تأملات قرآنية: في الآية 30 من سورة الأنفال

 تأملات قرآنية: في الآية 30 من سورة الأنفال

بقلم: د. هاشم غرايبه

يقول تعالى في الآية 30 من سورة الأنفال: “وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ”.

المكر معناه اللغوي هو تدبير أمر في خفاء، ومعلوم بداهة أن ما يُدبّر في الخفاء لا يلزم منه أن يكون شراً، بل قد يكون خيراً، لكن المفهوم لدى العامة من الناس أن فيه كيداً للممكور به عادة، إذ لو كان فيه خير لما كان مخفيا عنه.

إن المكر في القرآن الكريم قصد به التدبير بوجه عام، وعندما يكون التدبير خفيا يسمى المكر، ولكن لأن تدبير الله تعالى المبطل لمكر البشر السيء خفيٌّ عليهم دائما، لذا سماه مكراً.

بناء على ذلك الفهم، فتدبيرات البشر في الخفاء أغلبها بقصد إيقاع الأذى، فهي تآمر أي كيد مذموم، لأن إخفاءه قصد به المباغتة لضمان نجاحه، وكانت هذه الآية نزلت في كيد المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم بقصد إحباط دعوته، فما اتفقوا عليه سرا كان إيقاع الأذى به بحبسه أو قتله أو طرده من المجتمع، وهذا المكر كان لينجح بفضل تمكن المتآمرين وقدرتهم على تنفيذ ما بيتوه، لولا أن هنالك من هو عليم بما تسره النفوس وما هو خفي عن الأعين، هذا الإله لا يغفل عن مكر الماكرين، وعندما يشاء يمكر بما يبطله ويفشل مسعاه.

كان بوسع الإله القادر أن يمحق المتآمرين في لحظة واحدة، أو أن يرفع نبيه الكريم من بينهم وينقله الى مكان آمن، فقد نقله ذات ليلة الى المسجد الأقصى ثم رفعه الى السموات العلا وأعاده.

لكنه تعالى وضع سننا يسير عليها الكون، ولا يحيد عن ذلك مؤمن ولا عاصي، فأراد من ابطال مكر المشركين برسوله وإنقاذه من بينهم بالهجرة الى المدينة تعليمنا دروس كثيرة:

الدرس الأول: أن من اعتصم بالله وتمسك بمنهجه فعليه أن لا يرهبه بطش الطواغيت مهما تمكنوا، ولا يخشى من كيد الكائدين مهما علوا في الأرض وامتلكوا وسائل القوة، لأن أولئك الجبارين فوقهم ذو القوة المتين، يراقب ما يمكرون، “وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ” [فاطر:10]، و”وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ” [فاطر:43].

وهم في قبضته تعالى، وخاضعون لقاعدة وضعها، تحكمهم أينما كانوا وفي كل زمان: “وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ” [التوبة:2].

الدرس الثاني: إن الشدائد التي يقدرها الله على عباده فيها خير، فالمعاناة تصقل النفوس وتشد العزائم، ومتى تم ذلك يأتيهم الفرج، فقد تحمل المسلمون الأوائل من المشركين أذى كبيرا، وصمدوا رغم أن موازين القوى كانت لصالح أعداء الله وبشكل بائن، لكن المؤمنين لم يقنطوا من نصر الله، فجاء الفرج فور أن بلغ الإيذاء منتهاه، وهو نية قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنجاه الله بالهجرة، وذلك ما أدى الى قيام الدولة في المدينة، وعلو سلطان الإسلام وعز المسلمين.

وهذا أمر هام يجب أن يفهمه المسلمون وحَمَلَة الدعوة، وخاصة في هذه الأيام حيث يشتد التكالب على ديار والمسلمين، ويشتد الضغط عليهم بمسمى الحرب الفكرية ضد الإرهاب، بعد أن توهم صنفا أعداء الإسلام: من خارجها الكفار بدين الله الطامعين بخيرات الأمة، ومن الداخل أعوانهم من منافقي الأمة (الطواغيت ومؤيديهم) أنهم قادرون على استئصال شأفة الإسلام.

على المؤمنين الصمود فلا تقعدهم الشدائد والصعاب عن مضاعفة العمل لاستئناف الحياة الكريمة، التي لا توفرها إلا الدولة الإسلامية، بل يجب أن تزيدهم قوةً ونشاطاً واستبشاراً بنصر من الله وفتح قريب.

الدرس الثالث: إن الأخذ بالأسباب أمر بالغ الأهمية في الإسلام، فالله لا يغير سننه الكونية عندما ينصر المؤمنين، بل يهيء لهم الرشاد والعقل الراجح، فإن اتبعوه يبصّرهم بالمخارج ويعمي عنهم العيون، فإن بذلوا جهدهم أنجحه، وإن صدقوا النية نصرهم ولو كانوا مستضعفين، ودافع عنهم ولو كانوا قلة يخشون أن يتخطفهم الناس.

والدليل الحاضر نراه في صمود أهل غزة، فرغم سد كل المنافذ، بالحصار المزدوج من قبل العدو ومن أخوة الدم، إلا أن الله يعمي عنهم العيون، فيصلهم السلاح.

فليطمئن الداعون الى النهضة وفق منهج الله، فوعده تعالى حق: “إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا “[الحج:38].

شارك على
Comments (0)
Add Comment