آخر الأخبار
The news is by your side.

إعوجاج الفكر السياسي و فشل تشكيل الامة و بِناء الدولة بجنوب السودان (4)

إعوجاج الفكر السياسي و فشل تشكيل الامة و بِناء الدولة بجنوب السودان (4)

د/ بيتر أدوك نيابا 

ترجمة: يدجوك آقويت

الفيدرالية ليست حلاً سحرياً للمشاكل العديدة بجنوب السودان:

البرجوازية المتخلفة، بعضها في الحكومة و معظمها في المعارضة السياسية و المسلحة يدفعون بخيار النظام الفيدرالي كحل لأزمة الحكم بجنوب السودان. مُتسلحاً بالفهم الصحيح للتناقضات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، لا يمكن للمرء أن يفشل في رؤية إن الفيدرالية المقصودة، محاولة أخرى لتفتيت الشعب و قطع الطريق عليهم حتى لا يتوحدوا في نضالهم ضد سلطة النهب و القمع. من الشائع في أوساط المظلومين، خصوصاً عندما يفشلوا في مواجهة أو تغيير الاوضاع الحرجة التي يواجهوههم، الركون للإنقسام. هذا يذكرني بما حدث في جوبا عام 1981 أثناء المناقشات حول إعادة تقسيم الاقاليم الجنوبية. كان “الوحدويون” و “الانفصاليون” منخرطون فيما يسمى غالباً ب”حوار الطرشان” – حوار لا يستمع فيها كل طرف لما يقوله الآخر. “إذا كان المنزل مؤبوء بالحشرات، ألا يجب ان يُرش بالمبيدات “؟ يسأل الوحدويون. “لا ، فلنحرق المنزل” ، يجيب الإنفصاليون، وسرعان ما تطور الامر إلى حرب!

عُرف السودانيين الجنوبيين بضحالة ثقافة التنظيم والنشاط السياسي مُقارنةٍ مع أبناء شمال السودان. وطالما تسبب هذا في تغذية عقدة النقص لديهم تجاه الطبقة السياسية في شمال السودان، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالحجة السياسية، إذ يختار الجنوبيين الحلول السريعة والسهلة. وبالتالي، فبدلاً من تنظيم أنفسهم في مجموعة سياسية واحدة، ليعبروا عن قضيتهم على قُدم المساواة مع الشماليين، أبدى الجنوبيين إستعدادهم المُسبق لتشّكيل آحزابٍ مُنفصلة. فلا عجب أن النزعة الإنفصالية هيمنت على الفكر السياسي بجنوب السودان مع بدايات تَشكُّل الوعي السياسي. هذا لا يعني أن الإنفصال كان المطلب الرئيس للجنوبيين خلال مؤتمر جوبا 1947؛ بل جاء كرد فعل على عجزهم عن التعامل مع مكائد الساسة الشماليين بعد إستقلال السودان في 1956(4).

وعلى نفس المنوال ، الآن يتم تقديم الفيدرالية على إنها المطلب الشعبي لجماهير جنوب السودان (5)، ليس هذا فحسب، بل يعتبر حلاً سحرياً للمُشّكِلات العديدة التي تواجه النخبة السياسية مثل توزيع السلطة السياسية والاقتصادية في البلاد. تاريخياً، تم تشكيل الإتحادات من قبل كيانات ذات سيادة. فالفيدراليات السويسرية والأمريكية نموذجي لهذا التكوين. عادةٍ ما كانت الدول ما بعد الإستعمارية، مثل جنوب السودان ، تُدار مركزياً بينما السُلطات الإدارية، وليس السياسية، تقل أو تتركز في المستويات الأدنى. هذا لم يأت بالصدفة، بل كانت نتيجةٍ لوجود حكومات مركزية و أنظمة إستبدادية، ديكتاتوريات عسكرية، أو شمولية إيديولوجية، التي غالباً ما كانت أحادية الحكم.

يمكن وصف النظام السياسي في جنوب السودان بالشمولي. إنه مصدر كل المشكلات الإجتماعية، الإقتصادية والسياسية بالبلاد. تطبيق الفيدرالية في هذا الوقت، هي بمثابة نقل هذه التجربة الشمولية إلى أجزاء مختلفة من جنوب السودان و سيضاعف من مشاكل شعب جنوب السودان بدلاً من حلها. من الضرورة الان، توحيد الشعب لجهودها من أجل تغيير النظام، بدلاً عن مناقشة الفيدرالية.

يجب على أولئك الذين يعتقدون أن إنشاء نظام حكم فيدرالي هو خيار أفضل لجنوب السودان أن يفكروا مراراً وتكراراً. لن يكون سهلاً على من يتمتع أو يمارس القوة المطلقة، التنازل عنها بسهولة. قاد الرئيس سلفا كير البلاد للحرب من أجل الحفاظ على سلطته، وأستبعد أن يستقيل دون مقاومة جادة. إنني على قناعة أيضاً، بأن ريك مشار أو أي فرد آخر من المتعطشين للسُلطة في المعارضة، لن يتردد بمجرد تعيينه، في تشكيل 32 ولاية فيدرالية أو أكثر. إذا فعلوا، سيكون ذلك مجرد مهزلة. إنهم مهتمون أيضًا بممارسة السُلطة المطلقة بنفس الطريقة التي يديرون بها الجماعات السياسية الآن في المعارضة (6). هذه ليست إستحالة، خصوصاً وإن سلطة الدولة في جنوب السودان مُشخّصنة أكثر من ما هي مؤسسة. أستطيع أن أؤكد أن أيا من نواب الرئيس الخمس المحتملين، لن يسمح بدمقرطة Democratization الدولة بمجرد تولي أحدهم السلطة.

إن مسألة تطبيق نظام الحكم الفيدرالي في جنوب السودان، مثل النضال من أجل إعادة النظر في الاقاليم الجنوبية في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، هي بمثابة غش سياسي. والواقع أنه يهدف إلى تحويل إنتباه الشعب عن نضالهم ضد النظام القاهر. الغرض منه هو تقسيم وإضعاف المعارضة، إعادة تنظيم القمع مما يسمح لهم بكسب مزيداً من الوقت في السلطة، كما حدث في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي عندما كان السودان يعاني من أزمة إجتماعية وإقتصادية وسياسية حادة نتيجة لقبول نميري بشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

كان الاقليم الجنوبي أضعف حلقات النظام السوداني (7). و بافتقار الطبقة السياسية في جنوب السودان إلى الفهم العلمي للعوامل الاجتماعية – السياسية، مع عدم وجود تنمية إجتماعية إقتصادية في الإقليم الجنوبي، أستغل نميري هذه الظروف، (8) و حدث التفكك، تم إلغاء اتفاقية أديس أبابا وفُرض قوانين الشريعة الإسلامية.

الإنقسام بين القادة السياسيين في جنوب السودان آنذاك، خدم مصالح النظام الظالم في السودان بدلاً عن الجنوبيين، و كان كعب أخيل الرئيس نميري، وتسبب تصوير القادة لانفسهم كخونة لشعبهم. في عام 1983 بعد إلغاء نميري لإتفاق أديس أبابا وتشكيل ثلاث أقاليم ضعيفة، بدلاً من الاقليم الجنوبي، أنتقل أبيل ألير وجوزيف لاقو والعديد من القادة الآخرين إلى المركز وتجمعوا في الخرطوم بحثًا عن التعيينات السياسية، في حين ذهب فقراءهم إلى الأدغال لخوض الحرب ومعاناتها. وعلى نفس المنوال، فبدلاً من توحيد جهودهم في الكفاح من أجل الاطاحة بالنظام القاهر، يتحدث يناقش الساسة تجزئة النظام وتوزيعه إلى كل ركن من أركان جنوب السودان في شكل دولة فيدرالية مزيفة. تحتوى الدستور المؤقت لجنوب السودان فقرات عن الفيدرالية، إلا أن أولئك الذين يطالبون بالنظام الفيدرالي الان، هم الذين دمروه من خلال السماح للرئيس سلفا كير بإدارة الدولة ديكتاتورياً.

لا تكّمُن حلول المشكلات الحالية في جنوب السودان في إقامة نظام حكم إتحادي، بل في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي. فالديمقراطية هي مفتاح السلام والوئام الاجتماعي، والذي بدوره يضمن وجودة قادة مسئولين. هذة الثورة ستحدث تحول كامل في التفكير السياسي في جنوب السودان. تحول نموذجي يسمح بفهم علمي لقضايا التنمية الإجتماعية، الإقتصادية والتكنولوجية لوضع جنوب السودان في القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك ، لن يحصل هذا من تلقاء نفسه دون ظهور قوى إجتماعية ديمقراطية تقدمية للإستيلاء على مركز صدارة الهندسة السياسية للدولة لتقود تطورها الإجتماعي والإقتصادي. وهذا هو ما أفتقدناه خلال حرب التحرير الوطني و أثناء الحرب الأهلية.

التناقض الأساسي في جنوب السودان:

التناقض الأساسي الذي يقوم عليه جميع التناقضات في جنوب السودان هي حالة التخلُف الإجتماعي، الإقتصادي والثقافي لشعبها، و التي استمرت لقرون. هذا هو المدخل لتحليل كل جوانب الأزمة لإيجاد الوسائل الصحيحة لحلها من برامج وإستراتيجيات. بمعاينة الوضع في جنوب السودان، نجد إنها غنية بالموارد الطبيعية الهائلة. لديها الأراضي الصالحة لزراعة كل المحاصيل، والماشية، الغابات، الأسماك، المعادن، والموارد المائية، ومع ذلك ، يعتبر شعب جنوب السودان من أفقر شعوب العالم، و مؤشرات التنمية الإجتماعية والإقتصادية في غاية السلبية.

الجزء الأكبر من سكان جنوب السودان في الأرياف، حيث ينخرطون في الزراعة الموسمية أو تربية الماشية لتوفير الكفاف. إن الإفتقار إلى شبكات طرق تربط المناطق الزراعية بالأسواق، هو أُس الركود والفقر في المناطق الريفية. تمتلك المُجتمعات الرعوية قطعان كبيرة من الأبقار والأغنام والماعز . ومع ذلك، فإنهم يحتفظون بها بطريقة تقليدية كثروة ثقافية تُستخدم فقط في الزواج وتسوية الخلافات. لذا، فان فقر الشعوب بجنوب السودان، سواء في المجتمعات الزراعية الرعوية المستقرة أو الرعوية، سببه عدم قدرتهم على تحويل وتوليد الثروة الإقتصادية من الإمكانات الكامنة في الموارد الطبيعية. هذا هو ما نعنيه بالتُخلف الإجتماعي والإقتصادي والثقافي الذي ينعكس في الفقر المدقع والجهل والأمية والخرافات. وهذا يعني ، أنهم لا يستطيعون بتلقاء ذاتـهم تحويل ثروتهم الأنية إلى مصدر دخل مالي لتوفير الخدمات الأجتماعية الاخرى من تعليم و صحة، أو زيادة إنتاجهم الزراعي، وهنا يأتي دور الطبقة السياسية المُهيمنة.

جنوب السودان خارج من حرب أهلية مدمرة أستمرت خمس سنوات. وليس من المؤكد إن كانت اتفاقية السلام المنُشطة ستصمد على ضوء الإنتهاكات المستمرة لإتفاق وقف العدائيات الموقعة في عام 2018. وقد أختارت بعض عناصر المُعارضة المسُلحة البقاء خارج الإتفاق. الإنتخابات المحُتملة بنهاية فترة الثلاثين شهرا، تلقي هي الاخرى بمزيد من أسبابٍ للشّك. لا تزال السُلطة وأيا كان من سيمارسها، بمثابة نذير للتدمير الذاتي و من المُرجح أن تؤدي الإنتخابات المقُبلة عام 2021 إلى إندلاع العنف.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.