إضاءات حول دور الصحافة الوطنية في تغطية العملية السلمية في جنوب السودان

إضاءات حول دور الصحافة الوطنية في تغطية العملية السلمية في جنوب السودان

ورقة مقدمة في الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة

أتيم سايمون

مقدمة :

منذ بداية عملية المفاوضات بين اطراف النزاع في الحكومة و المعارضة في العام 2014 ، كانت الصحافة تحاول ان تقوم بمتابعة مجريات العملية السلمية ؛ بعد ان فشلت في إبتعاث موفديها لمقر المباحثات من اجل نقل مايدور خلف الكواليس لجمهور القراء و المتابعين ، سيما وان العملية بدأت شاقة جدا في ظل محاولات الوساطة لوضع النقاط الرئيسية للخلاف بين الاطراف ، وفي تلك الفترة كانت الصحافة تتصيد مايرشح لديها من اخبار من وكالات الانباء العالمية ، و من الاذاعات التي كانت قد ارسلت موفديها لمقر المباحثات مثل اذاعة (آي راديو) و راديو مرايا التابع للأمم المتحدة ، وقد كانت جميع تلك المحاولات لا تتعدي اجتهادات الصحفيين ، وهم يقومون باعداد التقارير من خلال ربط ماتتحصل عليه من اخبار مع توقعات الشارع وتطلعات المواطنين عن طريق التقارير الصحفية ، الاستطلاعات ، و الحوارات التي تقوم باجرائها مع قادة الاحزاب و المجتمع المدني . من الذين شاركوا في جولات التفاوض خلال المراحل المبكرة لعملية السلام ، ولم تتمكن الصحافة من متابعة سير العملية التفاوضية الا بعد انهيار الاتفاقية الاولي التي تم توقيعها بتاريخ 15 أغسطس 2015، وذلك في اطار محاولات الوساطة لاحياء وتنشيط الاتفاق في العام 2017، وهي الجهود التي كللت بتوقيع اتفاق السلام في سبتمبر المنصرم بعد مباحثات شاقة استضافتها كلا من العاصمة الاثيوبية اديس ابابا و العاصمة السودانية الخرطوم ، وهي المباحثات التي افضت الي توقيع اتفاق السلام من قبل بعض الاطراف في المعارضة مع الحكومة ، بينما رفضتها عدد من الجماعات و التنظيمات السلمية و المسلحة.

  • تحديات متابعة وتغطية اتفاقية السلام الاولي اغسطس 2015:

لقد واجهنا في الصحافة الورقية جملة من التحديات ونحن نحاول ان نتابع سير مباحثات السلام خلال تلك الفترة ، وذلك بسبب استمرار العدائيات و المواجهات المسلحة بين الاطراف التي كانت تستبعد ان تقود المفاوضات الي نتائج ملموسة تعيد السلام و الاستقرار للبلاد ، فقد كانت الاطراف لاتزال تثق في قوتها العسكرية و تحالفاتها على مستوي الاقليم ، حينها كان مطلوب من الصحافة ان تعتمد في تغطيتها لسير العملية السلمية على وجهة نظر واحدة هي وجهة النظر الحكومية الرسمية ، فقد كان ممنوعا ان تتم ايتضافة قادة المعارضة او استنطاقهم وان كانت تصريحاتهم تصب في صالح خدمة العملية السياسية السلمية ، لذلك فقدت التغطية الصحفية خلال تلك الفترة واحدة من اهم الشروط المهنية ، وهي عامل التوازن في التصريحات الخبرية ، وقد كانت تلك سياسة رسمية اتبعتها الحكومة مع وسائل الاعلام . حتي تلك التي كانت تقوم بالنقل المباشر لوقائع المفاوضات من اديس أبابا ، وبرغم المحاولات المتعددة التي قامت بها إدارات الصحف للسماح لها بنقل وقائع مايدور في مباحثات السلام بشفافية لكنها ووجهت بالرفض ، وتم منع استضافة او محاورة المعارضة او الاشارة الي تنظيماتهم باسمائها مثل (المعارضة المسلحة) ، وفضلت الحكومة وصفهم بالمتمردين ، وهنا يظهر ضعف الصحافة في فترات الحرب ، حيث لايعلو صوت فوق صوت المعركة ، بالرغم من ان تحربة نيفاشا كانت عكس ذلك ، حيث ساهمت الحكومة في مساعدة الصحفيين للوصول لمقر المفاوضات في نيفاشا لنقل الصورة الحية و بالوقائع و التفاصيل ، وقد ساهم ذلك في تهيئة الراي العام السوداني الذي كان يتابع ماتقوله الحكومة و الحركة الشعبية عبر اللقاءات والتي كانت تجريها الصحافة مع قيادات الحركة الشعبية. التي استطاعت ايصال رؤيتها حول حل الازمة السودانية والطرق المثلي لحل القضايا المتفاوض عليها ، وحينما تم توقيع اتفاقية السلام ، كان جميع الناس على المام بتفاصيل العملية السلمية وبر تكولاتها قبل ان يتم التوقيع عليها بشكل نهائي ، وحينما احتفل السودانيين باتفاق السلام الشامل ، كانوا يحتفلون بتسوية هم ملمين بكامل تفاصيلها.

    كان واضحا من خلال عدم استصحاب الصحفيين لتغطية جولة المباحثات في المرحلة الاولي من اتفاقية السلام ، ان الاطراف لم تكن ترغب في تمليك تلك التسوية للمواطنين ، ليس هذا فحسب ، فنجد حتي الصحفيين انفسهم يكتبون عن اتفاق هم غير ملمين بتفاصيله الدقيقة ، وقد وقعت العديد من الاخطاء المهنية و التحريرية نسبة لغياب المعلومات عن هؤلاء الصحفيين ، وهذا يعود لغياب الارادة الشفافية ، فالمسالة لم تكن تكلف الوساطة كثيرا لو انها قامت باضافة الصحفيين لتغطية المباحثات ، لو الحت عليها الاطراف في الحكومة و المعارضة ، بضرورة اشراك الصحفيين الوطنيين في جولات التفاوض في المرحلة الاولي من التفاوض .

خلقت التحذيرات التي أطلقتها الحكومة للصحفيين بعدم نقل اخبار المعارضة التي كانت تتفاوض معها على تسوية سلمية تضع حدا للحرب وتعيد الاستقرار للبلاد ، حالة من الرقابة الذاتية للصحف التي باتت تخشي المصادرة و الرقابة القبلية ، وكذلك الحال بالنسبة للصحفيين الذين كانوا يخشون الاستدعاءات المتكررة من قبل الجهات الامنية او سلطة الاعلام ، طالما تم تحذيرهم ، وهذا يعود ايضا لضعف المؤسسات المعنية بحماية الصحفيين وحقوقهم ، طالما انها لم تخالف المواثيق التي تواضعوا عليها ، خاصة اتحاد الصحفيين الذي يعتبر الجهة المعنية بمتابعة احوال وقضايا الصحفيين و التصدي لها بما فيها سلطة الاعلام التي حدد القانون مهامها بالعمل من اجل تعزيز و تشجيع حرية التعبير بالبلاد.

  بعد ان تعرضت اتفاقية السلام للانهيار في يوليو 2016 عقب اندلاع احداث محيط القصر الجمهوري ،إزدادت الأوضاع سوءا بالنسبة للصحفيين الذين ارغموا على عكس الاحداث من منظور الطرف الحكومي ، وباتت الاجواء اكثر عدائية امام الصحفيين ، حيث انخفضت التغطيات المتعلقة بمستقبل الاتفاقية نفسها ، حيث كانت تتمسك مفوضية مراقبة تنفيذ الاتفاقية بان الاوضاع لم تتاثر بغياب الدكتور مشار ، وان الاتفاقية ستستمر برغم غياب اطراف رئيسية ومهمة ، من الجماعات التي كانت جزء من حكومة الوحدة الوطنية ، واصبحت هناك تابوهات لايمكن للصحافة الاقراب منها ، من بينها قضية السلام ذات نفسها ، ومسألة الولايات الجديدة ، وقد شهدت تلك المرحلة حالة من الانكماش في اداء الصحافة واهتمامها بقضية السلام بالبلاد ، الي ان تقدمت مفوضية حيمك بمقترح يقضي بضرورة احياء اتفاق السلام وضخ دماء جديدة فيها عبر منبر الايغاد .

*مرحلة اعادة احياء الاتفاقية :

في هذه المرحلة استدعت الضرورة مشاركة الصحف و الاذاعات الوطنية في عملية تغطية مباحثات تنشيط اتفاق السلام بالعاصمة الاثيوبية اديس ابابا ، وبمبادرة مقدرة من (جيمك) عبر منظمة تمكين المجتمع للتنمية (سيبو) استطاع رؤساء تحرير الصحف العربية و الانجليزية بجانب الاذاعات المشاركة في تغطية عملية التفاوض ، و تمليك كل ما يدور بين الاطراف لجمهور القراء و المستمعين اول باول ، عبر الحوارات المباشرة و تقارير الاحاطة ، كل صغيرة وكبيرة عن مواقف الاطراف حول القضايا مثار النقاش اولا باول ، وقد اسهم ذلك في تقدير الكثيرين في المام المواطنين بالقضايا و الملفات التي تخضع للنقاش من قبل الاطراف في كافة الملفات المتعلقة بقضيتي قسمة السلطة و الترتيبات الامنية ، وخلال تلك المرحلة تلمس الناس العاديين المواقف الحقيقية لكل طرف ، كما اسهمت في اضطلاع الصحفيين على كيفية سير العملية التفاوضية ذات نفسها ، وقد انعكست تلك التغطيات في اثراء مقالات الراي و الاعمدة التي اعتمدت على المعلومات المتدفقة من مقر المفاوضات بشفافية تامة دون لبس او غموض ، واستطاعت الصحافة الورقية خلال تلك الفترة ان تقدم تحليلات موضوعية ، بعد ان كان الناس ينتظرون عودة الوفد الحكومي لتنوير الراي العام عما دار في المفاوضات ، من وجهة نظر واحدة مصحوبة بتاويل لموقف الاطراف الاخرى في المعارضة ، وفي تلك المرحلة قلت الاتهامات وبات كل طرف يحاول ان يبرر موقفه التفاوضي بعد ان اصبح المواطن البسيط ملما بما جرى داخل قاعات التفاوض  ، وقد انعكست تلك التغطيات ايضا على معدل الاقبال على شراء الصحف التي باتت تحمل اخبارا جديدة متعلقة بمفاوضات السلام ، و التي استمرت بعد نقلها من اديس ابابا للعاصمة السودانية الخرطوم ، لحين توصل الاطراف لاتفاقية السلام التي تم توقيعها بالعاصمة الاثيوبية اديس ابابا في الخامس من سبتمبر 2018.

    ساهمت الصحافة من خلال تغطيتها لمباحثات السلام في عكس الجوانب الايجابية التي اعترت تلك العملية مع التركيز على بث الرسائل الايجابية التي تبث روح التفاؤل بين المواطنين ، من خلال التركيز على نقاط الاتفاق و الفرص الممكنة لحل الملفات المعلقة ، مثلما حدث مع قضية عدد الولايات و الاليات التي تم التوافق عليها لحسم الخلاف .

برغم تلك الادوار الايجابية التي لعبتها الصحافة ولاتزال فيما يختص بالعملية السلمية ، الا ان هناك جوانب أخرى يجب ان تلفت اليها الصحف و المحررين ، اذ تلاحظ كيف ان قادة الاطراف في الحكومة و المعارضة هى التي تحدد الاجندة التي يجب على الصحف تناولها فيما يتعلق باتفاقية السلام وكيفية تنفيذها ، مثلا نجد ان الصحافة تركز اهتمامها في الفترة الاخيرة بمصالح الاطراف الموقعة في قسمة السلطة و التمثيل السياسي ، حيث اغفلت قضايا اخرى مهمة وذات صلة مباشرة بالمواطن ، فاتفاق السلام مصمم في الاساس لوقف الحرب و المعاناة التي يرزح فيها شعب جنوب السودان ، لكن هنالك مسائل اكثر جوهرية كان يجب ان تلتفت اليها الصحافة في تغطيتها للعملية السلمية وهي قضايا الاصلاح المؤسسي و المحاسبة عن الجرائم و الانتهاكات التي ارتكبتها الاطراف خلال فترة الحرب ، باعتبار ان المساءلة هى المدخل الرئيسي للمصالحة وبناء دولة المستقبل المنشودة ، تلك هي القضايا الجوهرية التي تهدف اتفاقية السلام للوصول اليها ، لذلك وجب عللا الصحفيين تذكير المتلقي بان اتفاقية السلام غير محصورة فقط في قضايا قسمة السلطة ، الترتيبات الامنية ، و عدد الولايات ، وانما تستهدف تحقيق تحول حقيقي في علاقات الحكم ومأسستها على نحو قومي لتجنب انزلاق البلاد مجددا نحو دوامة العنف.

بحكم التجربة ؛ فان الحديث عن اي دور يمكن ان تلعبه الصحافة في تغطية وتناول عملية السلام ، ينبغي ان تتطرق لقضية واحدة مهمة وجوهرية ، وهي حرية التعبير ، لانها تمثل اختبارا حقيقا لعملية السلام ، فاذا لم تقود اتفاقية السلام الي ازالة كافة الحواجز و القيود المفروضة على الصحافة ، في حصولها على المعلومة وتقديمها للمتلقي ، لذلك لابد من اتاحة المساحة امام الصحافة لتناول كافة القضايا المتعلقة بالسلام وبناء الدولة و المحاسبة ، وذلك من خلال رفع الرقابة المفروضة على الصحف في المطبعة كما حدث مع بعض الصحف في الفترة الاخيرة ، فاذا كانت هناك جهة متضررة من نشر اي مادة ان تحتكم للطرق القانونية المنصوص عليها .

خلال الفترة ماقبل الانتقالية التي اعقبت توقيع اتفاقية السلام ، استطاعت الصحافة ان تنبه الاطراف الي مكامن القوة ومواقع القصور في اتفاقية السلام ، وذلك بالتحذير صراحة من صراع المصالح الاقليمية على جنوب السودان ، خلال التحليلات الصحفية المختلفة ، كما قامت بنشر الاتفاقية كاملة وتمليكها للقراء كوثيقة مهمة تحكم الفترة المقبلة ، كما قدمت تصورات لتجاوز أزمة التمويل بعد ان ابدى المجتمع الدولي تحفظاته على نموذج التسوية واعلن عن رفضه لتمويلها ، حيث ركزت الصحافة على ضرورة تسخير الموارد المتاحة مثل عائدات البترول لدعم تنفيذ الاتفاقية في الفترة السابقة لتكوين الحكومة ، وذلك من اجل التاكيد على وجود ارادة سياسية لتنفيذ بنود الاتفاقية روحا ونصا ، لكسب ثقة المواطن في العملية السلمية ، ومخاطبة مخاوف النازحين واللاجئين الموجودين في دول الجوار وتشجيعهم على العودة من خلال البدء في تدريب القوات المشتركة ودمجها  في قوة واحدة كنواة لجيش حكومي قومي بعقيدة جديدة ، كما ركزت في معظم قوالبها التحريرية المختلفة خلال الاشهر الست الماضية علي اهمية تمليك اتفاقية السلام للمواطنين من خلال تنظيم الحملات المشتركة للاطراف الموقعة دون ابعاد او اقصاء اي طرف علي حساب الاخر ، كما أفردت ملفات متكاملة لمتابعة قضية توحيد فصائل المعارضة المنقسمة بسبب الخلاف على السلطة ، بجانب تسليط الضوء على مبادرة الايغاد القاضية بالحاق الجماعات الرافضة بالعملية السلمية في اقرب فرصة ممكنة .

ملاحظات ختامية:

لضمان استمرار الصحافة في لعب دور اكبر في تغطية العملية السلمية في جنوب السودان ، تظل هناك حاجة لإفراد ملفات متخصصة في الصحف و الاذاعات للقضايا الجوهرية التي تناولتها اتفاقية السلام ، وعكسها بصورة دورية عبر التغطيات الاخبارية ، التقارير الصحفية ، الفيتشرات التي تتناول الانشطة المتعلقة بتلك القضايا ،وذلك بصورة يومية منتظمة .

ان تكرس الصحافة ووسائل الاعلام المختلفة جهدها في الاشهر المقبلة عبر مؤسساتها المختلفة مثل اتحاد الصحفيين ، جمعية تطوير الاعلام ، وسلطة الاعلام وبالتنسيق مع منظمة اليونسكو علي تنظيم المزيد من ورش العمل على مستوى الولايات لتدريب الصحفيين على كيفية تغطية ملف العملية السلميىة كاولوية قصوى.

تنظيم جائزة نصف سنوية لافضل التقارير الصحفية والبرامج  التي تناولت قضية السلام في جنوب السودان .

شارك على
Comments (0)
Add Comment