الشاعر والحرب..استهداف أزهري أم القصيدة؟
الشاعر والحرب..استهداف أزهري أم القصيدة؟
بقلم: صلاح شعيب
قبل أيام ثار الجدل حول قصيدة للشاعر أزهري محمد على مضمونها مطالبته بإيقاف الحرب. وقصدنا ألا ندخل ذلك الجدل حتى ينتهي إلى زبده الذي يذهب جفاءً. ذلك لإحساسي أن بعض الأمر كان فيه تبييت النية المسبقة ضد مواقف الشاعر. أو قل
إن الموضوع برمته كان من أفاعيل الجماعة مع البلابسة، والذين يحاولون السيطرة على الرأي العام، وتوجيهه عبر مهام تضطلع بها غرف إعلامية محددة الوظيفة. أي “سواقة الناس بالخلا” كما دلت عبارة العارفين بمهام هذه الغرف، والتي ظلت بعد نجاح الثورة تشوه رموزها السياسيين، والأدباء، جملة واحدة.
وأزهري أعداؤه كثر من الذين وقفوا مع الاستبداد الذي نافح ضده. ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الداعمين لاستمرار الحرب، إذ بينهم من كانوا مع الشاعر في خط الثورة ضد الظلم الإسلاموي.
والحقيقة أن هذه الحرب جمعت بعض الثوار في خندق واحد مع الجيش، وآخرين مع الدعم السريع، أي أن كل ثوار ديسمبر، ومؤيديها، لم ينضموا إلى صف المنادين بإيقاف الحرب. فبعضهم لأسباب إما جهوية، أو نتيجة كراهية تجاه طرفي الحرب، فضلوا الانحياز لطرف، ودعمه بشكل مباشر، ومستتر أحياناً.
والملاحظة الأهم أن كثيراً من مؤيدي ثورة ديسمبر تبعثروا في مواقف مناقضة لأزهري، وهو أحد شعراء الثورة، وبالتالي لم تسلم القصيدة المعنية من زحف النقد غير الأدبي عليها. فبناءً على موقع الناقد المؤيد لاستمرار الحرب والرافض لاحظنا الهجوم على القصيدة، والشاعر، وكذلك الدفاع عنهما. وكما نعلم فإن للنقاد أجندة، أو قل إن لكل من يكتب في المجال العام بعض أهداف ظاهرة، وأخرى مبطنة.
والناقد – أي ناقد – ينتقي موضوعه لدعم إما مواقفه السياسية، أو المناطقية، أو الجيلية، أو الأيدلوجية، أو الفقهية، أو المذهبية، أو الاستنارية. والناقد كذلك ليس هو شخص مجرد من الموقف تجاه العالم، والأشياء، وطبيعة الممارسة الاجتماعية، سواء كان محترفاً، أو هاوياً، أو مواطناً ناقداً منحته التطبيقات الجديدة الفرصة للدلو بدلوه.
وبرغم أن من المقبول نقد الصور الفنية لقصيدة أزهري، وتركيبتها، ووزنها، إلا أننا رصدنا أن الحوار حولها انحرف في مرات ليشكك في الاستقامة الوطنية لأزهري محمد علي. وبعض من الكيزان حاولوا ابتزازه من موقع مناطقي، وطالبوا أن ينظر للحرب من زاوية أنها حرب كرامة، ووجود لأهله، أكثر من كونها نوعاً من تجليات الصراع الطبقي على السلطة، أو أنها حرب بين قوتين عسكريتين اجتمعتا على حيازة السلطة، والثروة، والنفوذ، على حساب كل السودانيين، وليس أهل أزهري فحسب.
واعتقد أن ذلك كان الهدف الجوهري للذين روجوا للحملة ضد القصيدة، وأزهري. فهدفهم لم يكن إلا خلط الأوراق لينالوا من قامة الشاعر الكبير. وكانت بصمة الإعلام الإسلاموي واضحة في هذا الشأن.
وأزهري الذي أعرفه لمدى قارب الأربعة عقود لو وزنوا استقامته في كفة مع أخلاق الكيزان في أخرى لرجحت كفة الشاعر. فمحاولة الاتهامات العديدة التي طالت أزهري بعد قصيدته التي نشرها داعياً للسلام باضت، وأفرغت الفشل عينه.
-٢-
ولكن ما أحزنني أن كثيراً ممن عرفوا بمواقفهم الثورية تأثروا بالحملة، ودخلوا الحلبة ليعينوا في إشاعة فكرة الهجوم المنظمة، والتي لم يكن هدفها بالطبع تبيين الزعم بكسور في بيوت القصيدة، وإنما كان الهدف استهداف كل من ينادي بايقاف الحرب.
الحقيقة أن أزهري محمد علي كرس غالب شعره للوطن، ومنازلة المستبدين، والحلم بواقع زاهر للمواطن. ولو كان تقييم نقاط القوة والضعف في أعماله الشعرية مشروع، فإن من الغرض المرض التخفي خلف قصيدة أزهري لتحقيق نقاط سياسية تجرد مواقفه من الوطنية. ولم نصل بعد إلى الاتفاق على جماعة أو فرد يمنح صكوك الوطنية بخلاف طق الحنك في المضمار، وهو في آخر المطاف زبد كثير متراكم منذ استقلالنا.
فالحملة التي أثارت هذا الموضوع من النوع الذي يصب في مجرى الإرهاب الفكري. وهي سمة الحركة الإسلامية التي تقف وراء المخزون الإعلامي لاستمرار الحرب. وهذا الخط الإعلامي الذي نبصر سيماءه في الإعلام المصاحب للحرب منذ يومها الأول مبتغاه تلويث سمعة الرموز الذين شاركوا في ثورة ديسمبر. والشواهد هنا عديدة، ومتنوعة، ومستمرة بتهافت، وسعار. وهذه الحملة لا تستثني السياسي، أو القاضي، المتقاعد، أو الشاعر، أو المحامي، أو الإعلامي، أو الفنان الثوري.
إذا تحدثنا عن قصائد الشعراء المغناة، وغير المغناة، نجدها تتراوح بين القوة، والضعف، وما بينهما. وكذلك الحال مع الألحان التي قاربت هذا العمل. وشاعر مثل ازهري تنطبق عليه هذه الحسابات الأدبية. فضمن معظم أعماله تجد أنه وصل إلى مستوى متقدم من التميز في معظم قصائده حتى صنع بصمته الشعرية. والذين دخلوا بحسن نية من الثوريين، ومتذوقي شعره، في حلبة الجدل حول القصيدة الرافضة للحرب أبانوا بعضاً من رؤى موضوعية. ولكن السياق الذي جاء فيه ابتزاز البلابسة، والكيزان، الذين شكلوا وحدة سياسية عابرة للأيديولوجيا، والمعرفة، هو ما جعلنا ننتبه إلى خلفيات “الترند”، وأهدافه غير البريئة.
“النقد السياثقافي” للأعمال الفنية ضرب يستخدمه نقاد كثر، وبالتالي ينحازون لتجارب اليمينيين واليساريين من المبدعين. وهذا أمر وسم تجارب نقاد الشعر، والرواية، والتشكيل، والمسرح، والأغنية، لا على مستوانا المحلي فحسب، وإنما هذه هي طبيعة المشهد الإبداعي في أي منطقة في البسيطة. ذلك ما دام للفنانين أجندة كما قلنا، وذاك حال نقادهم، ومتلقينهم، أيضاً. ولو كانت قصائد أزهري، أو التيار الديمقراطي العريض الذي ينتمي إليه، هي محل احتفاء لدى ما نسميهم المستنيرين، أو التقدميين، فإن هذا لا يمنع التعرض لاستناداتها الفنية، ولا “دسدسة” على عمل فني ضعيف. وهنا فإن الناقد المعتمد على منهجية النقد السياثقافي بحاجة إلى دراسة تجوهر نقاط القوة والضعف في التعبير أكثر من تجريد الشاعر من حقه في طرح مضمونه ازاء القضية التي طرحها، أو ابتزازه وطنياً. فالمواقف الأيدلوجية، والسياسية، شيء والملكات الفنية للروائي، والمغني، والدرامي، شيء آخر. ولو كان الهدف التركيز على نقد المضمون للرواية، أو القصيدة، فإن المحاكمة هنا تكون سياسية محضة. وبدلاً من التحايل للدخول للعمل الفني للمبدع يسارياً، أو يمينياً، فإن أقصر الطرق تتمثل في تركيز النقد لحزبه اليميني، أو اليساري، وعندئذ نحرر الأدب من زحف السياسة المغرضة عليه. وهذا أمر شهدناه لدى كثير من الذين تعرضوا لنقد الإبداع السوداني بمداخل أيديولوجية، أو سياسية مذهبية. ولكن المتنبي سيظل المتنبئ الشاعر سواء حاكمناه بمقاييس عصره، أو عصرنا.
-٣-
إن انحياز النقاد اليساريين، واليمينيين، نحو المبدعين الذين يقاسمونهم الفكرة في كل المجالات الفنية مما لا شك فيه. وقد تواتت لنا الفرصة لمتابعة النقد الأدبي، والفني، في الأربعة عقود الماضية عن قرب. ومع ذلك فإن هناك قليلاً من النقاد الذين يعلون من قيمة العمل الفني دون اعتبار للخلفية السياسية للمبدع. وهذا أمر يحتاج إلى قدر عال من التجرد عن الانحيازات المجتمعية الكثيرة الدوافع. فالمسيح أمر بحب اعدائه. ولكن ليس كل الناس أنبياء.
المشكلة الكبيرة هي أن السياقات التي تنطرح فيها المناقشة الفنية لأعمال المبدع غير بريئة. وكلنا قد لاحظنا محاولات تجريد الروائي عبد العزيز بركة ساكن من قدراته الروائية نتيجة لموقفه من الحرب. ولم تشفع له الجوائز التي حاز عليها داخلياً، وخارجياً، من متخصصين في المجال نظروا إلى متن عمله الروائي وليس تصريحاته الصحفية. ورغم اختلافي مع كل مواقف ساكن بعد الحرب فلا يمكن أن استند إليها لأحرمه من قدرته البديعة في الكتابة الروائية، وقس على ذلك.
الشاعر أزهري محمد علي سياسي الفهم بالضرورة. إنه يستخدم الفن لرفض السياسات التي يراها تضر بواقع بلاده. وهو ليس بدعاً في هذا التصرف المشروع. فالمبدعون عموماً لديهم درجة من الوعي السياسي ما تجعلهم قادرين على التمييز بين مساويء الاستبداد ومحاسن الديمقراطية. بل إنهم جزء من صفوة المجتمع، ويعايشون الكبت، والدجل السياسي، ورموزه، وتلحقهم مؤثرات سياستهم في لقمة العيش. وعندئذ حينما يكتبون يضعون في العمل الفني أجندة سياسية للثورة على الاستبداد أو الإصلاح للممارسة الديمقراطية. ولكل هذا السبب فإن من الطبيعي أن يقع أزهري تحت مرمى نيران الإسلاميين والبلابسة في هذا البازار الإعلامي الساعي لتحقيق غاياته الحربية. واعتقد أن معرفة السياقات التي يدير بها الإسلاميون معركتهم مع رموز ثورة ديسمبر ينبغي ألا تفوت على فطنة الثوار. وهذا هو الوعي السياسي عينه الذي يهزم فرص دعاة خلط الأوراق سياسياً، وعرقياً، وجهوياً لصالح ضرب وحدة المجتمع السوداني.
فقصيدة واحدة لأزهري – إذا افترضنا ضعفها الفني حتى – لا تحتاج إلى كل هذه الحملة الديكورية الابتزازية التي أرادت النيل من شاعر كبير يدرك الإسلاميون مدى جهده في فضحهم، هذا هو الموضوع، ما عدا ذلك فهو تفاصيل في البركة المنداحة.