تأملات قرآنية: الآية 106 من سورة يوسف

 تأملات قرآنية: الآية 106 من سورة يوسف

بقلم: د. هاشم غرايبه

يقول تعالى في الآية 106 من سورة يوسف: “وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ”.

دائما ما يخطر في البال تساؤل: لماذا أكثر الله من التنبيه الى خطورة الشرك وبأكثر من الكفر، بل جعلها الخطيئة الوحيدة التي لن تغفر، مع أن المشرك هو مؤمن بالله ابتداء، بينما الكافر لا يعترف بوجوده أصلا ومنكر لأفضاله ونعمه.

للوصول الى الإجابة، من المفيد أن نعلم أن الكفر هو جهل معرفي، فالإلحاد في آيات الله العديدة، في كل ما يراه المرء من حوله وفي نفسه، سببه انقطاع تسلسل العملية المنطقية في التفكير العقلي عند البحث في علة الوجود، الذي يقود حتما الى استنتاج أنه لا بد من وجود خالق، أو بسبب انحراف عنها وتجاهل مقصود للنتيجة بدافع الهوى والانقياد وراء الرغبات والشهوات.

لكن المشرك هو شخص قد قاده عقله أو المعرفة النقلية الى الاقتناع بضرورة وجود إله خالق، إلا أن ذلك لم يوصله الى الاقتناع بربوبية هذا الخالق، وأنه متابع لأحوال المخلوقات وملب لاحتياجاتها، ومراقب لأحوالها، لضمان بقاء توازنها لثبات النظام الكوني.

من هنا جاء الربط في كثير من الآيات القرآنية بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، فجعلهما متلازمين، لا يقبل إيمان المرء بأحدهما وتكذيب بالآخر، لأن الإيمان بالله قد يبقى معرفة عقلية، قد لا تنعكس على تصرفات المرء واستقامة أحواله، لكن اليقين بأن الله لا يترك خلقه هملا، يفعلون ما يشاءون، هو الضابط الوحيد للصلاح والاستقامة.

هكذا نفهم الحكمة الإلهية من إعطاء البشر الخيار، فلولا معرفتهم بأنهم سيتحملون المسؤولية عن أعمالهم في حياتهم، وسيسألون عنها بعد موتهم، لعم الظلم ولما استقامت الحياة البشرية.

ولمّا أن حكمة الله شاءت أن يجعل الإنسان مدنياً بطبعه، فقدّر أعطياته للبشر متفاوتة، ووفق حكمة ليس بإمكان العقل البشري الإحاطة بها، لتتباين قدراتهم وتتنوع معايشهم، بما يكفل احتياج بعضهم بعضا، ليتعارفوا ويتعاونوا، ويتشكلوا كمجتمعات.

ولما كانت عدالة البشر غير كافية لاحقاق الحقوق وانصاف المظلومين، لذلك جعل الله اليوم الآخر مرجعا للناس جميعا، ظالمين ومظلومين ومنصفين.

لذلك كتب الله على الناس جميعا البعث والحساب، لاستحقاق الثواب والعقاب.

لعظم ذنب المشرك وخطورته كونه هو الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله له، ويعني ذلك حتما ضياع كل أعماله الصالحة هباء منثورا، ومهما بلغت، وبالتالي استحقاقه جهنم، لعظم ذلك علينا التدقيق والتحري في أعمالنا لضمان أن لا يخالطها شرك.

ولما أننا نعلم أنه ما عاد في زمننا هذا من يؤمن بألوهية صنم ولا شمس ولا نجوم، لكن للشرك صور عديدة غير عبادة الأوثان.

ففي قوله تعالى: “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ” [التوبة:31]، اعتبر الله اتباع بشر وطاعته في معصية الله تعني اتخاذهم إياهم أربابا، فذلك عبادة لهم، لأن الرب هو المتصرف معاشا ومصيرا، وهذه من موجبات الألوهية والملك لا يجوز فصلها عن بعضها، ولا منحها لغير الله، لقوله تعالى: “قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ . مَلِكِ ٱلنَّاسِ . إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ” [الناس:1-3].

نستنتج من ذلك أن هنالك العديد من صور الشرك، هي خفية لأنها ليست في ظاهرها تعبدية بل تعاملية، لكنها في المنتج تشرك مع الله إلها آخر، هو بشر تخشاه فتطيعه في أمر تعصي فيه الله، الأحق بالطاعة من سواه، منها:

1 – إطاعة صاحب سلطة لا يقيم شرع الله، في تنفيذ أوامره التي تخالف ما أمر به الله، أو إظهار تأييده في فعلها، أو تبريرها والدفاع عنها، وهذه هي الأكثر وجودا في هذا الزمن، الذي فيه ساد بعض بقاع الأمة طواغيت وفجار.

2 – التقرب بالتودد والتزلف وإظهار الطاعة والولاء لذي سلطة ونفوذ اعتقادا أنه بيده وحده ضره ونفعه.

3 – إعتقاد المرء بأن رزقه في يد بشر، يملك له منعا أو عطاء.

4 – طاعة مخلوق في معصية الخالق درءا لغضبه، أو تملقا لنيل رضاه، مثل من يستجيب لزوجته لمضايقة أمه أو العكس، أو من يعادي شخصا وينال منه في غير وجه حق، استجابة لعصبية عشائرية أو إقليمية أو حزبية، أو لنصرة ذي قربى.

الربوبية تستوجب طاعة الله وإن تعارضت مع طاعة من سواه، فلنحذر ولنصحح.. قبل يوم الحساب.

شارك على
Comments (0)
Add Comment