آخر الأخبار
The news is by your side.

من ذاكرة الإبداع … مقدمة نحن والردى “1”

من ذاكرة الإبداع … مقدمة نحن والردى “1”

إعداد شهاب الدين عبدالرازق

ما كتبه البروف: عبد الله الطيب عن شعر صلاح أحمد ابراهيم رحمهما الله – في العام 2000  كمقدمة لديوان( نحن والردي ) الذي نشر بعد وفاة صلاح احمد .

 بسم الله الرحمن الرحيم

 قرأت في زمان مضى كلمة للأستاذ صلاح أحمد إبراهيم رحمه الله في إحدى المجلات أو في كتيِّب ( لا أذكر على وجه التحديد ) بعنوان “ماتوا سَمْبَـله”. أحسبها كانت مقالة كقصة أو قصة صغيرة كمقالة. وصف فيها جنوبيَّاً (لم يُحدِّد قبيلته ولكن يغلب على الظن أنه من الاستوائية) بيده أداة موسيقية يترنم بها ويغنِّى بين حين وحين: ” ماتوا سمبلة “.

“وسمبلة” هذه تحريف للكلمة الإنجليزية Simple . وكأنَّ الأصل جملة إنجليزية They simply died صاغها الجنوبى المترنم أو توهمها أو سمعها أو صيغت له، أى ذلك كان، ولبست في غنائه وترنمه معنى ” ماتوا هَمَلَهْ ” كما نقول في اللسان العامى أو بلا سبب ولا دافع، وكأنَّ القاتل قتلهم بلا “غبينة”. ماتوا سمبلة كما يموت النمل يقتله الولد الصغير بإصبعه. أو كما يُقْتل الذباب، ماتوا سمبلة.

في المقالة حزن شديد عميق. وفيه دموع كأنها تجرى من موسيقا الجنوبى وترنمه. كأنَّ هذا الجنوبى نفسه يرثي القتلى ” سمبلة ” بلوعةٍ ويعلم أنه هو وقومه ضَيَّعوا حياة هؤلاء القتلى بلا سبب. كانوا يظنونهم صقوراً جارحة فإذا هم ذباب يعصرونه ويهصرونه ويَفْطَس.أثرت في نفسى تلك المقالة. أحسست فيها رقة بالغة.

قرأت لصلاح من شعره من بعد. وأسفت لأنه ترك الوزن الرصين الذى في مدحه لصهره الشفيع أحمد الشيخ رحمه الله.

يا شعب إنْ أبدى الجبانُ خنوعا

لا تيأسنَّ فقد ولدتَّ شفيعا

وقد ذكر في مقدمة هذا الديوان الذى بين يديك أيها القارئ الكريم أنه نظم هذه الأبيات العينية وهو ابن عشرين وهى سن العمر الحلوة كما قال شكسبير ـ Sweet and twenty ـ فلعله أن لو استمر على هذا النسق أن يلحق بطبقة التجانى رحمه الله، لما ههنا من رصانة لفظ وجودة نَغَم. لكن صلاحاً رحمه الله آثر ما سماه المعاصرون ” الشعر الحديث “.

هذا الشعر الحديث أدَّعى اختراعه والسبق إليه جماعة. ادعت نازك الملائكة السبق إليه واختراعه فيمن سبقوا إليه أو اخترعوه. وهذا عجيب لأنها استشهدت بأبيات الناقوس المنسوبة إلى على كرَّمَ الله وجهه:

يا ابن الدنيا مهلاً مهلاً

وهي أبيات عدة. ويكون على هذا سيدنا علىٌّ اخترع وزن التفعيلة لا نازك. والحق أنَّ أنواع الوزن واللا وزن كثيرة وسبق إليها كثيرون منذ نشأ شعر العرب. وممن ينسب إليهم السبق والاختراع، بدر شاكر السيَّاب، والبياتى، ونزار قبانى. والحقيقة أن قبلهم عددا.

ونحن في السودان الأسودِ ألوانَ بَشَرةِ عَرَبِه سبقناهم ـ سبقنا هؤلاء الذين ادعوا السبق أو ادعى لهم. وقد ذكرتُ في بعض ما كتبت أنَّ أبا بكر أحمد موسى، الأستاذ الأديب البارع رحمه الله كان يخترع أوزاناً يحاكى بها أحيانا نغمات الطيور وزقزقات العصافير.

وقد كنت معجباً بأغانى شكسبير وكانت لدينا في كلية غوردون اسطوانات مثل:

It was a lover and his lass

ومثل :

Come away come away death

ومع أنَّ عدداً من خطب مشهورات رواياته كان مقررا علينا وكنا به معجبين، ما كنت ( مع ما كان يقال لنا إنه شعر مرسل) أراه إلا نثرا. وقد وجدت أستاذ الإنجليزية بجامعة الخرطوم من بعد البروفيسور ليفي يرى ذلك أيضاً، ولكن زملاؤه قالوا إنَّه يهودى. ولا أدرى ما صلة هذه العنصرية بالنقد. هذا وكان الشعر الإنجليزى الموزون لا يعجبنى لضعف وزنه. ولفتنى أحد زملائى النجباء إلى جمال قصيدة أو مقطوعة قنطرة وستمنستر لوردزورث التى درَّسها لهم المستر هارت وكان حريصاً على تحبيب طلبته في الشعر الإنجليزى، ولم تعجبنى أول الأمر ولكنى حملت نفسى على الاعجاب بها وبسائر ما تلقيناه من شعر وردزورث.ثم أقبلت على محاولة النظم المرسل والأوزان المختلفة على طريقة شوقي في مسرحياته ثم على أوزان كالمخترعة أو كالحرة. ثم بعد هذه الفتنة الشبابية أعرضت إعراضاً عن التفعيلات السائبة وما بمجراها. وأذكر إذ كتب إلىَّ المرحوم محمد عبد الحى وهو يُعِدُّ رسالة الدكتوراه بجامعات بريطانيا يسأل عن أمر هذه المحاولات ليزعم أنها أسبق من محاولات من ادعوا السبق إلى الشعر الحر من المعاصرين ثمَّ كأنْ قد صَحّ عنده أنه لا فائدة في هذه المغالطات التى لا تخلو من بعض نوع من العصبية، إلا تكن عصبية قبلية فلعلَّها شبيهة بعصبيات أتيام الكرة ونعراتها القومية.

مع تَوَجُّه صلاح رحمه الله نحو الشعر الحر الحديث أبى النغم البارعُ الرصين القديم إلا أن ينبثق من أسطره الجياد. لاسيما نغم بحر الرمل كما في قوله: ـ

يا ذكىَّ العود بالمطرقة الصماء والفأس تشظَّى

وبنيران لها الف لسان تتلظَّى

ضع على ضوئك في الناس اصطبارا ومآثرْ

مثلمّا ضوع في الأهوال صبرا آل ياسرْ

فلئن كنت كما أنت عبِقْ

فاحترقْ

 

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.