آخر الأخبار
The news is by your side.

إعوجاج الفكر السياسي و فشل تشكيل الامة و بِناء الدولة بجنوب السودان (2)

إعوجاج الفكر السياسي و فشل تشكيل الامة و بِناء الدولة بجنوب السودان (2)

د/ بيتر أدوك نيابا  

ترجمة: يدجوك آقويت

خلفية تاريخية مُختصرة:

في إشارة تاريخية العام الماضي، تحديداً ديسمبر 2018، ذكّر بيتر تنقوا السودانيين الجنوبيين بأحداث 18 أغسطس 1955 و 6 ديسمبر 1966. هذين التاريخين و الاحداث التي وقعت فيهم، منحوتين في ذاكرة جنوبيين جيل ما بعد الإستقلال. أن أردنا مُقاربة و إيجاد الصِلة بين التاريخين، سنواجه التناقضات الكامنة، و ستكون من الصعوبة بمكان، فهم التاريخين دون الإجابة على هذه الاسئلة: ماذا شكّل الفكر السياسي السوداني الجنوبي؟ هل هو عامل خارجي مثل المصالح الإستعمارية في فصل السودان و مواصلة حُكم أقاليم بحر الغزال، أعالي النيل و الإستوائية الكبرى؟ هل شكّل الفكر السياسي بجنوب السودان عوامل آخرى غير عدم التنظيم السياسي و الثقافة الضحلة؟ وهل أسهم هذه العوامل في إعوجاج الفكر السياسي المُعاش و الفشل في تأسيس و بناء الدولة؟

النخب السياسية الجنوبسودانية يمارسمون ما أسميه “الازدواجية السياسو-إقتصادية”. عندما يكونون في السُلطة، يمارسون القهر الذي كان واقعاٍ عليهم، على الاخرين. ممارسات الاقصاء السياسي، التمكين الإقتصادي لفئاتٍ مُحددة على حساب الاخرين، والتفرقة على أسس إثنية التي تُمارس بجنوب السودان اليوم، تحديداً في تعيين كِبَار المسئولين و الخدمة المدنية، تُذكرّنا بالتجربة السودانية و تكشف عن ميل لتوطين القهر.

أعتقد إنه من الضرورة بمكان، تحليل هذه الإشكاليات بغرض فهم لما قد لا يبلغ جنوب السودان مرحلة الدولة. شعب جنوب السودان منقسم اكثر من أيّ وقت مضى طيلة تاريخه المُشترك، على أسسٍ اثنية. والفئة التي قادت النضال من أجل التحرير، أستحوذت على السُلطة و الثروة، و أهملت الأسباب الرئيسة التي دفعتها إلى خوض حرب التحرير. يقطن بجنوب السودان أكثر من 67 اثنية في مخُتلف مراحل التطور الإقتصادي، الإجتماعي و الثقافي. هذا التنوع الثقافي، لا يبُرر عدم الإستقرار الإقتصادي والسياسي الذي يشهده جنوب السودان، فهنالك سبب غير متطرق له. وقع حادثتي إنشقاق في الحركة السياسية الجنوبسودانية على أسسٍ اثنية و مناطقية منذ 1960. أسباب الانشقاقات تعود في رأئي، إلى غياب الإلتزام الايدلوجي السياسي وسط القيادات السياسية الجنوبية، والذي غالباً ما يّترجم في إعلاء الحس الإثني وسط السياسيين.

إنقسام حزب (سانو) عام 1964 شكّل بداية الإنقسام الإثني داخل التنظيمات السياسية الجنوبية في السودان وبالخارج. تأسيس جناح سانو داخل السودان لمواجهة جناح المنفى، شتّت الحركة الوطنية الجنوبية. رغم انه أُسس بمُباركة الإتحاد الوطني الاشتراكي، دخل قادة السُلطة الاقليمية المُستقلة في صراع حامي الوطيس حول السلطة وكأنها مسألة حياة أو موت، وآدى هذا الصراع إلى “الكوكرا”، و التفكك الحتمي للأقليم الجنوبي. هذين الحادثتين تمثلان جرثومة تدمير الذات التي تعاني منها جنوب السودان حتى اليوم، وشكّلت أساس العداوة و عدم الثقة المُعاش الان بين الإثنيات الجنوبية، ويوضحا كيف يُدار تقسيم السُلطة و الثروة الان. هذا الصراع معلن بصورةٍ أوضح بين الدينكا و النوير، و بينهما و الإستوائيين.

تأسيس الحركة/ الشعبية لتحرير السودان العام 1983 في ظل هذه الإنقسامات الحادة بين أوساط النُخب السياسية الجنوبية، لتضيف طبقةٍ آُخرى من الظلال. رغم نجاحها في إدماج مختلف القوى السياسية تحت مظلة حرب التحرير، إلا أن مشروعها السياسي المتأرجح بين (السودان الجديد – جنوب السودان)، وغياب الفلسفة السياسية الموجهة لأهداف حرب التحرير، قادت إلى الفشل في تسمية أجندة وطنية للثورة. الروابط الاثنية، بدلاً عن الأجندة الوطنية هي ما قادت حرب التحرير. بزوغ الوعي القبلي، [2] تحديداً بين أكبر قبيلتين، الدينكا و النوير في المراحل الاولى من الحرب يعود لهذه الأسباب. وقد ساهم هذا في عدم تطور الحركة الشعبية لجسم ثوري تحرري يبتغي تحقيق أجندة وطنية. تكونت الحركة الشعبية كجسم عسكري يعتمد على العمليات و الأوامر، و تم إهمال المناهج السياسية و الديمقراطية للنضال. لذا، بدلاً عن إلهام الجماهير، جعلوهم غير فاعلين ومعتمدين على الإغاثات الدولية

إدارة الحركة الشعبية و الجيش الشعبي للمناطق المحررة كانت أسوأ من الوضع بالمناطق تحت سيطرة الحكومة المركزية، وهذا ما دفع المعظم للتوجه إلى معسكرات اللاجئين بدول الجوار، أو النزوح إلى شمال السودان للعيش في الاحياء العشوائية. فالتناقضات الإجتماعية بدأت بالظهور في مناطق سيطرة الجيش الشعبي، حيث حرك المنظمات الدولية عجلات إقتصاد الحرب. صار قادة الحركة و الجيش الشعبي طبقةٍ مُغتربة عن الشعب. اما جرثومة الفساد و عدم إحترام الممتلكات العامة الشائعة الان بجنوب السودان، فهي إمتداد طبيعي لسؤ الإدراة في الاراضي التي كانت تُعرف بالمناطق المُحررة في جنوب السودان، جبال النوبة و النيل الازرق.

طالت آمد حرب التحرير، وكان من الضرورة الإتفاق على وقف الحرب والتفاوض مع الخرطوم. إتفاقية السلام الشامل في جوهرها تسوية سياسية من صنع إدارة الرئيس بوش لتقسيم السلطة و الثروة بين المؤتمر الوطني/حكومة السودان و الحركة/الجيش الشعبي لتحرير السودان، وقد مكن الحركة الشعبية للسيطرة على جنوب السودان مباشرةٍ بموجب الإتفاق. قبل أن ينشأ تحالف بين القيادات السياسية – العسكرية مع عناصر جنوبيين من المؤتمر الوطني و الجيش السوداني، و التجار و رجال الاعمال بالمناطق المحررة مُشكلين الطبقة الرأسمالية الطفيلية التي تتحكم في جنوب السودان الان.

إنها طفيلية بحكم علاقاتها مع الدولة من وزراء، مُشّرعين، كبار موظفي الخدمة المدنية، القُضاة والجنرالات في الجيش و الأمن . أستغل هذه الفئة الموارد الاقتصادية للدولة لإثراء انفسهم من خلال العطاءات و العقود الحكومية والفساد الصريح وسرقة الأموال العامة و تواطأت مع الطبقة الحاكمة، اللاعبين الاقليميين، أزيال الراسمالية العالمية و المنظمات لنهب و تهريب الثروات الطبيعية لجنوب سودان، دون العناية المتطلبة بالبيئة المُستغلة. دمرت هذه النخب الطفيلية إمكانيات التنمية الاجتماعية والاقتصادية لجنوب السودان، وبالتالي شكّلت الوجه القبيح للإفقار المُمنهج لشعب جنوب السودان.

هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية هي التي شيدت النظام السياسي الهش القائم الان على أسسٍ غير عقلانية مثل الإثنية و المزاج الشخصي. ولا عجب أن إندلع الحرب أهلية في ديسمبر 2013، فالأزمة الإجتماعية والسياسية التي أقعدت بالدولة، هي نتيجة طبيعية لسيطرة هذه الطبقة الطفيلية وإختطافها للحركة الشعبية لتحرير السودان كأداة سياسية لتحقيق أهدافها في السلطة. شرعت الطبقة الرأسمالية الطفيلية في توجيه العمل السياسي على خطوط عرقية ومناطقية، و يقف مجلس كبار أعيان الدينكا (JCE)كابرز مثال لهذا الميل بحكم العلاقة العرقية القوية التي تربط قادتها مع القصر الرئاسي. نتيجة لهذه العلاقة، بات القرارات السياسية تُتخذ من قِبل لجنة كبار الاعيان مع مكتب الرئيس، بدلاً عن مكتب الحركة الشعبية لتحرير السودان و الأمانة العامة. بات جميع القرارات الرئيسة، تُناقشّ وتُعتمد في مجلس كبار الاعيان برئاسة القاضي أمبروز رينيق و الذي سبق و أن ذكّر الرئيس الجمهورية، فخامة الجنرال سلفاكير ميارديت ” أنت تمارس السُلطة نيابةٍ عننا”. قد أصبح الرئيس رهين للمجلس ويتبع سياسات الهيمنة العرقية في المجالات العامة والخاصة. كتب JCE  وثيقة غاية الإستفزاز بعنوان ” خطة جينق الرئيسة لحكم جنوب السودان للمئة عام القادم” وقد أعادت هذه الوثيقة نفس خطاب الكراهية الذي آدى إلى “الكوكرا”.

وفر الحرب الأهلية الاخيرة، الفرصة لمجلس كبار أعيان الدينكا بتمرير سياسية السيطرة على كل المواقع تقريباً. في الخدمة العسكرية والشرطة والأمن. وصار رؤساء ومدراء القوات الأمنية، الخدمة المدنية من الدينكا سواء كانوا مؤهلين أم لا، يشمل هذا، كل سفارات جنوب السودان ونقاط الدخول والهجرة والجوازات، و بات أيّ مؤسسة إقتصادية مُدرة للدخل يحكمها فرد من الدينكا، وكانهم يقولون صراحةٍ للجنوب سودانيين الآخرين، أن الدينكا هم حكامهم الجدد، و لا يجوز تحدي هذه الهيمنة. هذا الوضع يذكرنا بفترة إستقلال السودان، عندما كان الشماليون يلعبون دور الحكام الجدد لكل المحافظات الجنوبية.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.