البنت الكديسة .. بدر الدين العتّاق
البنت الكديسة
بدر الدين العتّاق
هذه هي الأقدار
لا تلعن الأقدار لا تسب الصحاب
ولا يغني السباب
رب صدفة خير من ميعاد مؤكد
***
أسكن أنا بالدور العاشر في برج الياسمين بحي فيصل الجميل الذي يُمَثِّل الآن عاصمة السودان المؤقتة ، في شارع الأحلام الوردية ، معي أسرتي وأهل زوجتي مرات ، قال الشاعر سيف الدين الدسوقي :
كلماتي يا زمن الأفراح الوردية
في ماضي الأيَّام القاسية المُرَّة
كلماتي تعبر موج البحر وتصل إليك
وتحط على فرع في حقل فؤادك بين يديك
وتقول : أنا أهواك
أحببتك حين الحب بأرضك غير مباح
ممنوع بالقانون
ممنوع يا سمراء لأنَّ الحب هناك جنون
وأنا مجنون تعرفني كل الأشعر
يعرفني الليل المسدل سترته
وشقاء الفن كل نهار .
فتحتُ باب الشقة لأجد بالأريكة – كرسي الجلوس ، الانتريه – المواجه لباب الشقة هذه الكديسة العجيبة ، وبكل صراحة وبكل صدق ، صُدِمْتُ غاية الصدمة من عظمة الخالق فيما رأيت حتى شككت في أني داخل إلى شقتي بل أنا في شقة أحد الجيران الملاصقين لي ، فسلَّمت على الجالسين وعيناي تحدقان فيها بلا اغماضة للجفن مثلها مثل عين الكاميرا مفتوحة باستمرار ما لم تغلقها أنت ، فسألت الجالسين:
هل هذه شقة فلان الفلاني – الذي هو أنا – ؟ .
نعم إنها شقته .
وأخذت تضحك بتلقائية وعفوية لا تحسد عليها ( أقصد الكديسة ) .
حسناً ! هل أنا موجود ؟ .
بالطبع كذلك ، والدليل أنك تسأل الآن عن نفسك.
( حقيقة أنا كانت خارج إطار الزمن – كبسولة آلانا عبر الزمن – ولا أدري من أنا ولا من أين أتيت ومن أكون وما الذي يدور حولي ، دوار في مدار بلا جدار ، قدر من السماء تتحمله أرضية الشقة المسكينة ) .
قبل أن أكمل لكم بقية القصة ، دعوني أصفها لكم باختصار شديد : آية من آيات الله ، نزلت من السماء قطعاً حورية عيناء حوراء ، لا أدري ، شعرها واصل حد مقعدها – يعني أردافها من تحت – فتكاد تقعد عليه والانتريه الذي تقعد عليه أيضاً ( ابن ستين محظوظة هذا الانتريه ) ، بيضاء فاقع لونها تسر الناظرين ، كل جزء من شعرها يحكي قصة النشوء والارتقاء وتطور الجنين في رحم الغيب المجيد ولا رحم الله داروين حين أخرج لنا نظريته تلك ، قال المجذوب :
والشعر أسود خصلتاه حيزتا نحو القَذَالِ فصاروا إكليلا
والقَذَالُ هو أن تربط المرأة ضفيرتيها متشابكتين من أعلى مثل التاج على رأس الملك ثم تجعل عليه وردة أو توكة للتشابك الكمي / يا أستاذ عمر منَّان / .
جسمها من خلال نظرتي التأملية الفاحصة السريعة لها أكاد أجزم أن ليس فيها عظم واحد يُذكر بلا مبالغة ولا مجاملة ، لَدِنٌ طريٌ طَيِّعٌ لَيِّنٌ ملمسها بحيث يستحيل معه أن تلمسه دون أن تؤذيها ، قطع شك ، ولتقريب الوصف أكثر وبدقة عدسة ناشيونال جيوغرافيك أقول حقَّاً : ” حلاوة لكَّوم في حلاوة قطن مركَّبة في حلاوة عُكَّاز ” وحدثني عن نهديها أحدثك عن البحر ولا حرج ، ولا بارك الله في عنترة العبسي حين قال :
أنا بن سوداء الجبين كأنَّها ذئب ترعرع في نواحي المنزل
الساق منها ساقا نعامة والشعر منها كحب الفلفل
وليته قال :
أنا بن بيضاء الجبين كأنَّها كديس ترعرع في نواحي المنزل
الساق منها ساقا جداية والشعر منها كسيل المسبل
مددت كفي الغليظ تحية ومدَّت أناملها الكديسة أول
أو كقول الهادي السرَّاج بتصرف :
أحببتها أنا وسكبت بين نهديها عطوري وخمري
حاول يلمس ردفها كفايا دون خوف مني ولا حذر
وخدها الممشوق يا ولدي يحاكي ندى الفجر
وأنفاسها حرَّى تصاعدت بعضاً من شذى زهري
وصليت في معبد حسنها أتعبد في صمت وفي جهري
التصرف
ولم ترقب كديستي خفقة طائر ولا قلب مدنف سَكَّهُ سَكَرُ
ولا جادت عليَّ بأنعم لَعْسِهَا ولا خبرت أنَّ العيون لها سَحَرُ
رجع الشعر
فهل إلَّا أنا حين وهبتها روحي وعمري
أو تغافلت الورى وأخفيت عمداً حقيقة أمري
ولم تعبأ بانكساراتي واحتمالاتي وصبري
فما عدت أنا قبل الهوى ولا القابض وحدي على الجمر
هل يمكن أن تخبريه أنني هنا.
وتضحك حد شدقيها وملء صدغيها حتى استك بَرَدَاها وكدت من لعس شفاها أطير ومن الرغبة أُجَن .
_ بالله عليك كُفَّ عنَّا حديثك هذا فنحن في ضيافتك.
المهم ، تجاذبنا أطراف الحديث دون أن تنطق شفتاها ببنت شفة طيلة الجلسة المحضورة ببركة النبي ، فسألتها:
– لماذا لا تشاركيننا الحديث ؟ .
– ليس لدي ما أقوله لكم.
– أحكي لي أي شيء أريد أن أسمع صوتك.
قلتها بخبث وتحنن شديدين
– والله ، ليس لديَّ ما أقوله يكفي أنني أسمع إليكم.
– حسناً ! ألم تذهبي إلى / الكِنْتِيْن / البقالة يوماً ما وطلبت منه أي شيء .
– في حياتي قَطُّ لم أذهب إلى السوبرماركت .
هذه جملةً وتفصيلاً ما دار بيني وبينها من حوار ، وحَلَفَتْ بالذي خلق الغزال أن لا تتكلم أكثر من ساعة ونصف الذهول حبيساً وجليساً ، حتى جاء موعد العشاء فاستأذَنت واستأذن الجميع هَمَّا بالمغادرة ، وحَلَفْتُ بالطلاق ثلاثاً إلَّا أن تتعشين ، وحَلَفَن بالذي فلق الحبة وبرأ النسمة وخلق المرفعين ألَّا يتعشين ، ثم حَلَفْتُ بالحَرَامِ – بتخفيف الحاء والراء المهملتين وتحريكهما – والطلاق وحلفت بالجمال وبعبد الكريم الكابلي ( كل الجمال ) إلَّا أن تأكلن الفول المنزلي الحار بزيت السمسم الطازج ، فخضعن أمام حليفتي الغليظة وإلَّا ستُطَّلق زوجتي المسكينة أم شلاليف بسبب المصاريف .
وأَكَلَتْ الفول بزيت السمسم الطازج ، والله العظيم ( تلاتة ) أكلت الفول فولي ، زرعته وحدي وحصدته وحدي وطبخته وحدي ولم آكله وحدي بل معها بالرغيف البلدي ، ولم أسمع صوت المضغ ولا رأيت كيفية البلع لأنني كنت خارج الزمن ، وحشت منه سندوتشاً أنيقاً لا نِيْقَاً لزوم الطريق مع العلم لم تغسل يداها فلم تتسخا بل اتسخت ملابسي أنا .
ونزلت من الاسانسير معها لوداعها المرجو تكراراه ، وفي الاسانسير حدثتها في فمها حديثاً يشجي القلوب ويدمي العيون وتحدِّث به الركبان أبد الدهر كالنجم والصخر الصلاد لعلها تعي أسلوب الأديب ، أسلوبي أنا ، وحدثتها الزمن الطويل في فمها كهلال الكِنْدِي عن الفنان الكبير إبراهيم الكاشف حين قال :
الشوق والريد
والحب البان في لمسة ايد
كل الأشواق
يا هاجر ليك رسالة
لو كان يوم تنسى دلالها
ونعيد الكان حليل الكان
ونعود أحباب زي ما كنا
وحدثتها عن فلسفة أبي القاسم قور ، وثقافة عبد الله حمدنا الله ، وعناد بدر الدين العتاق ، ومواعظ عصام أحمد البشير ، وعن انفصال جنوب السودان ، وقبح أبي الشَمَقْمَق ، وكيف شرح العكبري ديوان المتنبي ، وحدثتها عن ثورة الزنوج في أميركا الشمالية ، ومصارع الرجال تحت بيارق الطمع في الثورة الفرنسية وو ، وكل ذلك وأنا أقبض على حلاوة اللكوم وحلاوة القطن المركبة في حلاوة العكاز وأمسك بكل ثقة ودقة وإحكام بشفتي شفتيها من جهة ويداي القويتان من جهة أخرى على خصرها وظهرها وردفها ضاماً لها برفق وشوق شديدين خشية أن تنزلق من الاسانسير وكل قطعة من جسدي تلاحم قطعة من جسدها بلا استثناء كأننا قطعة واحدة في جسد واحد لمن يفهم ولا يفهم ( اااااااه أنا من البنت الكديسة ، حلوة حلاوة ) ، وفي اللحظة التي كاد فيها أن يحدث ما يحدث ، حدث عن البحر ولا حرج ووو فجأة.. انفتح باب الاسانسير اللعين لنجد أنفسنا في الهواء الطلق ، فاتخضيت ، أيوة نعم اتخضييييت وقمت فزعاً ، اللهم اجعله خيراً اللهم اجعله خيراً.
مع تحيات الراوي العليم
هذه القصَّة مهداة إليها حيثما كانت تحديداً وأنا على ثقة أنَّها ستقرأها وتعيها بعين واعية