إعوجاج الفكر السياسي و فشل تشكيل الامة و بِناء الدولة بجنوب السودان

إعوجاج الفكر السياسي و فشل تشكيل الامة و بِناء الدولة بجنوب السودان

د/ بيتر أدوك نيابا  

ترجمة: يدجوك آقويت

نحو ثورة ديمقراطية حقيقية:

قادة الحرب، لسيوا قادة جيدين للسلام والحرية والتنمية. والتجربة التراجيدية لجنوب السودان، تعكسُ فشل الحركة الشعبية لتحرير السودان في حرب التحرير (10)، و تؤكد إنهم فعلاً قادة حرب، وإلا لكانت النتائج مختلفة. سأكرس الأسطر التالية لما أقصده بالثورة الديمقراطية الوطنية. وقد سبق و أثرته في منتديات نقاش مختلفة، لكنها قُوبلت كالعادة برفض شديد ينُم عن جهل ورجعية.

في أبسط تعريف، الثورة هي عملية تغيير. وسياق التغيير الإجتماعي يختلف من مجتمعٍ لآخر. في سياقنا بجنوب السودان، الثورة هي العملية التي من خلالها تتم تجاوز التخلف الإجتماعي والاقتصادي والثقافي لجماهير شعبنا من خلال تطوير وتحديث قوى الإنتاج. لا ينبغي الشعور بالقلق بشأن هذه الثورة على الرغم من أن الكثير من الناس، وخاصة الجناح اليميني و الليبراليين / التقليديين يشعرون بالخوف عندما يسمعون كلمة الثورة، خصوصاً وانهم يفهمونها من منظور العنف، مما يسمح لنا طرح سؤال أخر، أي نوع من العنف؟

لقد عانى شعب جنوب السودان من العنف طوال تاريخهم. كانت الفترة الأكثر عنفاً، هي عهد العبودية وتجارة الرق التي أسترق فيها العرب والأوروبيون العديد من سكان جنوب السودان، وأخذوهم بالقوة بعيدًا عن موطنهم. الإحتلال الإستعماري للسودان كان عنيفًا أيضًا، حيث مارس المُستعمرِين، العُنف لفرض سيطرتهم. شهد شعب جنوب السودان أيضًا العنف نتيجة للحربين السابقين، وهم الآن، في خضم حرب فيما بينهم. لذا، من أيّ عنف يخاف هولاء؟!

هنالك حاجة لوضع العنف في سياقه؛ تحديد مُسبباته و محركاته. كما هو الحال في كل مكان في العالم ، يُعبر عن العنف في شكّلين: العنف الذي يمارسه المُضطِهد ضد الشعوب في سياق الإستغلال الاقتصادي، التمييز الإجتماعي والاستبعاد السياسي، و هذا العُنف قمعي، رجعي، وبالتالي من الصواب معارضته. ثم هنالك أعمال العُنف التي تُصَاحِب مُقاومة الشعوب لما يتعرضون له من إضطِهاد. في كلتا الحالتين، العنف أمر لا مفر منه، لذا لا يتعين على الناس أن يخافوا العنف الذي يُمارس ضدهم في سياق محاولتهم لإعادة إنسانيتهم وكرامتهم وتقديرهم لذاتهم. فرفض الثورة بحجة إنها تولد العُنف، خطأ هو مُبرر غير مسنود بمنطق، بل ويعتبر موافقة ضمنية على الوضع الراهن status quo ؛ بغرض إعاقة وعي الجماهير.

الكلمة الأخرى هي “الإيديولوجية”. مُصطلح يدفع بعض العناصر اليمينية المتطرفة والليبرالية ، خاصة تلك التي تنطلق من خلفياتٍ تعليمية كنسية. يقولون أن الأيديولوجية سيئة لأنها مرتبطة بالشيوعية أو الإشتراكية. هذا مرة أخرى، تصور خاطئ يعزى إلى الجهل والتحامل، أو ما يصنف في المُعجم الإنقليزي التقدمي، بالإنسداد العقلي Mental Blockage. في حين أنه من البديهي أن تكون الثورة كعملية إيديولوجية بالضرورة، فإن “الأيديولوجية” ليست حكراً على مدرسة فلسفية فكرية مُعيّنة؛ فكلمة إيديولوجيا تُشّير إلى الأفكار المعبر عنه في شِكّلٍ مُنظّم . تجب أن تكون للثورة، كعملية، أيديولوجية تحددها. في الماضي القريب، شهد العالم الثورة الأمريكية، الثورة الفرنسية والثورة البلشفية والثورة الصينية مع إختلاف خصوصية كل تجربة.

من الثوابت المعروفة، إن الثورة أمر لا مفر منها. فعندما يفشل أيّ نظام في إعادة إنتاج نفسه؛ يجب أن ينبثق النظام الجديد الذي ينمو في رحم النظام القديم. في النظرية والتطبيق ، الثورة تعني التغيير. من أجل إحداث تغيير ملموس أو من أجل قيادة التغيير في حياة الناس، وهي تستدعى مجموعة من الأفكار التي تتناسب مع التحول الإجتماعي والإقتصادي والسياسي الذي يرغب الجماهير في تحقيقه. يُشكّل مجموع هذه الأفكار المنظمة بطريقةٍ منهجية ومُنطقية أيدلوجية الثورة، وهو الذي يُلخص رؤية الثورة وأهدافها وإستراتيجياتها والنتائج المرجوة. لا شيء في هاتين الكلمتين يجب أن يخيف الجناح اليميني والليبراليين بأي شكّلٍ من الأشّكَال، إلا ان كانوا يتبنون الموقف الأيديولوجي للطبقات المستغلة والمرتبطة بالرأسمالية الإقليمية والدولية التي تعارض الثورة بسبب مصالحها في إستخراج ونهب موارد جنوب السودان.

أعتقد ان شرح ما تعني الثورة و الايدلوجية لم تكن امراً صعباً، رغم انه قد يضع حد للمخاوف غير المبررة من جناح اليمين والليبراليين حول الثورة من أجل تغيير حياة شعب جنوب السودان. ساتطرق في الاسطر التالية إلى نوع الثورة التي تحتاجه شعوب جنوب السودان، او ما ينبغي القيام به، و لماذا.

أولا، دعونا نلقي نظرةٍ فاحصة على جنوب السودان وغالبية سكانها. التأمل في جنوب السودان يكشف لنا السمات التالية: الجزء الأكبر من الناس يتبعون نمط حياة تقليدي في القرى الارياف أو في مجموعات سكنية تعاونية. مهما يكن، فإن بعض التجمعات التقليدية (الشلك، اوثو، وتوبوسا) تعيش في تجمعات كبيرة وأقرب إلى مدن صغيرة. ومع ذلك ، فإن الدينكا ، والنوير ، وبعض المجتمعات في الاستوائية، يبنون منازل منعزلة، للدينكا والنوير معسكرات ماشية، تجمع العديد من العشائر. لقد عاشوا هكذا منذ زمن سحيق، يعيشون على حراثة الارض لإنتاج الغذاء وغيرها من ضرورات الحياة أو تربية الماشية والعيش على مستوى الكفاف. هنالك عدد قليل من البلدات، والتي كانت في البداية مواقع إستعمارية أو مقار أو مراكز تجارية، القليل من الطرق غير المعبدة التي تربط هذه البلدات، مع صعوبة الوصول إلى معظم أجزاء البلد. في المدن ، الوضع الإجتماعي والإقتصادي ليس أفضل بأيّ حالٍ من الأحوال. هنالك عدد قليل من المدارس والمرافق الطبية في المُدن. لا توجد صناعات، مما يعني أن القوى الإنتاجية الوطنية لا تزال مُتخلفة. في هكذا ظروف، حيث كل المؤشرات الإجتماعية والإقتصادية سلبية، يُصْنف شعبنا كأحد أفقر شعوب العالم. هذا الواقع المحزن، الذي يجب أن يستدعي تأنيب ضمير كل قائدٍ جنوب سوداني، هي المُشكلة الأساسية، و التي تتجلى بطرق آُخرى مثل الحرب الأهلية الحالية التي نشأت نتيجة الصراع حول السُلطة بين النُخبة السياسية، أو النزاعات التقليدية مثل التنافس على المراعي وسرقات الماشية.

على الرغم من هذه الخلفية المُعممة عن الفقر، فالمجتمعات الزراعية و الرعوية مثل التوبوسا، الديدينغا، اوثو، المنداري، الدينكا، المورلي والنوير والشلك لهم مواشي. في الواقع، يحسب البعض قطعانهم بمئات أو الآلاف من الأبقار والأغنام والماعز والإبل. لماذا إذن، على الرغم وجود كل هذه الثروة، يصنف شعبنا على أنه فقير ويائس و يحتاج إلى تدخلات إنسانية دولية! السبب، إنهم رغم إمكاناتهم الهائلة من الموارد، يتم تصنيفهم كفقراء لأنهم لم يحولوا هذه الموارد الحيوانية إلى ثروة أو قيم إقتصادية معبّرة عنها بالمال، أيّ إنهم ببساطة، لم يطوروا قواهم الإنتاجية. إن الطريقة التي يمتلكون بها هذه الموارد لا يمكن أن يجعلهم أثرياء، خصوصاً وإنهم يعتبرونها مورد ثقافي للتباهي الإجتماعي، و في أحسن الأحوال، لدفع المهور او التعويضات في النزاعات. ما دام هذه الموارد مجرد أصول ثقافية، فإنها لن توفر لشعبنا الموارد المالية الضروية للتبادل أو شراء ضروريات الحياة الاخرى مثل الملابس والسيارات والسكن اللائق، وهذا ما يفسر لماذا يطلب سكان القرى من ذويهم الذين يعملون في الحكومة أو القطاع الخاص المساعدات المالية. لن يبيعوا مواشيهم؛ في الواقع، ينظر بعض مجتمعات القرى إلى بيع الماشية كسلوك عار، حتى في ذروة الفاقة و المجاعة. من الممكن أن نصف شخص يمتلك مائة رأس من الماشية بالفقير. في الواقع ، فإن المنهجية التقليدية للحفاظ على الماشية، تجعله فقيرًا.

في محاولة لتغيير هذا الواقع ، أدركنا أن جنوب السودان يتمتع بإمكانات طبيعية هائلة. والعديد من الموارد المعدنية الهامة مثل الذهب والكروميت والأسبستوس والماس، إلخ. عائدات النفط في جنوب السودان هو المورد الوحيد الذي يتدفق إلى خزائن الحكومة الان. الأرض في جنوب السودان يتميز بمناخ السافانا، مع وجود الغابات الطبيعية في الاستوائية، وعديد من المزارع في أجزاء من الاستوائية وغرب بحر الغزال. غابات يمكن إستخدامهم لتوفير الأخشاب، الصمغ، هذا بجانب الحياة البرية و قيمتها الجمالية كواجهات سياحة. هنا ايضاً، نهر النيل وروافده من سوباط، بحر الغزال، وياي، و بإمكانات ضخمة في الثروة السمكية و موارد مائية أخرى. علاوةٍ على وجود مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة المناسبة للإنتاج الزراعي الآلي بجنوب السودان. كل هذه الموارد ستظل مجرد إمكانات حتى يتم إستغلالها وتحويلها لقيمة إقتصادية.

إن تطوير هذه الموارد من أجل استخراج قيمتها الاقتصادية، أو تحويلها إلى أصول اقتصادية، يندرج تحت مسؤولية حكومة جمهورية جنوب السودان ويتطلب وضع سياسات و تشريعات وتنميوية. إستغلال هذه الموارد للفائدة العامة يتطلب فكر سياسي علمي يربط بين النضال و الإستقلال، وهذا من صميم العمل التحرري الوطني. يكّمُن جوهر الإستقلال والسيادة في السيطرة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعب أو بالأحرى إدارتها. فالسيادة تعني ان الحكومة الوطنية، لديها السلطة والقدرة على التحكم في كل شيء داخل أراضي جنوب السودان، ولا يمكن ممارسة هذه السُلطة إلا من خلال التشريعات والقوانين واللوائح والمبادئ التوجيهية، إلخ.

شكلت الحركة، حكومة جنوب السودان في عام 2005. وكانت تعد ذروة إنتصارها من أجل التحرير. كانت لها السُلطة الدستورية والسياسية والأخلاقية على شعب جنوب السودان. خلال الفترة الماضية، حصلت حكومة جنوب السودان على أربعة إلى خمسة مليارات دولار من عائدات النفط. كان يجب أن تستخدم هذه الأموال لتحقيق التنمية الإجتماعية والإقتصادية لجنوب السودان؛ لتشييد المدارس، المستشفيات، الطرق، شبكة الكهرباء، توفير السكن اللائق، وتوفير الخدمات الإجتماعية والتنمية الإقتصادية. فشلت الحركة الشعبية لتحرير السودان وجماعات حزب المؤتمر الوطني والأحزاب السياسية الأخرى في حكومة جنوب السودان في توفير التنمية الإجتماعية والإقتصادية لشعب جنوب السودان، و كرسوا أنفِسهم لسرقة خزائن الدولة.

حدث هذا بسبب إتباعهم إملاءات السياسات الاقتصادية و المالية ل[البنك الدولي وصندوق النقد الدولي]، والتي تركت جنوب السودان وشعبها الآن فقراء. ما هي العبرة إذن؟ بإختصار، أنحرف قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان عن أيديولوجية التحرير ومفهوم السودان الجديد. آدى هذا الانحراف إلى وقوع قادتها في أحضان القوى المهتمة باستغلال ونهب ثروات جنوب السودان، دون العمل على إحقاق التطور الإجتماعي والإقتصادي لشعبه. وهذا ما يفسر لماذا لا يوجد أيّ آثر ملموس لمشاريع التنمية أو تطوير البنية التحتية رغم إستلام الحكومة لأكثر من خمسين مليار دولار امريكى في غضون عشر سنوات (2005 -2015). التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي تضع مصلحة الجماهير في قلب السياسة العامة، لا تتم دون توجه إيديولوجي للحكومة، و هذا يعضد ما ألمحت إليه أعلاه، أن جنوب السودان جاهزة الان للثورة.

قبل الشروع في شرح الدور المفترض للحكومة في التنمية الإجتماعية والإقتصادية لجنوب السودان، لابد من إستصحاب هذه التجربة. تخلصت جمهورية الصين الشعبية من الإحتلال الإستعماري والإقطاع عام 1949 مع إنتصار الشيوعيين بقيادة ماو تسي تونغ على الحكومة القومية. حتى ذلك الوقت، كان معظم الشعب الصيني من الفلاحين، تمامًا مثل شعبنا في جنوب السودان ، وفي الواقع تم تصنيفهم على أنهم فقراء. كانت هناك بقايا من النمط الإقطاعي للإنتاج مثل الملكية الخاصة للأرض والعلاقات الإقطاعية للإنتاج ، والتي الغتها الحكومة الشيوعية من خلال الثورة الزراعية. لم يكن لدى الصين شركات تصنيع كبيرة، و لم تحدث الثورة الصناعية في الصين بعد. ومع ذلك ، في ظل قيادة الحزب الشيوعي، شرع الصينيون في التحول الإجتماعي والإقتصادي لواقعهم بدءاً من ثورة في الزراعة والصناعة لتوفير الأمن الغذائي والإحتياجات الأخرى للسوق المحلية. ثم في عام 1966، أطلقت الصين الثورة الثقافية لتمكين الشعب الصيني من الإستفادة من التقدم في المعرفة والعلوم و التقانة بغرض إعادة إنتاج الإنسان الصيني. اليوم، والصين هي ثاني أكبر إقتصاد في العالم دون الحاجة إلى المرور بنمط الإنتاج الرأسمالي.

مع الإستقلال، كانت دولة ما بعد الإستعمار في إفريقيا أمام خيارين: مواصلة علاقة الإستغلال الإقتصادي مع المستعمرين الرأسماليين، او إتباع مسار غير الرأسمالي الذي يعمل على تعزيز التنمية الإجتماعية والإقتصادية. الأول ليس خياراً بالمعنى الحرفي للكلمة بالطبع، لأن جوهر أن يكون المرء مستقلاً و حراً، يترجم في عزمه على قطع العلاقة مع قوى الهيمنة الإستعمارية. بمعنى أن واجب الحكومة القومية، هو توطيد السيادة في السياسة العامة، السيطرة على القوى الوطنية المنتجة، وتعزيز العدالة الإجتماعية والإخاء بين جماهير الشعب. إلا إن الإستعمار أنتج البرجوازية الوطنية الزائفة، التي ربطت دولة ما بعد الإستعمار بالإقتصادات الرأسمالية الكبرى لمواصلة الإستعمار الجديد، والتي تكرس الإستغلال و إستخراج ونهب الموارد. إن الدولة الإستعمارية الجديدة، غالباً ما تكون نقيضة للدولة الديمقراطية القومية التي عمل الجماهير على بناؤها أثناء الثورة.

تبعت جمهورية تنزانيا المتحدة، اشتراكية (أوجاما) القائمة على أساس القيم الإجتماعية – الأفريقية . تتكون تنزانيا من مائة وأربعة وعشرون إثنية، وهي الدولة الوحيدة في إفريقيا التي لا يستطيع فيها الساسة بموجب القانون، الركون إلى الاثنية وإستخدامه سُلم للسُلطة أو للتعبئة السياسية. إستخدم الأب المؤسس للجمهورية ، جوليوس نيريري، سحر الثقافة الموحدة في شكل لغة محلية – سواحيلية – لبناء الدولة التنزانية. تختلف التنمية الاجتماعية والاقتصادية في تنزانيا مع تلك الموجودة في جمهورية كينيا المجاورة من حيث الوعي الاجتماعي والثقافة الوطنية والتماسك. وذلك لأن كينيا خلال تاريخها كدولة مستقلة، كانت تتبع الاحادية الحزبية.

شارك على
Comments (0)
Add Comment