تأملات قرآنية … بقلم:د. هاشم غرايبه

تأملات قرآنية … بقلم:د. هاشم غرايبه

يقول تعالى في سورة الإسراء: “مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا . كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا”.

في هذه الآيات الثلاث، توضيح مفصل ودقيق لسنة الله في عطائه للبشر، ولا يحتاج المرء لأكثر من ذلك معرفةً لتدله، فهي خارطة طريق واضحة، تربط بين فعل الإنسان ونتيجته.

فالآية الأولى تبين حالة من أراد نتيجة عمله الفوري في الدنيا، ولا يريد الخير الآجل في الآخرة، وهذه سمة أغلب الناس، فهم يريدون النفع في حياتهم، لأنهم لا يصدقون بوجود الحساب والجزاء، أو واهمون يعتقدون أن مجرد الإيمان بالله كافٍ لنيل عطائه في الآخرة.

وفي الآية الثالثة بين الله لهم أن لا يركنوا الى وهمهم هذا، وأن لا يعتقدوا أن عطاءه لهم في الدنيا هو جزاء رضاه عنهم، ولا حرمانه لبعضهم عقاب، فالسنة الكونية أن لكل مجتهد نصيب، فمن جد في الحياة الدنيا بهدف النفع وليس التقوى، سيعطيه ربه خيرا دنيويا، بمقدار محسوب ضمن معادلات كثيرة متشابكة، وبفوارق فردية وفق حكمة إلهية، قد ندرك بعضها الظاهر لنا، لكننا لا يمكن أن نلم بالمغيب منها.

أما الآية الثانية، فتبين استحقاقات الفوز بخير الآخرة، والمتطلبات لذلك ثلاثة شروط مجتمعة معا:

الأول: توفر النية (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ)، فكل عمل يعمله الإنسان لا بد أن يكون هادفا، ووفق إرادة أرادها، فلا يُشكَر عمل عامل إلا إن كان النفع مقصودا بذاته.

وكمثال للتوضيح: في الحملات الانتخابية: فمن قدم مالا لشخص فقير بقصد أن ينال صوته الإنتخابي، فهو أراد النفع الدنيوي فقط، لا يعتبر عمله هذا صدقة، ولا يحسب له في ميزان حسناته، رغم أنه نفع بذلك المال محتاجا.

لكن من كان معتادا بذل المال بقصد مرضاة الله في الصدقة أو الزكاة، وعندما ترشح، قدر المستفيدون ذلك له فانتخبوه، فذلك النفع الدنيوي الذي ناله كان عطاء من الله ومكافأة، ولا ينتقص من أجره في الآخرة شيئا.

الثاني: السعي للفوز بها، بالقيام بالأعمال النافعة، سواء لنفسه أو لغيره، وتجنب فعل ما يضر بالنفس وبالغير. وقد بين الله تعالى صفة من يلتزمون بذلك وسماهم المتقين، ومواصفات هؤلاء بينها الله تعالى تفصيلا في مواضع متعددة من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى أوائل سورة البقرة: ” الم . ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”، كما فصّل أفعال الخير أكثر في الآية 177: “لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ”.

الثالث: شرط الإيمان (وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، وهذا شرط أساسي لقبول الأعمال الصالحة، فمن غير المنطقي أن ينتظر من ينكر وجود الله أو فضله أصلا مكافأة منه.

لذلك ولتحقيق تكافؤ الفرص، ومنح الجميع فرصة لنيل عطاء الآخرة، فقد أمد الله جميع خلقه على السواء بعطائه الدنيوي، من أطاعه ومن عصاه.

هكذا تكون الوسيلة للفوز العظيم (دخول الجنة) متاحة لمن أرادها، وهي تحقيق متطلباتها الثلاثة، وبذلك تكون الإجابة واضحة لمن يتساءل: هل يُحرم العالم الكافر الذي قدم للبشرية خيرا كثيرا من الجنة؟.

نعم، فهو نفع الناس بعلمه، لكنه لم يقصد به رضا الله بل أراد المجد والمال، فأعطاه الله إياهما مكافأة لجده في الدنيا، لكنه لم يؤمن بالآخرة فليس له في خيرها نصيب: “مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيب” [الشورى:20].

شارك على
Comments (0)
Add Comment