إعوجاج الفكر السياسي و فشل تشكيل الامة و بِناء الدولة بجنوب السودان (7)

إعوجاج الفكر السياسي و فشل تشكيل الامة و بِناء الدولة بجنوب السودان (7)

د/ بيتر أدوك نيابا  

ترجمة: يدجوك آقويت

نحو ثورة ديمقراطية حقيقة

تبعت جمهورية تنزانيا المتحدة، اشتراكية (أوجاما) القائمة على أساس القيم الإجتماعية – الأفريقية . تتكون تنزانيا من مائة وأربعة وعشرون إثنية، وهي الدولة الوحيدة في إفريقيا التي لا يستطيع فيها الساسة بموجب القانون، الركون إلى الاثنية وإستخدامه سُلم للسُلطة أو للتعبئة السياسية. إستخدم الأب المؤسس للجمهورية ، جوليوس نيريري، سحر الثقافة الموحدة في شكل لغة محلية – سواحيلية – لبناء الدولة التنزانية. تختلف التنمية الاجتماعية والاقتصادية في تنزانيا مع تلك الموجودة في جمهورية كينيا المجاورة من حيث الوعي الاجتماعي والثقافة الوطنية والتماسك. وذلك لأن كينيا خلال تاريخها كدولة مستقلة، كانت تتبع الاحادية الحزبية. عندما عاد البلاد إلى التعددية الحزبية السياسية الديمقراطية الليبرالية المنظمة، كانت السلطة تمارس على أسس العرق. كدولة ليبرالية متعددة الأحزاب وفقًا لدستور عام 2010 ، فإن كينيا ، لازالت تعاني حتى الان من إستقطاب إثني، إحتجاجات على العنصرية السياسية الإثنية، التهميش الاقتصادي والتمييز الاجتماعي.

وبالعودة إلى الوضع في جنوب سودان، كان الوضع أشبه بمعظم دول أفريقيا جنوب الصحراء، خصوصا تلك التي اضطرت إلى الدخول في مفاوضات مطولة مع القوى الاستعمارية للتحرر. لم يتصرف قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان كجسم قاد نضال ثوري جنباً إلى جنب مع الشعب. وهذا لم يكن مفاجئا، إذ هذه النخب، كما ذكرت في موضع آخر في هذه الورقة، قد إغتربت عن الجماهير وتحولت إلى طبقة نخبوية ومنعزلة و انشغلت بالسبل الممكنة لتراكم الثروة باسرع الطرق. هذا الميل للثراء في أسرع وقت ممكن، لا يسمح بمعالجة التخلف الإجتماعي والإقتصادي والثقافي للشعب. وهذا ما يفسر لما بدلاً عن توفير الأساسيات من تنمية إقتصادية، شرع القادة في تضخيم ذواتهمself-aggrendizlment ، الفساد ونهب خزينة الدولة.

لم يكن لدى قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان ورفاقهم من حزب المؤتمر الوطني والأحزاب السياسية الأخرى فكرة عن كيفية تلبية تطلعات الشعب نحو الحرية والعدالة والازدهار والإخاء. بالنسبة لقادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، فإن هذا النسيان يعزى لغياب الفكر الثوري لحرب التحرر الوطني. بمجرد أن توليهم السلطة في حكومة جنوب السودان، بدأ قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان في اتباع سياسات اليمين والليبرالي من خلال سياسات وايدلوجيات اقتصادية مثل السوق الحر مما آدى إلى إقتصاد الكفاف البائس بجنوب السودان، بالنظام الرأسمالي العالمي، دون وجود طبقة رأسمالية قادرة على قيادة التنمية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد.

لقد حولت النخبة العسكرية السياسية نفسها إلى طبقة رأسمالية طفيلية تسيطر على الدولة. لم يكن لهذه الفئة رأس مال خاص، و بما إنها لم تتحكم بأي وسيلة إنتاج، فقد استمدت قوتها من سيطرتها على الدولة ومواردها. ونتيجة لعلاقتها بالدولة و الرأسمالية العالمية في تحالفهم لنهب الموارد الطبيعية لجنوب السودان، فإن هذه الفئة التي لا تزال طفيلية في جوهرها، لم يتمكن من البقاء على قيد الحياة إلا من خلال امتصاص موارد الدولة وتحويل هذه الموارد خارج البلاد. لذلك هي غير قادرة على قيادة الدولة نحو التنمية الاجتماعية الاقتصادية.

لقد شهدنا في السنوات العشر الأخيرة (2005 – 2015) انخفاضاً مطرداً في المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية لجنوب السودان إلى الحد الذي أصبحت فيه جميعها سلبية. صحيح ان الحرب قد أدى إلى توقف إنتاج النفط و الإنفاق الحكومي على القوات المسلحة اليوغندية من مسببات هذا التراجع، إلا إن السبب الرئيس هو السياسات الاقتصادية السيئة التي تبنتها الحركة الشعبية في جنوب السودان منذ عام 2005، السياسات التي تتجاهل تنمية القطاعين، الزراعي والثروة الحيوانية في العملية الإقتصادية.

الفشل في توفير التنمية الاجتماعية والاقتصادية ينعكس على المستوى السياسي في شكل صراع على السلطة. إن السيطرة على سلطة الدولة ومواردها المالية والاقتصادية باتت مرتبطة بالسياسات العرقية. فليس من المستغرب أن شهد جنوب السودان مباشرة بعد الاستقلال تنامي القومية العرقية بين الدينكا و النوير مع الرغبة من قبل المجموعتين لبناء جنوب السودان وفق تصور كل منهما. ظهور مجلس أعيان الدينكا كحلقة حماية حول سلفاكير كانت في إطار مساعي الدينكا للسيطرة على الدولة. لا عجب أن تحول هذا التنافس إلى عنف في ديسمير 2013 والحرب الأهلية التي أغرقت جنوب السودان في أزمات اجتماعية، اقتصادية وسياسية حادة.

لن يكون من السهل على جنوب السودان، الخروج من هذه الأزمات طالما القوى السياسية في الحكومة وفي المعارضة لا زالت تعيد اللعبة السياسية التي تنتهي بتقاسم السلطة وإعادة نفس النموذج السطحي للنظام منذ العام 2005. ظل النظام يتجاهل الجماهير، وبالتالي يولد الصراعات في أشكال مختلفة وعلى مستويات مختلفة. يجب أن نعترف بأن الظرف الثوري حاضر الان بجنوب السودان، و يتمظهر في الفشل الواضح للنظام في تحقيق التنمية. إن الحرب الأهلية التي اجتاحت البلاد بأسرها، والعدد الكبير من حاملي السلاح، يدل على رفض النظام. يحدث هذا حتى في مناطق الدينكا في البحيرات وواراب ببحر الغزال. فالحروب الدائمة بين آقوك و أفوك في قوقريال، أو بين ريك و لوانج جيينق في تونج أو بين آقار لوحدهم و الذي خلف مئات الاموات، تنبه إلى وجود خطأ ما في النظام الذي فشل في تلبية تطلعات الناس نحو التنمية الإجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك ، نظراً للجهل وعدم القدرة على قراءة الواقع من المنظور الصحيح ، فإن المعظم لا يجدوا طريقة للتعبير عن سخطهم من النظام إلا من خلال ممارسة العنف في ما بينهم. تحمل المجتمعات السلاح للدفاع عن وجودهم كأشخاص أحرار، نتيجة لفشل النظام في فرض الامن باركان البلاد، وهذا يقودنا إلى سؤال التسأول عن وظيفة الدولة!

على مستوى آخر، هناك نزعة إنفصالية قوية بين النخب السياسيين الاستوائيين، و هي تعبير عن القومية العرقية من منظور مناطقي يُصدر الإستوائية ككيان واحد على الرغم من التباينات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة. جبهة الخلاص الوطني (NAS) وما يسمى بالمجموعات الجنوبية القلقة (شرق الاستوائية ووسط الاستوائية وغرب الاستوائية وغرب بحر الغزال)) تفوح منهم ايضاً هذه النزعة الانفصالية (11) مدفوعة جزئياً بالعداء للحركة الشعبية / الجيش الشعبي لتحرير السودان في المعارضة وإعتراضهم على وجود هذه القوة في الاستوائية في سلوك يعكس موقفهم تجاه الدينكا والنوير بشكل عام. ينبع هذا الميول من رغبة القادة في الوصول إلى السلطة بأقصر الطرق و تجنب تعقيد وصعوبات الخوض في الصراعات السياسية السائدة، وتعبر عن نية لبلوغ السلطة عبر الإنتماءات العرقية والمناطقية الضيقة. إن إستراتيجية تجزئة الشعب على أسس عرقية وإقليمية لن تحل المشكلة الكامنة التي آدت إلى الحرب الأهلية في جنوب سودان.

لا توجد خلافات جوهرية بين أهل جنوب السودان الذين يمكن إعتبارهم من المنظور الاجتماعي – الثقافي، ككتلة اجتماعية واحدة. وطالما عاشوا سوياً منذ أزمان ساحقة، وبالتالي لا توجد مشكلة في بقائهم سوياً. في الواقع، و على حد تعبير المؤرخ البريطاني ، جون لونسديل “عاش الأفارقة جنباً إلى جنب ” كإثنيات متعاونة “قبل أن يحولهم الإستعمار إلى” قبائل متنافسة “. ليس هنالك تناقضات واضحة بين النوير والدينكا، أو بينهم و الاستوائيين من جهةٍ أخرى، إنهم جميعاً يعيشون على إنتاج الكفاف من المحاصيل والماشية. التناقض الأساسي هو بين جماهير شعب جنوب السودان في مختلف اوجهها و تشكيلاتها الاجتماعية والسياسية والعسكرية، و الدكتاتورية التي نشأت عنها الطبقة الرأسمالية الطفيلية تحت قيادة الرئيس سلفا كير ميارديت. لذلك ، فإن الميول المذكورة أعلاه والتي تجنح إلى عزل أو فصل أهل الاستوائية وغرب بحر الغزال على إعتبارات وهمية عن أخوتهم المواطنيهم في الأجزاء أخرى من جنوب السودان، سببها الإفتقار التام للمعرفة العلمية للواقع الموضوعي من جهة، والنية لإستغلال جهل العامة من ناحية أخرى. لذا، لمعالجة الوضع الحالي، للنضال من أجل منع انهيار الدولة، الإقتصاد و الخروج من الأزمة الإنسانية الحالية، لابد من تضافر الجهود و العمل جنباً إلى جنب وتجاوز الإنقسامات العرقية و المناطقية بين إثنيات جنوب السودان. أيّ محاولة لكبح كفاح الجماهير عن طريق ما يسمى بـ ” المجموعات الجنوبية القلقة” أو “مجلس كبار أعيان الدينكا” ، وما شابه ذلك ، لابد من إعتباره سلوك ضار وغير وطني يستحق أن يعامل بإحتقار.

إن الثورة الديمقراطية الوطنية هي العمليات الهندسية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، التي تقوم بها القوى السياسية والاجتماعية من أجل تعزيز الاستقلال الوطني والمشاركة الأخوية ؛ لإعلاء الحس الوطني وتعزيز حرية الجماهير العدالة الاجتماعية. فهي تطور وتحرر القوى المنتجة الوطنية من أي نوع من السيطرة الأجنبية . تتمثل مهمة الثورة الديمقراطية الوطنية في معالجة التناقض الأساسي الذي ينعكس في الفقر والجهل والأمية والخرافات التي تغمر وعي الجماهير إلى جانب ذلك، فإنه يتناول أيضًا التناقضات الثانوية المتأصلة في الميول الاجتماعية والإثنية واللغوية والدينية والثقافية لجنوب السودان.

كما تبدو الأمور ، فإن القوى السياسية والاجتماعية الثورية والديمقراطية هي وحدها القادرة على قيادة الثورة الديمقراطية الوطنية. وهذا بفضل أيديولوجيتهم ووعيهم الثوري ومعرفتهم بقوانين التنمية الإجتماعية والإقتصادية للمجتمع ومستوى إنضباطهم وإلتزامهم تجاه الشعب. إن الضعف الذي ينعكس في قلة التنظيم والوحدة الإيديولوجية لهذه القوى السياسية والاجتماعية الثورية والديموقراطية يفسر سبب عدم بدء الثورة الديمقراطية الوطنية على الرغم من وجود الظروف الموضوعية لإندلاعها بجنوب السودان منذ بداية الجولة الثانية من الحرب في العام 1983. ويلاحظ إن هيمنة القوى اليمينية والليبرالية الجديدة على حركة التحرر الوطني منذ بداياياتها، تسبب في تمرغ الحركة في الإيديولوجيات الرجعية والعرقية.

شارك على
Comments (0)
Add Comment