آخر الأخبار
The news is by your side.

في شأن تعضيد الاقتصاد المدني ودعم الحكومة المدنية (11- 100)

في شأن تعضيد الاقتصاد المدني ودعم الحكومة المدنية (11- 100)

بقلم: حسين احمد حسين

رفع الدعم الذي تنادي به “موازنة البدوي” ليس له علاقة بمعالجة اختلالات الاقتصاد الكلي، ولكنه مرتبط بانتخابات الصادق المبكرة.

مقدمة

في النصف الثاني من ثمانينات القرن المنصرم حينما رفع وزير المالية د. بشير عمر الدعم عن السلع تحت ضغط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أقام بروفسير على عبد القادر على (نسأل الله له عاجل الشفاء بقدر ما قدم للإنسانية من علم) ندوة بدار الاقتصاديين والاداريين بوزارة المالية، فنَّدَ فيها إجراءات الحكومة الخاطئة على نحوٍ مُبهِر يليق بقامة بروفسير على عبد القادر على الذي هو عندي في قامة منظري مدرسة التبعية بلا غُلُوٍّ وإطراء. وقد كان د. بشير عمر يجلس في الصف الأمامي حضوراً لتلك الندوة، التي انتاش فيها البروف سياساته انتياشاً مباشراً لا هُوداة فيه، ولم يترك له جنباً ينقلب عليه.

وحينما انتهت الندوة قام د. بشير عمر يسعى ليسلِّم على أستاذه بروف على عبد القادر على، إلاَّ أنَّ البروف نفضَ يده منه نفضاً ودفعه بعيداً عنه ممتنعاً عن مبادلته التحية وقائلاً: “دا ما الاقتصاد الدَّرَّسناهو ليك في الكلية، دا اقتصاد سيدك”.

ولو كان البروف اليوم في تمام عافيته (نسأل الله له تمام العافية)، لا أخاله إلاَّ قال للدكتور ابراهيم البدوي مثل ما قال لدكتور بشير عمر من قبل؛ ولعنة الله على هذا التاريخ الذي يُعيد نفسه بهذه الوتيرة الفوضوية ليجعل شرائح رأس المال تنقض في كل مرة على فتراتنا الديمقراطية في السودان.

عليه، ليس لنا معك حديثاً كثيراً هذه المرة يا دكتور البدوي؛ بل هي مجرد ساندوتشات خفيفة ومن ثمَّ نعود لمناقشة عناصر الطلب الكلي التي اجترحنا الحديث عنها من قبل في هذه السلسلة.

حيثيات

1- أرجو من القارئ الكريم أن يرجع للمقال رقم (6) من هذه السلسلة (لأهميته) الذي ذكرنا فيه أنَّ عناصر الطلب الكلي متضادة، بحيث أنَّنا إذا اتَّبعنا سياسات اقتصادية تزيد من معدل النمو وتحِد من البطالة بطبيعة الحال، فإنَّ ذلك سيقودنا بالضرورة إلى الإفراط في الاستدانة وزيادة معدل التضخم، واختلال ميزان المدفوعات، وربما اختلال السياسات المالية والحسابات القطاعية.

وبالنظر لموجهات “موازنة البدوي” فهي تتبنى سياسة السيطرة على التضخم واختلال ميزان المدفوعات وتقلبات سعر الصرف وضبط السياسة المالية والحسابات القطاعية واستقرارها (وصفة صندوق النقد التقليدية)، على حساب زيادة النمو وتقليل البطالة (الوظائف المتاحة في برنامج البدوي جُلُّها مؤقت).

وقد ذكرنا أنَّ هذه السياسة قد أسقطت العديد من الدول في ثمانيات القرن المنصرم بما فيها حكومة الصادق المهدي نفسها في العام 1989، وقادت لهبة سبتمبر 2013، وعصيان 2016 و 2017 وأخيراً إلى إسقاط هُبل في إطار ثورة الوطن الوسيمة 2018/2019. وبالتالي هذه الوصفة مجربة في عملية إسقاط الحكومات مهما كان جبروتها، ومهما حاول البدوي من إضفاء البُشارات عليها.

2- من جانبنا نقول لشعبنا عليك أن تعي أنَّ أيَّ دعم يُبشِّر به د. البدوي (سعلي أو نقدي) سيؤول أثرُهُ إلى الصفر، وإلى ما دون الصفر بمجرد رفع الدعم عن المحروقات. ووقتها ستخرجون على مدنيَّتِكم بأنفسكم وستخربونها بأيديكم؛ والفلول والعسكر وأثرياء الحرب ودعاة الانتخابات المبكرة ينظرون إليكم ويضحكون؛ ولا عذرَ لمن أُنذِر.

3- يمكننا أن نثبِتْ لشعبنا عبر مناظرة مفتوحة مع وزير المالية فحواها أنَّ الحكومة لو (مَلَتْ هدومة) فرضت هيبتها على كل مفاصل الدولة بالطريقة التي شرحناها في مقالات هذه السلسلة، تستطيع أن توفِّر لنفسها أكثر من 19 مليار دولار سنوياً من قطاعين اثنين فقط هما البترول والذهب (ناهيك عن أيِّ قطاع آخر، وناهيك حتى عن تحويلات السودانيين العاملين بالخارج).

وهذا المبلغ كافٍ لتغطية الواردات، وكافٍ لبناء احتياطي نقدي من العملات الصعبة يفوق الـ 12 مليار دولار؛ وبالتالي يُمكِّن الدولة من إزالة تشوهات الاقتصاد الكلي، وإبعاد شبح الانكشاف الاقتصادي، ويمكِّنها من تحسين ملاءتِها المالية بدرجة عالية جداً تجعلها قِبلة لاستثمارات رأس المال الأجنبي.

4- قلنا ونقول الآن، بأنَّ شرائح رأس المال لا ترغب في الديمقراطية؛ إذ ما نالته بالديكتاتورية لم (ولن) تنله بالديمقراطية. خاصةً أنَّ الديمقراطية تسعي إلى معادلة اقتصادية عادلة ومتوازنة ومستدامة بين كل فئات المجتمع، وشرائح رأس المال دائماً ما تغنى على حساب الفقراء في ذلك المجتمع (ما غني غنيٌّ إلاَّ على حساب فقير) خاصةً في غياب حزب يمثلهم بالأصالة لا بالوكالة.

وهذا الواقع يجعلها تتعامل مع الفترات الديمقراطية كفترات مؤقتة لتحديد موضع الهيمنة فيما بينها تحت ضغط الجماهير باتجاه التغيير، الذي تعلم أنَّه لن يدوم خاصةً في ظل غياب ذلك الحزب الذي يجمع هذه الجماهير تحت مظلة واحدة.

وما أن يتعين موضع الهيمنة هذا، تبدأ هذه الشرائح الرأسمالية في الشروع في الانقضاض على الديمقراطية من جديد. وبالتالي شرائح رأس المال هي المسئولة عن كل الانقلابات العسكرية في السودان، وليس المؤسسة العسكرية (حسين 2018).

5- إذا نظرنا للأشياء بدون الانجراف لهالة وهلُّولة وزراء المنظمات الأممية (ما أسميه بالحدس السلبي عند البعض منا)، وبحثنا عن المستفيدين الحقيقيين من رفع الدعم عن المحروقات سنجدهم: فلول النظام، أثرياء الحرب الذين يُحاولون التموضع في موضع الهيمنة بقوة السلاح، دعاة الانتخابات المبكرة، بورجوازية قحت الصغيرة، والمنظومة الرأسمالية العالمية. وبالتالي لا مكان للثوار صُنَّاع الثورة الحقيقيين بين هؤلاء الجلاوزة بحال من الأحوال.

6- إذا نظرنا للمحاولات المحمومة التي بدأ يشتغل عليها الصادق المهدي لتلميع السفاح قوش كرجل للمرحلة، والتي بحمد الله باءت بالفشل حينما طلبته العدالة الدولية؛ وإذا نظرنا للمحاولات الحثيثة الجارية الآن من قِبَل ذات الشخص لتلميع مجرم الحرب الجنجويدي القتِل، الملطَّخ بدماء شهدائنا في كل مكان (لا سيما في الاعتصام)، “الحبيب دَقَلو” كما يُنتَظر أن تناديه أسرة ذلك الشخص في مقبل الأيام؛ وإذا نظرنا لتقاعس وزير المالية (المرشَّح من قِبَل حزب الأمة/شريحة رأس المال الزراعي) المتعمَّد عن وضع يده على المال العام المهدر بالتمكين ووضعه تحت قيُّومِيَة وزارة المالية بحسبان أنَّ شرائح رأس المال لا تُقصي بعضها البعض إقصاءاً نهائياً في لعبة السياسة؛ وإذا نظرنا لبطئه في اتخاذ الخطوات الكفيلة بإصلاح الجهاز المصرفي وعلى رأسه بنك السودان وإلغاء الصناديق المالية الكثيرة المنثورة خارج وزارته (صندوق دعم الولايات، صندوق دعم الطلاب، صندوق دعم الشريعة، إلخ)؛ وإذا نظرنا لتجاهله عن المساهمة في إنشاء بنك للمغتربين لتجميع قدراتهم المالية والاستفادة منها في ظل الحكومة المدنية الحالية؛ وإذا نظرنا لغض طرفه عن ذهب جبل عامر والبترول الذي تحت سيطرة عناصر النظام الساقط؛ وإذا نظرنا لغض طرفه عن مصادرة كُبريات شركات الفلول الخاصة (8683 شركة) التي خرَّبت الاقتصاد السوداني ولا تساهم في الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 3.5%؛ وإذا نظرنا لتقاعسه عن إرجاع المؤسسات الحكومية المخصخصة تمكيناً، خاصةً التي كانت مرتبطة بالتمويل الحرج في الدولة كالموانئ البحرية والطيران المدني والسلكية واللاسلكية والبنوك وغيرها من شركات الدولة الحيوية الرابحة (The Command Heights of the Economy)؛ سنجد أنَّ رفع الدعم عن المحروقات ذو ارتباط وثيق الصلة بالانتخابات المُبكرة أكثر من ارتباطه بمعالجة اختلالات الاقتصاد الكلي المذكورة على سبيل النذر لا الحصر في هذه الفقرة.

وذلك لأنَّ رفع الدعم من دون هذه الإجراءات سيقود البلد حتماً إلى البلبلة السياسية والفوضي، التي سوف تؤجِّجها شرائح رأس المال بحجب الأغذية والوقود والخبز ورميها في البحر أو تهريبها إلى دول الجوار، ومن ثم تهرع للمؤسسة العسكرية لاستلام السلطة عبر مغامرين تختارها هذه الشرائح بعناية لهذه المهمة (وهكذا تصنع شرائح رأس المال الانقلابات العسكرية في السودان خاصةً في ظل غياب حارس الديمقراطية والمستفيد الأول من استدامتها أى الحزب الذي يجمع العمال والقوي الحديثة والمهنية (حزب مجتمع الاعتصام)، والذي كان من الممكن أن يقف سداً منيعاً ضد تحريض شرائح رأس المال للمؤسسة العسكرية لاستلام السلطة).

7- وبالتالي على آلية الإجماع السوداني (The Sudanese Consensus) المتمثلة في السياسيين (من لجان المقاومة إلى أعلى الهرم) والأكاديمييين (Think Tank) والمهنيين ألاَّ تنجرف وراء عملية رفع الدعم عن المحروقات من غير ربطها بإزالة تشوهات الاقتصاد الكلي المذكورة بالفقرة (6) اعلاه.

وليعلم الجميع أنَّ اللحظة التي سيتم فيها رفع الدعم عن المحروقات بدون عمل اللازم تجاه هذه التشوهات الهيكلية، ستكون بداية العد التنازلي العنيف لحكومة د. حمدوك المدنية التى أرجو أن نعضَّ عليها بالنواجز.

خاتمة

لعناية د. حمدوك: نحن غير راضين عن أداء وزيري الإعلام والمالية، لأنَّهما غير متناغميْن مع روح الثورة؛ والقراءة الدلالية الأولى تقول أنَّهما مصابان بسرطان الكوزنة. ويجب أن يخضعا لفحوصات عاجلة للتثبُّت من ذلك.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.