آخر الأخبار
The news is by your side.

كرامة سخيفة … بقلم: محمد حسن النحات

كرامة سخيفة … بقلم: محمد حسن النحات

كنت مديراً مرموقاً لجهةٍ عُليا. أموال طائلة، امتيازات سحرية وسرمدية، زوجتان جميلتان، أطفال رائعون، وليال حمراء قليلة لكسر الروتين، كدت أنسى … وضمير تبخَّر رويداً رويداً كبقعة مياه صغيرة سُلطت عليها شمس. كنت مثالياً للحد البعيد حتى بدأت أرى الدماء.

تهشيم العظام، وسحق الأحلام، وسلب الشرف وبيع الأوهام، كل ذلك كان أثراً جانبياً لعملنا، ولم يكن له أدنى صدى. الصمت كان السمة الأبرز للمدينة. لكنني كفرعون موسى استيقظت في يوم بدا عادياً إلا من بقعِ الدم المبعثرة على فراشي، كان طازجاً، ولما فتش اصبعي داخل فتحتَي أنفي ولم يجد دليلاً على رعاف أصابني، تيقنت أنه من زوجتي، وعندما هرعت أثر صرخاتي وأشرت للملاءة، بحلقت فيَّ بوجوم، هل استنتجت الأمر ؟! لم يكن هنالك أية بقعة دم !.

قوم فرعون جميعهم شاهدوا الدم، وانتابتهم الكوابيس بخصوصه، لكنني الوحيد هنا الذي يراه. يبدو أنها لعنة ضالة لم تجد مستقراً لها إلا علي، واستمرت هذه الكرامة السخيفة في تخريب عقلي، دم على زجاج السيارة، في كوب الشاي، على صدر خليلتي المثيرة، على يدي، فوق سطح مكتبي.

صارت يدي رخوة أمام الأعداء، شراستي أثناء التحقيقات أصبحت محض ذكرى، ولما خفت من نظرات زملائي المستاءة من أسلوبي الجديد، جعلْتني أفتعل الصراخ والعصبية، وأضرب بيد فتاة. و وضعت في موقف محرج ذات يوم، وخزتُ بطن أحد المتشدقين بالثقافة وأوهام النضال. كان معلماً محترماً تمت تعريته إلا من لباسٍ داخليٍ قُد عمداً من دُبر.

حقيقة هذا الرجل عصبني فعلا دون تمثيل منِّي. كانت يداه مقيدتين خلف ظهره، وملامح وجهه مسحوقة، لكنه ما فتئ يصرخ متقمِّصاً دور بلال: حرية .. حرية، فوخزتُه على بطنه بعصا فانفجرت دماء مدرارة، فوجدتني كسباكٍ مبتدئ، أركع على صرته، أحاول وقف السيل بيدي، ويبدو أنني كنت تافهاً جداً وقتها، فقد كان الجميع مذهولين من جزعي، حتى المعلم البغيض كان يضحك في استغراب، لم تكن هنالك دماء إلا في رأسي فقط.

خرجت من هذا الموقف بشق الأنفس، واكتفيت بإجازة قصيرة، وعدت دون المرور على الطبيب النفسي الذي نصحني رؤسائي بمراجعته. كنت ما زلت أرى الدم لكنني أخبرتهم أنني بخير، عدت أشرس مما كنت لأثبت لهم تعافيَّ التام، إلا أن الدماء ما برحت تطاردني، وأصابتها على ما يبدو طفرة جينية ما، فأصبحت لا تكتفي فقط بالسيلان أمامي، بل بدأت في كل مكان تكتب لي بخط متعرج لطفل صغير: انتحر …. انتحر.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.