آخر الأخبار
The news is by your side.

العودة إلي جوبا … بقلم: سعد محمد عبدالله

العودة إلي جوبا … بقلم: سعد محمد عبدالله

مدينة جوبا، تلك “الجوهرة” الحبيبة المشعة أهدي أرضها نصف روحي والآخر لشعبها الطيب، ويظل مستودع حبي لجوبا في فؤادي ممتلئ حتى النخاء حبا لا يعرف الفناء، وكما تجري الأنهر علي سطح الأرض تبقى محبة الجنوب في أوردة القلوب، ولي قصص وذكريات عشتها في جنوب السودان وما زالت تحمل في دواخلي ذات الملامح الطفولية البريئة رغم مرور السنوات، وكنت دوما أحلم بالعودة إلي جوبا لإستعادة تلك الصور العالقة في ذهني منذ أن فارقتها وأنا طفلا أختبئ خلف “عباية أبي” خوفا من مشاهدة مناظر الحرب، فقد ولدت وخرجت للدنيا في مدينة جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان حاليا عام 1988م، ونسبة لنشاط والدي الفكي محمد تكر حكيم في المجال التجاري والسياسي كان خياره العيش بجنوب السودان، وقد كان والدي ينتمي لحزب الإتحاد الإشتراكي السوداني برئاسة الجنرال جعفر نميري الذي سقط حكمه بثورة “اكتوبرية” شعبية مجيدة خاضها الشعب السوداني في العام 1964م أنهت حكم النظام “المايوي النميروي” وكان والدي يعمل في المجالات التجارية كباقي السودانيين في جنوب البلاد، ولكن الحرب لم تتوقف وثورة اكتوبر لم تثبت قواعد الديمقراطية الجديدة وسقط النظام الديمقراطي في شباك الحكم الدكتاتوري، وفي العام 1999م إشتدت الحرب في الجنوب وحقق الجيش الشعبي لتحرير السودان إنتصارات بقيادة الدكتور جون قرنق الذي تمكن من التقدم نحو جوبا حيث إستنفرت حكومة الخرطوم جيوشها ومليشياتها للحرب ووقعت وقتئذن مجازر بشعة في جنوب السودان، وما زلت أتذكر حادثة قتل جارتنا السيدة تندلو داخل منزلها بقذيفة قد تكون مدفعية فصلت رأسها عن جسدها، وما زلت أتذكر ضجيج الأسلحة وإختبائي تحت “السرير” كما أتذكر لحظة خروجنا من المنزل وبعض مناظر أشلاع القتلى الملقاة في الشوارع، فالمليشيات حينها عبثت بكل شيئ، وفعلت الأفاعيل من إنتهاك حق الحياة للسودانيين، وحملتنا طائرة “هيلكوبتر” تابعة للجيش الحكومي من جوبا إلي الخرطوم ومنها إلي سنار حيث إستقرت أسرتي.

اليوم أغادر إلي مدينة جوبا الصامدة ضمن وفد الحركة الشعبية لتحرير السودان من أجل المشاركة في مفاوضات السلام، وهنا أود أن أشكر قيادة وعضوية الحركة الشعبية وشعب السودان العظيم علي هذه الثقة التي أتمنى أكون قادر علي حملها، والشكر للرفيق مالك عقار رئيس الحركة الشعبية ونائبه الرفيق ياسر عرمان والأمين العام إسماعيل جلاب وكافة رفاقي في المجلس القيادي ووفد المفاوضات وقادة الجيش الشعبي علي رأسهم الرفيق أحمد العمدة، وسنعمل كتيم واحد مع زملائنا في الجبهة الثورية لتحقيق سلام شامل وعادل ومستدام لشعبنا والسودان، وأنا أغادر الخرطوم لتقديم فريضة السلام في جوبا جاشت خلايا فؤادي بالأشواق السرمدية للرفيق القائد التاريخي العظيم جون قرنق الذي يرقد بأرض الجنوب، وأخيرا سأعود لجوبا وألقي السلام علي د. جون قرنق مؤسس الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان ورأئد التنظير لرؤية السودان الجديد، وسأذهب إلي جوبا وكلي أمل في المساهمة لحل مشكلات الحرب والتوصل لسلام دائم يترجم شعارات الثورة “حرية سلام وعدالة” في برنامج وطني للتغيير والتحرر وبناء دولة السلام العادل والمواطنة بلا تمييز والحكم المدني الديمقراطي والوحدة علي أسس جديدة.

إن قضية السلام الشامل تعتبر واحدة من أهم قضايا الساعة التي تشغل الساحة الوطنية السودانية، والسلام كجند أساسي لم يجد إهتمام كافي في ماضي السودان لكنه أضحى حلم الحاضر وأمل المستقبل لأنه يرتبط عضويا بعملية الإنتقال المدني والديمقراطي والحريات العامة والخاصة والإصلاحات الإقتصادية والعلاقات الدولية ومحاربة التطرف والإرهاب ووقف الهجرة من الريف للمدينة ومنها إلي خارج السودان، فالسلام هو الوحيد الذي يضمن بقاء وتطور بلادنا، والثورة كانت “بطاقة العبور” نحو السلام والحفاظ علي حرية وكرامة الإنسان أولا، ومن الضروري التوجه لجوبا بقلوب وعقول مفتوحة لا تحمل إلا أحلام وتطلعات جماهير جمهورية “النفق” وكل النازحيين واللاجئيين الذين ينتظرون السلام الشامل من أجل حياة جديدة يجدون فيها الراحة والرفاهية وتكون الحقوق السياسية والمدنية لهم ولغيرهم في سودان جديد يسع الجميع، فقد تعاهد السودانيين بكافة أجناسهم وأديانهم في ثورتهم المجيدة بأن يحققوا الحرية والسلام والعدالة والحكم المدني الديمقراطي وقد قالوا للعالم أجمع “الشعب يريد بناء سودان جديد” ونحن سنذهب للتفاوض بأمر الشعب السوداني ومن أجله إتخذنا النضال السلمي والمسلح طريق للتحرر والتغيير، وثقتنا مستمدة من ثقت شعبنا وما زالت في محلها وبها تنجح عملية السلام الشامل والعادل والمستدام طبقا للرغبة والإرادة الأكيدة والصادقة من جانبنا وحكومة السودان الإنتقالية، وكنا نحلم أن يكون الإحتفال بالعيد الأول لميلاد الثورة هو ذاته عيدا للسلام والعدالة، وقد جاء العيد وتأخر مجيئ السلام، ولكن لدينا فرص جيدة لتحقيق السلام والإحتفاء بعيدين في سودان واحد. هنالك ملفات كثيرة شائكة ومتشابكة تحتاج لنقاش حقيقي وصريح من كافة الأطراف وأولها قضايا شباب وطلاب ونساء وأطفال السودان وقضايا حقوق وحريات المجتمع والديمقراطية والتنمية في الريف المهمش والمدن المريفة ووحدة السودان مع أحلام إتحاد السودان وجنوب السودان وفقا لرابط سياسي وإقتصادي وأمني يضمن إستقلالية الدولتين ويحقق مصالح الشعبين الشقيقين، وفي السودان الجديد نحتاج لتواصل وحوار بين كافة مكونات الشعب خاصة جيل الشباب لبلورة مشروع وطني جديد يقودنا نحو المستقبل المنشود دون التعثر بالإختلافات والإنحدار إلي الوراء، وشعب السودان الذي قاوم أعتى الدكتاتوريات جدير بادارة الوطن وإخراجه من الأزمات الحالية والإنتقال به إلي المستقبل، وسأدخل جنوب السودان وفي حقيبتي هموم هذا السودان وذكرياتي التي لا تنسى، ولا حلم عندي إلا أن أعود للخرطوم والسلام قد تحقق وعم أرجاء البلاد، فقط ما يبعث فيني التعجب أن جوبا التي غادرتها بالأمس طفلا أرعبته المدافع ككل الأطفال أعود إليها اليوم شابا مفاوضا من أجل السلام، لذلك سأعمل ما بوسعي مع كافة رفاقي وزملائي كي لا تدمع عيون أطفال السودان بعد اليوم، وكلنا نعلم أن أسوء الأشياء في الحياة هي الحرب، والسلام أجمل ما في الكون، فلا للحرب بعد اليوم ونعم للسلام إلي الأبد.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.