السودان بين واقع المسار العسكري وضبابية الحلول الدولية….!!
تقرير: عبد القادر جاز
في ظل تزايد تعقيدات المشهد السوداني ومحاولات القوى الدولية الإبقاء على مسارات التهدئة، تبرز اللجنة الرباعية الموسعة كأحد أبرز الأطر الساعية لصياغة حل سياسي للصراع. غير أن تطورات الأوضاع على الأرض، والتباينات الإقليمية والدولية، إلى جانب هشاشة التوافق الوطني تجعل من أي مبادرة دولية وعلى رأسها الرؤية الأميركية محاولة بعيدة عن إدراك جوهر الأزمة.
في هذا السياق يقدم كل من البروفيسور أحمد عبد الدايم محمد حسين، والباحث إدريس أحميد ودكتور سعيد سلاما مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية قراءة معمقة للأزمة السودانية تكشف تناقضات المقاربات الدولية، وصعوبة إنتاج حل مستدام دون الاعتراف بواقع السيطرة الميدانية، وانقسامات الداخل، والارتباطات الجيو سياسية المتشابكة في المنطقة.
مسار الرؤية:
قال البروفيسور أحمد عبد الدايم محمد حسين الخبير في الشؤون الإفريقية إن اللجنة الرباعية المعنية بالملف السوداني تضم كلاً من الولايات المتحدة، السعودية، مصر، والإمارات، وقد انضمت إليها مؤخراً دولتان إضافيتان هما بريطانيا وقطر في ظل تعقيدات المشهد الراهن.
مشيرا إلى أنه تم تأجيل الاجتماع المرتقب للدول الست المعنية بالرؤية الأميركية لحل الأزمة السودانية من 20 يوليو إلى 29 يوليو 2025م، بسبب الإشكاليات المحيطة بالملف.
موضحاً أن الرؤية الأميركية تستند إلى مسارين رئيسيين: أولهما: إعلان وقف فوري للأعمال العدائية. وثانيهما: السعي لجمع قائد الجيش السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان بقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” بهدف التوصل إلى رؤية موحدة لوقف الحرب. منتقدا هذه الرؤية، واصفاً إياها بـ”النظرية” وغير المتصلة بالواقع، مستدلا على ذلك بعدم دعوة ممثلين عن الجيش السوداني لحضور الاجتماعات التي ستعقد في واشنطن.
مستطرداً بأن واشنطن تكتفي بدعوة ممثلين عن الحكومة المدنية السابقة، معتبراً أن ذلك يعبر عن قصور كبير في إدراك طبيعة الصراع، وواقع القوى على الأرض.
مؤكداً أن الدور المصري كان حاسماً في هذا السياق، إذ أصرت القاهرة على ضرورة حضور ممثلين عن الجيش السوداني، وإلا كانت الاجتماعات القادمة ستكون منفصلة تماماً عن الواقع السياسي والميداني في السودان. متسائلا: “كيف يمكن استبعاد الطرف الذي يسيطر فعلياً على الأرض من الحضور والمشاركة في صياغة الحلول؟”. مشيرا إلى أن غياب رؤية استراتيجية أميركية واضحة تجاه السودان يعكس انشغال الإدارة الأميركية بملفات أخرى في أوروبا، والشرق الأقصى، والشرق الأوسط، مما أدى إلى ابتعادها عن المتابعة الجادة للتطورات في الملف السوداني.
تصاعد المسار:
أوضح عبدالدايم أن الواقع الميداني في السودان يشير إلى تصاعد المسار العسكري، مؤكداً أن الجيش السوداني بات الأقرب إلى الحسم العسكري، ويرفض الجلوس إلى طاولة التفاوض مع ما يصفها بـ”القوى المتمردة”. مبيناً أن كلا الطرفين المتنازعين يسعيان لتشكيل حكومة منفصلة، الأولى في بورتسودان، والثانية في نيالا، ما أدى إلى انقسام القوى السياسية والمدنية واصطفافها خلف أحد الطرفين. وأضاف: “المفارقة أن القوى الداعمة لقوات الدعم السريع تطرح مسألة العودة إلى الاتفاق الإطاري، كأن الحرب لم تحدث، رغم أن هذا الاتفاق كان سبباً جوهريا في اندلاع الصراع”.
وحول المبادرة الأميركية قال عبد الدايم: “صحيح أنها بمثابة إلقاء حجر في بركة راكدة، لكنها تفتقر للواقعية، وتميل جزئياً إلى الطرف العسكري بعد تحقيقه انتصارات غير مسبوقة في الأشهر الأخيرة”.
مؤكداً أن قراءة الموقف الأميركي من خلال هذه المبادرة يكشف أن اهتمام واشنطن لا ينبع من حرصها على الديمقراطية، أو دعم القوى المدنية، بل من مصالحها الاستراتيجية، وعلى رأسها ضمان استقرار منطقة البحر الأحمر، ومنع التمدد الروسي والصيني فيها.
مضيفاً أن واشنطن أعادت النظر في الملف السوداني في سياق مشروع أوسع للاستقرار الإقليمي والتعاون الاقتصادي، دون اعتبار لقيمة الانتصارات التي حققها الجيش السوداني، معتبراً أن ما يهم الولايات المتحدة هو مصالحها فقط.
مرجحاً أن استشعار الأطراف السودانية للموقف الأميركي سينعكس على مستويين:
مسار أول: إدراك واضح لرغبة أميركية في تحقيق الاستقرار، وتقريب وجهات النظر، مما قد يدفع الأطراف للواقعية، والتعامل مع المستجدات، وعلى رأسها هزائم قوات الدعم السريع.
ومسار ثانٍ: تصاعد الانقسامات ومحاولات كل طرف تجييش الرأي العام ضد الآخر، ما قد يسهم في تغذية الرؤوس الحامية، وزيادة حالة التوتر والانقسام الداخلي.
تعقيدات المشهد الداخلي:
أكد الأستاذ إدريس أحميد الباحث في الشؤون الأفريقية أن الوضع في السودان يعد معقداً منذ سنوات طويلة خاصة منذ لحظة تقسيمه، مشيراً إلى أن التدخلات الخارجية، وعلى رأسها الدور الأمريكي كانت سبباً رئيسياً في تفتيت البلاد.
وأوضح أن التطورات الأخيرة تعكس حجم الصراع الدولي والإقليمي في السودان، بجانب الانقسامات الداخلية العميقة بين القوى السياسية، ووجود تيارات مثل: جماعة الإخوان المسلمين، مما زاد المشهد تعقيداً بعد سقوط نظام البشير، الذي جاء عبر تحالف مؤقت بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وتابع: “لا يمكن إغفال الملفات الشائكة مثل: أزمة دارفور، والانتهاكات التي شهدها الإقليم، والتي تعد شاهداً مؤلماً على حجم المأساة التي يعيشها السودان اليوم. يواجه السودان أزمات داخلية حادة، تتداخل مع تدخلات خارجية مستمرة”.
وفيما يتعلق بالسياسة الأمريكية أشار إلى أن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب اتسمت بتغليب المصالح الأمريكية على أي اعتبار آخر دون الالتفات إلى الأطر الدولية، معرباً عن أسفه لكون الإدارات الأمريكية المتعاقبة لم تقدم أي مبادرات جادة، أو حلول فعالة للأزمة السودانية، مما يعزز القناعة بأن التدخلات الدولية وحدها غير كافية لتحقيق الحل.
مستطردا بقوله: “في المقابل أرى أن الدور المصري بما يحمله من دعم واضح للمؤسسة العسكرية السودانية، قد يكون الأقرب إلى إحداث تغيير حقيقي، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى المزيد من الجهد والتنسيق لضمان تحقيق الاستقرار في السودان”.
صعوبة الحلول الممكنة:
أوضح أحميد أن انضمام مصر إلى اللجنة الرباعية يمنحها قوة إضافية في التعامل مع الملف السوداني، نظراً لقربها الجغرافي والتاريخي من السودان، وعلاقاتها المتجذرة مع مختلف الأطراف، مما يمكنها من لعب دور فاعل في هذا الإطار.
مشيراً إلى أن هناك تحديات قد تضعف من فعالية الدور المصري، في ظل التدخلات الإقليمية والدولية الكبرى التي تلقي بظلالها على الملف السوداني، موضحاً أن حجم التداخلات الخارجية في الأزمة قد يحد من مساحة تأثير الفاعلين الإقليميين ومن بينهم مصر.
وتطرق أحميد إلى دور الاتحاد الإفريقي، معتبراً أن المنظمة القارية تواجه تحديات داخلية كبيرة في ظل الأزمات المتفاقمة في العديد من دول القارة، وتزايد التواجد الأجنبي والصراعات المسلحة، وهو ما يضعف من فعالية وساطته في القضايا المعقدة مثل الملف السوداني قائلاً: “الاتحاد الإفريقي يعاني من أزمات داخلية وتحديات هيكلية، بالإضافة إلى تأثير التدخلات الخارجية وتداعياتها، خاصة في مناطق مثل الساحل الأفريقي، حيث ضعف الأداء وغياب الحضور الفاعل في كثير من الأزمات”. تابع بالقول إن الأزمات في أفريقيا، وعلى رأسها الأزمة السودانية أصبحت بالغة التعقيد، ما يجعل الحلول أكثر صعوبة، ويعكس حجم التحديات التي تواجه القارة برمتها وليس السودان فقط.
غياب التوافق الوطني:
أقر أحميد بأن العمل الدبلوماسي، رغم أهميته، لا يزال بحاجة إلى ترجمة فعلية على أرض الواقع، من حيث القدرة على التحرك، وفرض الحلول، وضمان قبولها من الأطراف المتنازعة، مشيراً إلى أن هذا المسار يتطلب خططا كبيرة، وجهودا منسقة ومستمرة.
مؤكداً أن الملف السوداني معقد منذ انقسام جنوب السودان، مستطرداً بأن الدولة الوليدة تعاني بدورها من صراعات ذات طابع دولي، وتلقي بظلالها على الوضع في السودان، مما يزيد من تعقيد المشهد العام في المنطقة.
مضيفاً أن السودان كدولة عريقة، لم يعرف الاستقرار الحقيقي منذ أكثر من ثلاثين عاما وتحديداً منذ عهد حكومة الرئيس السابق عمر البشير، مشيراً إلى أن غياب التوافق الوطني بين القوى السودانية، وعدم التوصل إلى رؤية مشتركة للحل، شكلا عائقا رئيسياً أمام أي تقدم نحو تسوية شاملة ومستدامة.
التحديات والانقسامات:
أكد د. سعيد سلاما مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية في أوكرانيا أن الرؤية الأمريكية الجديدة لحل الصراع في السودان تنطلق من مسارين رئيسيين: الوقف الفوري للأعمال القتالية، ومحاولة الجمع بين قادة الأطراف المتحاربة على طاولة الحوار. وأوضح أن هذه الرؤية رغم واقعيتها من الناحية النظرية تواجه تحديات كبيرة على الأرض في ظل استمرار الاشتباكات المسلحة، وعدم وجود توافق حول تمثيل الأطراف السودانية في المفاوضات.
مشيراً إلى أن بعض الدول الأعضاء في اللجنة الرباعية الدولية تصر على إشراك ممثلين عن الجيش السوداني، في حين ترفض أطراف أخرى ذلك، ما يعكس وجود انقسامات عميقة تعيق انطلاق حوار جاد وفاعل تحت مظلة الرباعية.
ضعف قدرات الرباعية:
وفي سياق متصل اعتبر د. سلاما أن انضمام مصر رسمياً إلى اللجنة الرباعية الدولية يشكل إضافة نوعية من حيث الثقل الإقليمي، والدور التاريخي الذي تلعبه القاهرة في ملفات المنطقة، لا سيما السودان.
لكنها شددت على أن قدرة اللجنة الرباعية على التأثير في مسار التفاوض، وحماية المدنيين لا تزال محدودة، بسبب استمرار الخلافات حول تمثيل الأطراف، واتهامات بعض الفاعلين للجنة بعدم الحيادية، ما يؤثر على مصداقيتها.
كما لفتت إلى أن الانتهاكات الميدانية والوضع الإنساني المتدهور يعكسان ضعف تأثير اللجنة حتى الآن، رغم دعواتها المتكررة لوقف إطلاق النار وتوفير الحماية للمدنيين.
غياب أطراف النزاع:
وحول العلاقة بين المبادرات الدولية والإقليمية رأي د. سلاما أن مخرجات اللجنة الرباعية تنعكس بشكل معقد على جهود الوساطة التي تقودها منظمة “الإيغاد”، إذ يمكن أن تسهم المبادرة الدولية في دعم التحركات الإقليمية، لكنها في الوقت نفسه قد تؤدي إلى تداخل أدوار وتنافس على مساحات الوساطة، خاصة مع التحديات التي تواجه “الإيغاد”، ومن بينها اعتراض الحكومة السودانية على رئاسة كينيا للجنة الرباعية التابعة للمنظمة، تابع بالقول: “لا يمكن القول إن ما يحدث الآن يمثل تحولاً حاسماً في مسار الصراع، لكنه يعكس رغبة دولية حقيقية في وضع حد للقتال وسفك الدماء.
إلا أن استمرار التباينات بين الوسطاء، وغياب الالتزام الجاد من أطراف النزاع، يجعل من هذه المبادرات أقرب إلى جهود دبلوماسية تراكمية تبحث عن اختراق، وليست بعد نقطة تحول استراتيجية واضحة”.