجدت نفسك نواحي مقابر فاروق فقف وترحَّم على ساكنيها وعلى الوالد الأستاذ عبدالحميد عثمان فقد كان من بهاليل الرجال وعظمائهم.