آخر الأخبار
The news is by your side.

قراءة نقدية على «مدد!» لسيّد شعبان

 على «مدد!» لسيّد شعبان
قراءة نقديّة.

بقلم.. الدكتور فراس عبد الرزاق

تمهيد: السَّرد.. سير على حدّ المجازفة!
لستُ من المتحمّسين للألقاب التي يُدبّجها الأُدباء والشعراء فيما بينهم بصراحة، لكنّني أرى في اللقب الذي خلعه بعضُ الأدباء على الدكتور سيّد شَعبان حَبلاً متيناً يشدّه بمَن تحمّله، وأقول تحمّله؛ لأنَّ الألقاب برأيي تكليف قبل أن تكون تشريفاً.. «أمير السَّرد» هكذا يُلقّبونه مُذ تعرّفت إليه عبر صفحات ذاك الذي يسمّونه «فيسبُك».
وآية ذلك برأيي أنّ أعمال شعبان خير مثال على تعريفهم للسرد ووظيفته في خطف انتباه القارئ إلى براعة الأديب الفنيّة لا إلى مَضمون نصّه، أو بمعنى أقرب إلى «الكيفيّة التي قِيل بها النصّ لا موضوعه» كما قرّره بعض النُّقّاد.
وهذا سير على حدّ المجازفة ولا ريب، ذلك أنَّ التمادي في استعراض البراعة الفنيّة قد يُفرغ النصّ من مضمونه ويجعله عائماً على سُدَّةٍ من الخيال، وهو ما تخلّص منه شعبان بعين على السرد وأُخرى تَلْحظ موضوعه والغاية التي ينشدها من ورائه.
و«مدد!» ليس النصّ الأوّل الذي يُبدعه شعبان في نقد «الشعائريّة» المُفرغة من الرُّوح في المجتمع من حوله، فعل هذا في نصوصٍ كثيرة من قبل حسب اطّلاعي، وأهمّ نصوصه في ذلك «الرواية القبضة: الرّاهب حنّا» وهو في ذلك كلّه مُتردّد بين النقد والتبرير موزّعاً العمل في المُهمّة الصعبة بين «الراوي» و«شخص» من شخوص النصّ.

الجوّ العام لـ «مدد!»
اتّخذ شعبان من مولد السيّدة زينب تُكَأَةً لسرده هذا؛ ليرصد الصراع الدراميّ أو التصادم بين المفاهيم والشخوص والممارسات في المجتمع، وهو رصد للمفارقة أيضاً يقوم في السرد والقصّة مقامَ الحبكة في الراوية.
الاستهلال كان رشيقاً وبارعاً بذكر «الموعد» وكأنّه معهود «حين يأتي الموعد» ثمّ بالانتقال الخاطف إلى وصف توافد «الدراويش من كُلّ ناحية» وبذكر القطار وسيلة الفقراء في أسفارهم البعيدة التي أدمنت حَصْد أرواح المئات منهم كلّ حين. و«الكُمثريّ» حاضر هنا طبعاً كما كان له حضور في عدد من نُصوصه الرَّجل الأخرى، لكنّ الكُمثريّ في «مدد!» «يتغافل… عنهم، إنهم من أهل الطريق، هل يمنعهم؟!» وهو مَن سيلحق بهم إلى مثابتهم ليلاً، فزوجُه وصِغاره ينتظرون ما يعجز عن تقديمه لهم بمُرتّبه، وفي «المولد» بُحبوحة للفتَّة والدُّمى لطالبيها في ساحة المقام.
والسّمة الأبرز في جوّ النصّ «الحركة» وهو ما يبرع فيه شعبان دائماً بجُمَله القصيرة المتلاحقة التي تحار في اختيار علامات الترقيم المناسبة لفصلِ بعضها عن بعض؛ لو وُكِّلتَ بتفقير النصّ وترقيمه، لما فيها من تجانس وتنافر في آن وهو ما يصنع المفارقة التي تكلّمنا عنها قبل قليل.
وقد أحسنَ من جعل «المفارقة» أو «الصراع» في السرد نظيرَ «الحبكة» في الرواية، فقد داخلني ذاك الشعور وأنا أقرأ تلك الجمل القصيرة المتلاحقة بانفساحاتها الواسعة على المعاني المتضاربة.. شعرتُ بامتلاء يُشبه إلى حدٍّ بعيد ما تجدُهُ من حبكة الرواية عند الذّروة وقبل ظُهور معالم الانفراج فيها.
نعم! الحركة سمة النصّ الأبرز وروحه التي يمور بها ويمتدّ حتّى لتكاد شخوصه تتقافز من وراء السطور، وهاك آيات من ذلك:
«يتوافد الدراويش من كلّ ناحية»..
«بعضهم يأتي في القطار»..
«مؤكّد أنه سيلتحق بهم في الليلة الكبيرة»..
«صغاره يحلمون بتلك الدّمى التي تتحرّك فوق مسرح العرائس».

«تجري الخيول وتتقافز القرود».
هذه المشاهد جميعاً = شواهدُ على الحركة من مَقطع واحد فقط من مقاطع السرد الذي كُسِرَ على ثمانية مقاطع في الأقل!
لكنّه ذهب في هذا النصّ القصير جدّاً (600 كلمة فقط) إلى أبعد من التعكّز على مولد السيدة كظرف يستوعب شخوص سرده في زَمَكانه (يوم المولد – عند المقام)..
بل ذهب إلى اقتباس صراع «كربلاء» في صفحته الثانية بقُطبيها المتصارعين السيدة زينب (صوت المظلومين المقهورين) ويَزيد (سلطان عصره الجائر).. بل وأكثر من ذلك، فذكر مآل الصفحة الأولى من الصراع (استشهاد الإمام الحُسين) الذي تحوّل إلى مادّة الصراع في الصفحة الثانية منه، وهو امتداد للصراع الخالد بين الحقّ والباطل!

اللغة في «مدد!»
نصّ «مدد!» من نصوص «المونودراما» التي تجمعُ -في تآلف عجيب- بين وجهَيها، فهو نصّ تراجي-كوميديّ باقتناصاته المبكية المضحكة للمفارقة على مُستوى الجرأة في المفردة والتباين في المعنى.
النصّ سرديّ وصفيّ بامتياز أيضاً لا حِوار فيه حتّى مع الذّات (منولوج)، فقد أجرى شعبان سرده على نسق رواية المشاهد مُخلصاً وجهه للسرد في انسياب مُعجب وانتقال رشيق «يُوهمك» في بعض المواضع بالحواريّة، وهو ما أسمّيه بضربة المُعلّم!
بل جعل أحد المشاهد حواراً بالعيون والشفاه بين الراوي وامرأة: «أغمز بعيني لامرأة تتدلى من شعرها جَدِيلتان، رقبتها بيضاء زينة للناظرين، شفتاها تبدوان مثل إصبع الموز.. أومأتُ إليها؛ ابتسمت!».
أترى صرامة السارد في الحفاظ على نوع النصّ وإخلاصه للسرد؟!
وتجد حواراً من طرف واحد في ثوب عِتاب: «يصفِر خفير الناحية، لقد جاء من زرع في بلادنا الفَوضى، لِمَ -يا أم هاشم!- أطلقت الذئاب؟» وكلّ هذا يوهمك بالحواريّة وليس كذلك على التحقيق.
ومن سمات لُغة «مدد!» جُملها القصيرة المُتتابعة بأسلوب «الفَصل» لا «الوَصل»، فهو نادراً ما يستعمل الوصل..
«صحَّتي واهنة – صِرت عود قَش – يتندَّر البؤساء بعضهم على بعض – إنها حالة من الهُروب الجماعي ناحية الفوضى – الكفر يمور بديدان المشّ – تتراقص/ وتنتقل من جسد إلى آخر – يستلقون في المسابخ/ ومن ثَمَّ يتسامرون».

التعويل على قِصر الجُملة مع الاختزال والتكثيف من سمات سَرد شعبان عموماً، وهو من تأثّره بلغة الشعر. وتعويله على الفصل في تتابع الجُمل له مُبرّره فيما أرى، بل له وظيفته في النصّ.. فبهذا التلاحق الذي لا مكان فيه حتّى لأداة العطف = يخطفُ شعبان أنفاس القارئ ويُحاكي حبكة الرّواية، وهو في هذا يُجيد «التوقيت» مع إحساسٍ عالٍ بالوقت، حيث يُنهي الفقرة قبل أن يهجم عليك الملل من طول!

توسَّل شعبان في لغة «مدد!» بالتضمين في مواضع؛ ليفسح للقارئ إلى ما وراء نصّه ممّا اكتنزه النصّ المضمَّن.
«لا يأتيهم طعام يرزقونه إلا في المولد»..
«تطوف الأبقار بالبيوت، مَن يحلب منها لبناً سائغاً للشاربين؟».
«الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بألف عام!».

«يسرقون الكُحل من العُيون»..
في لُغة «مدد!» سِمتان ظاهرتان، هما: «الغُموض» و«الحِدَّة». والغموضُ في هذا النصّ قرين التشويق وهو من أهمّ وظائف الفنّ القصصيّ بأنواعه جميعاً. أمّا الحِدّة، فأملتها غاية النصّ بما حوى مِن نقد دينيّ وسياسيّ واجتماعيّ.
تُطالعك نصوص بغموضها اللذيذ، كقوله: «عند المقام شجرة نبق عملاقة، تحتها حكايات وعندها أسرار».
«زرت المقام، جاءتني في رؤيا، أعطتني ورقة بيضاء لها حواش خضراء، لكن القلم مِداده أحمر، كُلَّما هممت بحرف؛ اختفى، يختال شيطان عند باب الحديد»..
«سرها تتسامع به الآذان، تنطق به الشفاه، في ليالي الشتاء تحكيه الجدات لصغارها»..
وتصرخ أُخرى بالحِدّة في مثل قوله: «أصحاب الياقات البيضاء يوزعون اللحم الأحمر؛ يُلقون طُعماً لصيدٍ لمّا يحن أوانه بعد»..
«ما حيلتي وأنا فقير، لا ثياب لديّ، سوءتي ظهرت مثل جربٍ في جسد قرد إفريقيّ»..
«لِمَ -يا أم هاشم!- أطلقت الذئاب؟»..
وغيرها من الشواهد.

وقد ألمحت آنفاً إلى تمثّل شعبان للغة الشعر في سرده، فنصوصه قريبة من لغة الشعر آخذة منه بنصيب كبير في الرمز والتكثيف والانزياح وحتّى الإيقاع.. تجد أشياءَ من ذلك في مثل قوله: «الآخرون يزحفون مثل النمل يتشمَّمُ رائحة الصيف، ومن ثَمَّ يخرج من جُحره ويخلع عباءة الشتاء الطويل» انزياحات مُتتالية..
«جَفَّ النهرُ، بان قعرُه!» إيقاع عالٍ.

«خاطت أمي لي ثوباً أخضر، وضعت كفّاً في رقبتي، عمَّمتني بشال أبيض، أركبتني حماراً أزعر» أوصاف متوالية على وزن «أفعل» شحنت النصّ بما يُشبه فعل الفاصلة.

 

المغزى من «مدد!» وحضور الرّمز
مَغزى «مدد!» عندي سياسيّ في المقام الأوّل، لكنّ الخوض في إسقاطات النصّ وأساس فكرته وتوجيه غايته في إقليم مُلتهب كإقليمنا العربيّ الشرق-أوسطيّ = غير حكيم برأيي، خاصّة مع حضور ذكاء القارئ العربيّ واستصحاب نباهته، فذكاء القارئ يُنصّف الطريق إلى النقد بفهم إلماحات الناقد الرفيقة وإشاراته الرشيقة.

ومع هذا، لا أرى بأساً في حشد بعض النصوص التي قرأتُ من ورائها إسقاطات سياسيّة ونقداً دينيّاً واجتماعيّاً بين يدي القارئ؛ ليتأمّلها ويُجيل النظر فيها، وهي عِيْنةُ النصّ وثمرته وصلة الأديب بهموم أمّته ومجتمعه، والأديب الذي تخلو نصوصه من النقد، أديب مبتوت عمّا حوله – أجنبيّ عن مجتمعه – غريب عن أهله وأمّته، وشعبان لمن قرأه جيّداً ليس كذلك!
والحقّ أنّي لو أردت استيفاء حظّ النقد والإسقاط في النصّ؛ لسلختُ النصّ اقتباساً وتمثيلاً، لكثرة شواهده، واختيار نماذج معدودة تضجّ بالإسقاط وتصرخ بالنقد يكفي للتدليل على دعوانا هذه.

«يمتلك الدراويش طاقة جذب يعجز ألفُ “يزيدَ” أن يمنعهم، سرُّ أمِّ هاشم باتع!»..
«يتندّر البؤساء بعضهم على بعض، إنها حالة من الهروب الجماعيّ ناحية الفوضى… لأول مرة وجدت الثعابين تخرج من أسفلهم، فزعت، ربَّتَ شيخ المسجد على صدري: الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بألف عام!».

«يطوف بي الصغار مقام الشيخ صَفوان، صنعوا منّي قُطباً، زعموا أنني مبارك، أغمز بعيني لامرأة تتدلى من شعرها جديلتان»..
«لقد جاء من زرع في بلادنا “الفوضى”.. لِمَ -يا أم هاشم!- أطلقت “الذئاب”؟».

«”يُحيون” المولد، وهم “لا يدرون” أن المقام به عِترة النبيّ».
«أنا كنت معهم هناك، لكنَّني خفت لما وجدت رقبة “الأتابك” تتدلَّى، إنها تنزف دماً» والأتابك هو: أميرُ العَسْكر.
«لقد حان وعد الآخرة -يا أم هاشم!- يطلبون دم الحسين، لم يكتفوا بكربلاء، لقد وزَّعوا الموتى مع بطاقات الدَّعم».

«قنديل أمِّ هاشم يُضاء بزيت أحمر قان، ذُبالته تتحرك دائماً جهة اليمين، لم تنطفئ إلا يوماً واحداً، لها مقام معلوم، ضجَّت السماء بما رأت، ألف حسين -يا أم العواجيز!- تأخر المولد هذه العام، لم يعد أحد يوزع صحون الفول النابت، “يزيد” يُطارد اليمام في البراري، يُطلق “كلابه” تتشمَّم أثر المحيطين بالحسين، هذه أيام مباركة، سيوزع “الأتابك” الثريد مع اللحم!» وهو أتابك جديد ولا ريب!

خاتمة في إضاءة
الذي يقرأ أدب الدكتور شعبان سيجده مُعبّراً عن حال المجتمع وآلامه وآماله وهو مع هذا زاخر بالنقد للمجتمع بما طوى عليه الجناح من آفات اجتماعيّة ومشاكل سلوكيّة.
يتمحور كثير من أعمال شعبان في السرد حول الشعائريّة في التديّن وتصوّف الرسوم المُفرغ من روح العرفان والتصوّف العليم..

تجده يكرّر ذكر المقامات والكرامات والنُّذور والتمائم وغير ذلك، بل تعدّى ذلك إلى مُعالجة هذه الآفات في المسيحيّة أيضاً من دون حيف أو ميل أو تمييز في المعالجة، ما دامت الآفة واحدة والفعل مُقارباً، كما تجد ذلك جليّاً في عمله «الرواية القبضة: الراهب حنّا».

«مقامُ الدُّسوقيّ صامت والراهب حنا في عِظَته يعيش في مملكة السماء. الناسُ لا تجد سراويل ولا كسرات خبز، وللصبر علّة لا يبرء منها الضعفاء» كذا قال ثمّة في إحدى فقرات الراهب حنّا!
والحقّ أنّ رسالته في هذا النصّ و«الراهب حنّا» وفي غيرهما واضحةٌ في نقد القاعدين عن حقوقهم، المنهمكين بخُرافاتٍ لا تعود عليهم بأسباب الحياة الكريمة، وليس من نقد الدين أو التصوف والعرفان.
وقد أذهلني ما وجدت في نقد قديم كتبته قبل أزيد من سنة على مسرودته «في شارع شُبرا»، فقد كانت انطباعاتي عن لُغته وأسلوبه وفنّه مُتقاربة حدّ التطابق ربما، رغم اختلاف الموضوع بينهما، وهذا دليل على أنّه يَحكي عن طَبْع أصيل ويقول عن تمكُّن راسخ ويكتب عن وعي عالٍ بفنّه ورسالته..

الدكتور فراس عبد الرزاق السودانيّ
كاتب من العراق

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.