آخر الأخبار
The news is by your side.

وقع الأقدام العارية .. أعيدوني إلى الوطن!

وقع الأقدام العارية .. أعيدوني إلى الوطن!

بقلم: منجد باخوس

كانت تلك آخر جملة ينطق بها الجد زاريا قبل أن ينهب ملاك الموت روحه المعذبة طوال المئة و عشرون عاماً التي قضاها هائماً و ضائعاً على فلوات اليابسة. منذ أن غادر بلاده متجهاً سيراً على الأقدام إلى بلاد بعيدة، ظلت تراوده في الحلم لسنوات ، بلاد لم يرها من قبل، لكنه رآها مراراً في أحلامه الغامضة، منذ المرة الأولى؛ قبل تسعين سنة، التي رآى نفسه -وهو نائم- يدور حول حجرة سوداء كبيرة بداخلها يجلس رجل شديد البياض، على مقربة منه كوة تتصاعد منها نار مشتعلة لأعلى، و على يمينه ألواح خشبية مكتوب بجميعها كلمة واحدة: زاريا، و ذلك كان اسمه، أصيب برغبة جنونية في السفر لتلك البلاد ، ليدور حول الحجرة السوداء و يرى الرجل الأبيض، لكنه لم يكن يدري أنه سيحتضر هنا، بعد كل هذه السنوات، مكسور الظهر، متورم الأطراف، مشلول الذاكرة، و شهيداً لأحلام تالفة ووطن لم يكن يملك له شيء غير زاوية صغيرة بمقبرة منسية في فناء مجهول؛ يستلقي فيها دون شاهد قبر.

قبل موته بخمس سنوات، إستيقظ مفزوعاً من النوم ذات يوم و بدأ يبكي، بعد أن رأى في كوابيسه الكثيرة نفسه محملاً على الأعناق، و نصف جسده مغطى بكفن ، تفوح منه رائحة أعشاب نيجيرية يشيع بها النيجيريون موتاهم، و المشيعين يغنون أغنيات جنائزية بلغات محلية مختلفة، يسير الركب نحو منزل مهجور ، كان منزل زاريا نفسه قبل عشرات السنين، لكنه هذه المرة بدا غريباً، تسكنه طيور و تتبول فيه الكلاب، بشقوق كثيرة على الجدران، و بوابة عظيمة مغلغة بطريقة عصية على الفتح، فشل المشيعون جميعاً في فتحها، و قرروا ترك الجثمان ملقى على الأرض تحت الجدران حتى تشرق شمس اليوم التالي، و قبل أن يستديروا للخلف، خرج من أسفل البوابة شيء مبهم، لم يستطع أحد رؤيته، لكن الجميع كان يعلم أن ذلك لم يكن سوى شبح بجناحين، إختطف الجثمان و طار بعيداً، ثم أصيب الجميع بالفزع، و أطلقوا أقدامهم للريح، حينما سمعوا صوت سقوط مدوي لجثمان زاريا داخل بركة مائية في الفناء الخلفي للبيت، و صوت زاريا نفسه من أسفل الماء، يصرخ طالباً النجدة، و يتوسل بطريقة يائسة لدفن جثمانه بالبيت.

و على مدى السنوات اللاحقة، حتى اليوم الذي فارق فيه الحياة، يغسل جسده يومياً بماء معطر بنبات السدر، مخلوط بعطور صنعها بنفسه خصيصاً لإستقبال الموت برائحة ذكية كما يقول، يتوضأ ثم يستلقي على فراش الموت و هو يهذي بأسماء لأشخاص مختلفين، تواريخ غابرة، و أحداث تراجيدية من إرشيفه السلالي، ينعي نفسه بصوت عال كل مرة؛ مفتعلاً حورات بين أشخاص يذيعون خبر موته، و يعزون أنفسهم برحيله، يبتسم ثم يبكي حتى يفقد الوعي دون أن يزوره الموت مطلقاً. إستمر ذلك خمس سنوات، إلى أن جاء اليوم الذي إنتفض فيه بقوة من فراشه كالممسوس و حمل حذائه بيديه، جر قدميه بصعوبة متجهاً نحو الباب، بعد أن قرر العودة للوطن. لكنه سقط أمام الباب و بدأ جسده يرتجف و يتعرق، يتنفس بصعوبة، حتى إنسلت الروح، تبخرت للملكوت السري، و مات في اليوم الوحيد الذي لم يكن مستعداً فيه للموت مطلقاً.

لم يكن في البدء خبر موته مؤكداً، ولم يستطع أحد نفيه أيضاً، فأبناءه الخمسة، المولودين جميعاً في شرق السودان الأقصى؛ بإستثناء إبنه الأول: تاج الأصفياء، الوحيد الذي أتى معه حافي القدمين من أقاصي نيجيريا، قد تجمعوا ملتفين حول جثمان أبيهم الميت، و بدأ الجميع يتحدث عن ما إذا كان مات فعلاً هذه المرة، إذ لم تكن المرة الأولى التي يدعي فيها الموت، ففي كل مرة، و لأنه سئم الحياة و لعنها، بطريقة دراماتيكية يفتعل موتاً كاذباً و إحتضاراً زائفاً حتى يختنق و يوشك على الموت؛ يطلق أنفاسه بقوة و تتداعى ذكرياته المريرة المتناسلة عبر الزمن الشائك و الملوث التي عاصرها بحياته. ففي إحدى المرات، قضى ساعات طويلة مستلق دون حركة، حابس الأنفاس، حتى جسده كان بارداً برود الموتى، عيناه مفتوحتان تنظران لأعلى، فمه مفتوحاً على مصراعيه و ذبابات متطفلة تتجول على لسانه المتدلي لأسفل، إستشرى خبر موته بسرعة و كأن المشيعون كانوا يتوقعون موته تلك اللحظة، أقيمت سرادق للمعزين و بدأ الناس يتبادلون تلك الأوجه البائسة، الكلمات الميتة و النظرات الجنائزية المفتعلة في بيوت العزاء، وبدأ النسوة في طحن الدخن، شرعن في تجهيز شراب “القُمبا” ، عصير الدخن الجنائزي الذي يقدمه النيجيريون دائماً للمعزين في طقوس تشييع الموتى، لكن الجد زاريا بدأ فجأة يهذي بأسماء ظل يرددها طوال حياته، يردد إسم رابيلُ مادان، رفيقه الأسطوري الذي مات على تخوم الأراضي المقدسة و دفن وحيداً بأحلامه المذبوحة، ثم الشيخ أحمد التجاني..القطب الكامل؛ طالباً منه النجدة و الصلوات المباركة. بينما يقف تاج الأصفياء متجمداً على مقربة من رأس والده الميت ميتته المزيفة و هو يستعد لتكفينه . حينما كان يهذي بصوته المخنوق، إجتاحت تاج الأصفياء عاصفة من الإحباط، و خليط من الفرح أيضاً، لأن تلك المرة كانت المرة الخمسون بعد المئة، خلال خمس سنوات، يمارس فيها والده لعبة تزييف الموت، للدرجة التي بدأ الكل يعتقد أن الجد زاريا تسكنه عشرات الأرواح، و أنه مات بالفعل منذ عشرات السنوات، لكنه في كل مرة يستحلب روحاً أخرى من الملكوت، و يعود مراراً للحياة.

بعد أن تأكد تاج الأصفياء من أن والده لا يزال على قيد الحياة، وأنه يتنفس بالفعل – لكن بصعوبة بالغة- شرع يطوي الكفن، و يخفي الماء المغلي و بقية المحاليل تحت الفراش، و قبل أن يفكر في الخروج، بدأ زاريا يردد إسم زوجته الأولى، أم تاج الأصفياء نفسه،زهرة، النيجيرية التي قررت ذات يوم بمنتصف الطريق العودة إلى وطنها، شعر تاج الأصفياء برغبة جبارة في البكاء و هو يحدق في وجه والده العجوز، اليائس، الذي عصف به التاريخ و جراثيم الحياة الملعونة، عاري الرأس، بذاكرة محترقة تعذبه بشكل دموي بتدفقها، و تهيؤات صوفية قوية ملبوسة بأحلام ماورائية.. كان في النهاية واحداً من أكثر شهدائها عذاباً.

جلس تاج الأصفياء على أريكة خشبية، قبالة جسد والده الممدد، و بدأت ذكرياته البعيدة تنسل من الأغوار الداخلية و تسيح كالطوفان في الأنحاء، تتراءى له الذكريات كوميض ، تبرق تحت جثامين تاريخ كالح و مُريع لم يكن خيار أحد منهم ، يضع قدم على أخرى ، واضعاً راحتي يديه بأصابع متشابكة أسفل الرأس، مشحون بألم العالم كله، و شريط الذكرى البعيدة، المنفية تبدأ في النزيف.
هكذا، يقول تاج الأصفياء: الذاكرة بدياناتها المتفرعة هي خلاصة ما آل إليه التاريخ الفردي.

بعد كل هذه السنوات اليائسة الطويلة، أتذكر الآن بوضوح ذلك اليوم الذي دخل فيه أبي إلى البيت و هو يرتجف،كان اليوم نفسه الذي اكمل فيه عامه الثلاثين، عاد بعد زمن قصير لم يكن كافياً لإصطياد سمكة واحدة ناهيك عن تلك الكمية من الأسماك المحتملة التي توحي بها سلة السعف الهائلة التي كان يحملها، وعلى ركن البيت الجنوبي، الركن المتهم دائماً بأن أرواحاً شريرة و أشباحاً تسكنه؛ كانت أمي تتذمر في جلستها المباركة على مقعد خشب المهوقني و هي تصنع أقراطاً و نياشين للزينة النسائية.. و ترقع ملابسي الممزقة معلنة عن سخطها المزمن من عادتي السيئة في تمزيق أي رداء ألبسه من المرة الأولى، تقول غاضبة : لا بد أن الله قد دس مشرطاً داخل سروالك اللعين بدلاً عن الجهاز التناسلي، لذلك تمزق كل شيء ترتديه، سآخذك يوماً ما لسوق الحدادين كي يصنعوا لك سروايل مستقبلية من الحديد الصلب.

دخل أبي إلى فناء البيت بعينين مفزوعتين، شاحب الوجه، و قدمان متسارعتان و كأنها تنويان الفرار، عودته المفاجئة من صيد الأسماك، و أنفاسه المتصاعدة بقوة جعلت أمي تبارح مقعدها بسرعة و تلحق به داخل حجرة القصب التي يستلقي فيها جدي مبتور القدم، الغارق حد الفناء الوجودي في حرب بيولوجية طويلة مع السعال و الربو و طاعون الرئة، على فراش من تواريخ الدم و الموت، ذكريات الحرب الأهلية و الشتات السلالي قبل سقوط حكومة عثمان دان فوديو، التي كان جدي نفسه آخر الأشخاص الذين نجوا منها، لكن بذاكرة ملوثة بغبار الكوابيس، روح محترقة، قوى خائرة و قدم واحدة ممزقة الشرايين و لا يجر فيها الدم.

الزمن المروع الذي عشناه جميعاً لا يعدو كونه عذاب مدمي داخل شرنقة ملغومة بغازات النفي النفسي، خسارات مزمنة للنفس ، غليان جهنمي لمسام أرواح أنهكها المشي تحت تأثير قوى خفية أو آلهة سادية تنمو على عفن الجثامين الميتة، سقوط من أقاصي شجر المخيلة للنسيج السفلي لأحلام موحشة في حقب مصروعة، فقدان كلي للعقل.. في الأوقات المفصلية داخل دوائر الجنون المتماوج في مسارب صحاري القلب، زمن إختناق المنطق البشري بالهلوسات، الزمن الجاف و الموحش..الذي تشظت فيه هوياتنا الداخلية، و إنتفخت فيه أقدامنا تحت شموس متوحشة، الزمن العاق للحياة، الذي نومتنا فيه جنية هاربة من دغل الخرافة نوماً جماعياً، نفخت على آذاننا النائمة مزامير مقدسة لإحياء خلايا الشتات المعطوبة في أحراش الجينات، و قادتنا إلى بلاد بعيدة، عبر أراضي كثيفة الرمال، بعيداً عن الوطن، إلى أوطان أخرى لا تعرفنا، ذلك هو الزمن الذي عشناه، زمان السفر الجماعي إلى بيت الله الحرام، و التوهان المجاني في بلدان مشيدة برؤوس الموتى، متخمة بالأكاذيب، و مصابة حد الموت بجرثومة الخراب البشري.

أتذكر الآن بوضوح، إذ تسيل ذاكرتي كالطوفان، تنبعث الأحداث من أغوار دفينة داخل أوعية النفس الضبابية، كجراد إلهي يخرج من كهوف سرية، أحداث مربكة نمت على أراض قاحلة، تتراءى لي الآن بجلاء مطلق الكمال، أصوات و صور، أوجه و روائح، همهمات أبي، صوته الراعش المنسرب عبر ممر الحجرة الضيقة وهو يحكي لأمي عن تهيؤات..وربما رؤى، يحكي عن الشيخ أحمد التجاني الذي تجلى له من خلاصات العدم المحض، على صهوة جواد سائل ، يركض نحوه على تضاريس الماء، من وراء تخوم البحر، و من مكان ما مجهول وسط الغابة الشاسعة وراء البحر، يحكي أبي عن شيخه التجاني، برجه الكامل، القوس الكامل، الإلهي، الوتر الرباني، و الذي أمر أبي بالسفر إلى البلاد البعيدة، البلاد التي راودته في أحلامه سنوات، بلاد الحجرة السوداء المقدسة..التي يجلس بها الرجل شديد البياض: حلمه المتكرر لأعوام، كان ذلك اليوم محض لحظة إشراق رباني لإشعال نار عظيمة بقلب أبي، و كان يحكي عن أشياء غامضة حدثه عنها التجاني و هو جالس على الماء، إشارات الوصول، الروح، القلب، السماء السابعة، النجمة المذنية، ثم وعده باللقاء في أرض الله الحرام، و قال أبي أنه بعد ذلك ذاب التجاني كالثلج داخل الماء و اختفى.

في السماء تلتمع نجمة يتيمة، رياح خفيفة محملة بغبار تعبر المجال العلوي، أصوات متداخلة لحيوانات تتجول في الفضاء، خرائط بهية ترسمها خطوط الشفق و النهار إنسحب ببطء من المسرح الكوني، رأسي شاخص في سموات الله البعيدة، شعرتُ بحزن مبهم و أنا أتفرس الخيوط الملونة المدهشة التي ترسمها أقدام الشفق السارية، حزن مباغت، غريب، و كثيف، ربما كان حدسي يرسل لي نبؤات المستقبل، نبوءات الضياع في الطرق، إحساس ناصع و طاعن بالخوف، وفي ذلك الظلام الطفيف تفتحت مسارات عابرة بخيالي، بدأت أتخيل حيوانات مفترسة، مقابر جماعية، أخاديد و حفر تظهر بنهاية طرق لولبية طويلة تبتلعنا جميعاً.

إنها حكايات غريبة تؤرخ لسيرة مكتوبة بدم على أوراق ممزقة، حكايات تشبه أساطير الجدات الأفريقيات القديمة، أحداث بحبكة من نسيج الصدع، أبطالها زمرة أشخاص مجهولين آمنوا بآلهتهم ، زحفوا حفاة عراة تحت شموس أفريقيا الحارة و غاباتها إلى صحاري الأراضي المقدسة، سيراً على أقدام في كمال عريها، و كانت أرواحهم هي القرابين الدائمة لإله السموات و الأرض وما بينهما من عذاب، ههنا الآن، تهتز ذاكرتي من فرط التدفق المسيل للدموع، تتراءى لي الأحداث و كأنها تسرد بصوت ملائكة أو شيطان بمكبر صوت هائل على مسامعي، ذكريات تطفو كفقاعات غزيرة على السطح، و لا أنسى أبداً.. أنا لا أنسى أبداً تلك اللحظة التي كانت أمي تطلق زغاريد عالية بعد إنتهاء أبي من سرد لقائه الملحمي مع الشيخ التجاني، وكانت أمي تنتعل أعلى كعب لفرح سيتحول يوماً إلى تراجيديا بائسة تصيب العائلة كلها في مقتل، حينما قال أبي: وعدتُ شيخي التجاني، سنسافر للحج هذا العام. بدأت أمي تزغرد بهستيريا، تهلل و تصفق وهي تدور حول نفسها بإيقاع راقص و إبتهالات حركية أثارت غباراً كثيفاً جعل جدي يدخل إحدى نوبات سعاله الأزلية حتى شارفت رئتيه على الهلاك.

*****

سيتذكر الجد زاريا و هو على فراش الموت، على الرغم من الصعوبة البالغة التي يواجهها في التذكر، اليوم الذي رأى فيه النجمة المذنبة، وهم على مشارف الأراضي المقدسة، و صديقه رابيلُ مادان ملقياً على الأرض و هو فاقداً للوعي. يمر شريط الذكرى بطريقة ملتبسة بذاكرة زاريا، و أنفاسه تخرج بصعوبة، و هو يحاول لعبته اليومية في تزييف الموت، لكنه – و دون أن يشعر- نسي هواية الموت المزيف، و بدأ الهذيان يستشري بلسانه، وهو يسرد حكايات و كأنه يقرأ كتاباً مقدساً..أو نصوصاً سماوية ، إذ لا يبدوا ما يقوله حكايات تقال من الذاكرة، و إنما شخص جالس يمسك بكتاب و يقرأ بصوت عال، هذه واحدة من أغرب الأشياء التي بدأت تتكرر على لسان زاريا العجوز، منذ اللحظة الأولى التي سقط ذات يوم في بئر عميق كان كافيا لقتله، لكنه نجا بأعجوبة، تالف الجسد، مشوش الذاكرة، كثير الهذيان، و ضعيف البصر، لكن رغم ذلك يحكي الأحداث بصوت عال، لنفسه، و كأنه يقرأ بالفعل من كتاب مقدس.

يقول زاريا، و هو ممدد يصارع ضيق التنفس، و الإحتضار الوشيك:
بمشيئة الرب المقدسة؛ قدس الأقداس، و جزوة النار المباركة لروح الشئوون الإلهية: شيخي الكامل أحمد التجاني؛ نحن الآن على مشارف أرض الله الحرام، على تخوم الخلاص الرباني، رمية حجر، خطى معدودة تفصلنا عن البيت الإلهي و حوض الثلج الأزلي المغسول بعرق الكامل المنقوع، المشفوع بروح الأعلى ؛و الأحد النوراني الذي لا ينام.
-وصلنا الحدود في نهاية المطاف-قال رابيلُ مادان- بعد المسير الشاق؛ و المنهك للنفس..الذي دام عاماً كاملاً ،
طوينا صحاري لا حد لها، أراض خضراء، أشجار و مدن، بلدان موحشة، فيافي ترفل بوحشية على فلوات اليابسة، مقابر، بيوت خاوية على عروشها، موتى و سفاحين، نخاسة و قديسين، سيراً على أقدام في منتهى عريها.. و أرواحنا يملأها اليقين و العطش للوجه المضيء؛ الإلهي، وجه البرج الكامل، وجه شيخي و مولاي القطب السرمدي، قطب الأنوار: سيدي أحمد التجاني.

يقف رابيلُ مادان على صحوة حجر فيما رافعاً يداه لأعلى و كأنه يريد الطيران، قدماه حافيتان و متورمتان بفعل المسير الطويل، يصرخ بصوت متكسر و حشرجة تشي بتعب عارم يستوطن خلاياه، شرايينه اليابسة، رئتيه المليئتين بالغبار، و قلبه المشتعل الذي لم يمل البكاء و الرغبة العظيمة في الوصول.
برك مادان على ركبتيه، سجد سجدة طويلة على الأرض حتى ظننا أنه لن يقوَ على النهوض مرة أخرى، ثم بكى بكاء اليتيم، بكاء الذي وجد الماء بصحاري لا هوادة في جفافها، بدأ يرتل بصوته المنفي مقاطع من جوهرة الكمال، ثم تلا صلاة الفاتح، و قبل أن يكملها سقط منكفئاً على صدره ، قدماه ترتجفان و تركلان فراغاً صحراوياً حاراً.. الفراغ اللانهائي، و الذي يعمل بجبروت على التجفيف الجسدي للكائن البشري.

أشحتُ بوجهي بعيداً، أحدق في التضاريس الرملية الشاسعة على تخوم الأرض المقدسة، نهاراً حاراً، هواءً جافاً ينقل الغبار الرملي لأقاصي المدى، طيور بريش ملون خفيف تعبر الفضاء الجوي نحو جهات مختلفة، نباتات يابسة و شجيرات بلون أصفر تصارع الموت في فناء الله الصحرواي الموحش، و على الشرفة السماوية تبرق نجمة وحيدة رغم الغليان الشمسي الضروس في نهار الأبد، تضيء بقوة ثم تختفي.

-لقد ظهرت النجمة المذنبة! .. آخر الإشارات.، أقول في قرارة نفسي!
إنها آخر الإشارات، إشارة الوصول التي قال سيدي التجاني أنها ستبرق في سماء صافية و نهارية عمودياً أعلى الكعبة المشرفة، فهاهي الآن آخر البشارات تنفلت من العدم و تبرق بوضوح، أتذكر اليوم البعيد الذي رأيتُ فيه شيخي التجاني، المرة الأولى التي تجلى لي فيها و أنا أرزح تحت سياط الصرع و الحمى، كان العالم بهياً ، سماء بكامل زينة الشفق، كانت بلادي عروساً بإخضرارها، و طيور نيجيريا الخضراء تقيم قداسها الملكي في خرائط الغسق ، كنتُ أنا جالس بحواف البحر الساكن في نرجسيته الأزلية، أصطاد الأسماك و أغني، أمسك بيد صنارتي و بالأخرى أغازل المياه الصافية بصغار الحجارة و الحصى، رأيتُ على المدى دخان ينبعث من الجهة المقابلة للبحر، غابة كثيفة بأشجار كبيرة و متشابكة تحلق فوقها طيور بأحجام كبيرة، كان أمراً غريباً في البدء، دخان يعلو و طيور تحلق حوله، ثم حصان عظيم الرأس يخرج مسرعاً نحو الماء، تفر الطيور و هي تصدر أصواتاً عالية تشي بالخوف و الفزع، يركض الحصان على الماء دون أن ينزلق أو يخبو، كلما رفع قوائمه من صفحة الماء خرج طائر من المكان وطار، كان الأمر يشبه الهذيان البصري، تركتُ الصنارة تغرق داخل الماء، و عيناي توشكان الفرار، جسدي تحول –من فرط الفزع- إلى كتلة صخرية هائلة مزروعة للأبد بحافة البحر، كلما اقترب نحوي الحصان بدا لي أكثر وضوحاً، ثمة رجل على صهوة الجواد، رأيت قدماه تتأرجحان يمنة و يسرة؛ قدمان شديدتا البياض، تلمسان قطرات الماء المتطايرة ثم تنزلق مرة أخرى للبحر، من فرط بياض قدماه تراءت لي قطرات الماء المنزلقة و كأن مخلوقاً ما..غير مرئي يسكب الحليب عليهما، بلمح بصر طوى الجواد البحر و أدركني مشلولاً بمكاني، هبط الرجل على الماء بقدميه التي خيل لي أنها خلقت من صلصال الحليب، طويلاً و مهيباً، وجهه مغطى بعمامة و جسده ملفوف بعباءة تعبق منها رائحة شديدة النفاذ، جلس على الماء بمحاذاتي، سألني:
هل تعرفني؟
قلتُ : لا.
قال: استفت قلبك!
قلتُ: لا أعلم!
قال لي: أنا أحمد التجاني!
و قبل أن يتبدد ذهولي.. إنتصب واقفاً و مشى على الماء و كأنه يمشي على اليابسة، ثم مسح بيديه المباركتين برأسي ، شعرتُ بأمان لم أشعر بمثله من قبل، حدثني عن أشياء و أشياء لا حد لها، فهمت بعضها و جهلت معظمها ، بصوت عميق و نبوي أخبرني عن الإشارات، وعدني باللقاء في أرض الله الحرام، ثم ذاب كالثلج داخل الماء.
إستفاق مادان من غفوته، بدأ يبكي بصوت مخنوق، إستوى جالساً، ضاماَ قدميه و واضعاً فكه الأسفل براحتي يديه و هو يبكي بحرقة، تقدمتُ نحوه مواسياً: لقد وصلنا يا مادان!
حدق بقوة داخل عيناي، نظرة قوية و مفحمة، دون أن ينطق كلمة واحدة، جسده بدأ يرتجف مرة أخرى، ظننتُ أن ذلك نتيجة الرهق و الإعياء النفسي من المشي على الأقدام لفترة طويلة، لكن مادان نفى إحتمالاتي بعد أن سقط كالمصروع مرة أخرى على الرمل، تبول بغزارة، رائحته شبيهة برائحة عناصر كيميائية عند إحتراقها، كان بولاً كثيفاً بلون أصفر مائل للحمرة ببقع صغيرة بدت لي بقع من دماء متجمدة، أغرق نفسه في السائل الأصفر الغزير و بدأ يهذي كالممسوس:

“يا فنارات البيوت المحترقة
يا مسارب النساء السرية،
يا أغنيات الليل،
يا عتبات البنايات الآيلة للسقوط ، يا مجرات الشهوة الدائمة:
أناديك يا فساتين المنفى الطاعن، يا شفاه البنات، يا زوبعة السرير الخاوي، يا جسدي، يا جسد كاميليا ياس ، يا جنية سقطت من الملكوت الإلهي، يا إبرة المشقة الطويلة، يا قصب الحريق المؤكسد، يا موسم حصاد الحريق ، يا فتور الأعصاب بعد النجاة من الموت،
يا فحم القتل،
يا شياطين الوساوس،
يا عبور الغسق لليل،
يا رائحة استشرت في الكون فانفلق الحجر،
يا رنين الأجراس،
يا لغة الكوابيس،
يا أم الصبيان، ، و يا نبية المزارع الموسمية.
كاميليا ياس:
الحمامة التي أضاءت في الحقول..فاحترقت، المجرة التي راقصتني فاقتلعني الموت بعد صمت المغني، كامليا ياس: التمارين الطويلة لخروج الروح، يا بنت الجبل الطاعن، يا أوكسجين الأقدام الجارية، يا أنسجة الخوف، القلق و المنفى ، الميلاد و الأفول، الوجود و العدم، الذوبان و البعث، الفراديس و المقابر،
يا خرافة المصلين،
يا مقصلة الأحلام العارية،
كاميليا ياس: يا مشنقة الفناء الدموي، أناديك! “.

_______________
مجتزأ من رواية غير منشورة

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.