آخر الأخبار
The news is by your side.

قبل يوم من الرحيل

قبل يوم من الرحيل

 بقلم: نصر الدين عبد القادر حسن

كان ينام على الأرض فوق النعال، تاركًا النوم معي. وقبل يوم من الرحيل.. رأيتُ دموعًا في عينيه، وشيبًا على شاربه، ربما كنت أتوهم ذلك، لكنني احتضنته وبكيت، وحين لاح فجر المغادرة، لم أجده، فرفعت يدي إلى السماء، متوسلًا: اللهم إني أستودعك هذا المنزل والكديس.

بعد معركة المدرعات، وخلو المنازل واحدًا تلو آخر من الجيران، كنت أقنع نفسي بأن نبقى، ولن يمسنا سوء، حتى أصبحنا ستة منازل فقط، ثم قررت ثلاث أسر المغادرة في يوم الإثنين، فوجدت جارتي التي قررت البقاء تبكي، فبكيت معها، وفي الصباح كان الحي شبه خاليًا.. فاجتمعنا في منزل حاجة علوية.. ولم يكن ثمة مزاج للشاي أو للطعام.. سوى الدموع التي أصبحت تأتي دونما استئذان… وفجأة قررنا أن نرحل غدًا…

في ذلك اليوم الذي سبق الرحيل.. اتصل عليَّ صديقي وزميلي الصحفي/ عمار حسن، مطمئنا عليّ، لأنه رأى صورة لآلاف النازحين من الشجرة.. أخبرته أنني سأغادر غدًا إن شاء الله.. ولم تكن لدي الطاقة لأخبره أن الصورة التي رآها لا تعبر عن حقيقة الأمر.. فالدموع المحبوسة عند حواف أعين الرجال، والنساء والأطفال، وانكساراتهم، لا تسطيع الصورة، مهما كانت دقة الكاميرا وجودتها أن ترسمها…

غادرنا صباحًا .. عند الخامسة مشيًا على الأقدام.. أطفالٌ، وحوامل وشباب وفتيات يانعات، سبعينيون، وثمانينيون، أصحاب أمراض مزمنة، وأمراض قلب، وجوعى، وعطشى، يجرون حقائبهم وخيباتهم وأحلامهم الميتة، في رحلة – لكثيرين – هي للمجهول… فإذا سألت أحدهم إلى أين؟ يجيبك أنه سيقرر بعد الوصول إلى اللفة.

أحياء مدينة الشجرة جميعها خرجت في ذلك الصباح.. بأعداد أكبر من اليوم الذي سبق.. آلاف في طريق الكلاكلة … غادرنا الذخيرة، وصولًا إلى كبري الدباسين..

الخراب في كل مكانٍ، لكن ثمة منظر أدخل الجميع في حالة انهيار تام… كلب يلحس جمجمة بيضاء بعد أن قضت الكلاب على لحمها… الأرجل مفصولة عن بعضها، مفاصل متناثرة، تبقت فقط يد بكتفها ولحم قليل عليها، والكلب ينهش في اللحم بشراهة.. هذا المشهد لا أستطيع التفصيل فيه أكثر.. فقط كان أولى بمشاهدته دعاة الحرب، علهم يعرفون شيئا عن الأسباب التي جعلت غالبية أهل السودان من أهل القلوب السليمة يرفضون، ويقولون في وجهها: لا للحرب… هذه الحرب بالذات.

شابة ثلاثينية تبكي، وتستنجد بي لأن والدتها سقطت على الأرض، بعد أن وصلت حد التعب من المشي.. أقسى ما في الأمر أنني لا أملك ما يمكن أن أقدمه لها، وأنا محمل بحقائب لنساء أخريات، أثقلت كاهلي، وما أقسى الشعور بالعجز حين لا تستطيع نجدة ملهوف يستغيث بك!

بعد كل عدة خطوات كنتُ أجدُني أبكي، بل إن الناس تراهم عندما يجد أحدهم جاره، أو أحدا يعرفه يحتضنه ويبكي، وليس ثمة بد من تشاركهم البكاء.. ولا أدري ما يبكيني بالضبط أو ما يبكيهم!

هل كنتُ أبكي بسبب أختي نصرة التي علمتُ أنها لم تأكل شيئا طيلة اليوم السابق، لأن رداءة الشبكة حالت دون استطاعتها التواصل معي؟ أم بسبب ذلك الشاب الذي يحمل عدة حقائب على ظهره، ويطلب من الناس أن يمنحوه درداقة يحمل عليها والدته التي عجزت عن المشي؟ أم ابنة الجيران التي باعت بالأمس مأكولات عرسها (الشيلة)، والذي كان مقررا في عيد الأضحى، لكي تسافر هي وأمها وإخوتها؟

ثمة نارٌ تغلي في داخلي.. تذكرت صديقي وشاعري إدريس نور الدين، وهو يقول:

“أيتها النارُ – أختي – اصبري
فكلانا عظيمٌ ومقهور”

فما أقسى قهر الرجال يا صديقي.. إنه الطريق لتحطيم الأرواح.. حين تجد أنك لا تريد شيئًا من الحياة سوى التحرر من وصمة الطين والآدمية.. هو شعوري بالحاجة إلى التحرر من وصمة الطين والآدمية، يا صديقي.

أخف ما لاقيته أن أوقفني إثنان من الدعم السريع حيث تبدأ ارتكازاتهم من بعد كبري الدباسين بقليل، أحدها يحمل سلاحًا، والآخر سوطًا.. فطلب مني أحدهما أن أخرج إثبات هوية، فأعطيته جواز السفر .. ثم طلب مني إخراج ما أملك من مال، ففعلتُ.. فقال لي: أنت شيخ صادق، ثم أدخل المال في جيبه.. وقال “الله يكرمك يا الشيخ أمشي خلاص”.

لم أجادله مثلما فعل كثيرون بأنهم لا يملكون غير ما يملكون، بل شعرتُ بالتخفف من المال.. حتى أن روحي صارت أخف، وكأنها تحلق في فضاءات بعيدة وآفاق غريبة.. ثمة إحساس بأن جيبي كان مثقلًا بالنقود، حيث المال الذي بسببه يموت الناس اليوم. فجأة نسيت ما أقاسيه، ورحت أسرح بخيالي في موضوع الخفة والثقل، في (كائن لا تحتمل خفته).

عبرتُ الارتكازات – بعد ذلك – واحدًا تلو آخر دون أن يوفقني أحد.. بل يقولون لي تفضل، وكأنهم لا يحتملوا الخفة التي صِرتُها .. رغم ثقل الحقائب وبقية الأشياء… أو لأنهم رأوا حاجة سميرة جارتي السبعينية، حيث التقيتها صدفة برفقة زوجة أخيها وهي حبلى في شهرها الثامن..

وصلنا إلى الكلاكلة اللفة عند الحادية عشرة والنصف، حيث مشينا لست ساعات ونصف.. كنا خمس عشرة أسرة تجمعنا الجيرة، استقبلتنا جارتنا فطينة بمنزل زوج أختها.. وكان الطعام جاهزًا لعدد سبعة وخمسين شخصًا.. أهل الكلاكلة وشبابها ينسونك ما أنت فيه.. كل هذا العدد من مكث يومين، ومنهم ثلاثًا، حتى سافروا جميعًا، ثم من بعد ذلك غادرت فطينة محمد سليمان، شقيقة جاري بحي الري بالشجرة أيوب، رفيق المائدة والمطبخ.

إن الحرب لا تختار من نريد له الموت.. لكنها تختار أيضا من نحب.. وقد تختارنا نحن… فالمعارك إن لم تكن لأجل الحياة فهي ضدها… وكما قال تميم:

بعضُ المعاركِ في خُسرانِها شرفٌ
من عاد منتصرًا من مثلِها انهزَما

الآن، وأخيرًا وقد لفظتني الخرطوم، كما قذفت بالملايين إلى حيث ربما يكمن الخير لهم ولها.. وبعد ستة أيامٍ قضيتها في ضيافة أبناء الكلاكلة الأحباء، برفقة صديقي آدم الزاكي، أريد التخفف التخفف من ثقل ذلك كله بالكتابة، حيث أجدني ممتلئًا حد تداخل الأفكار، وتراكم المفردات، عند حافة الآلة الكاتبة، وهو ما قد يكون أمرا مربكًا.. لكنه مريح.

حالة تشرد الصحفيين في هذه البلاد ليس بجديدة، لكنها بلغت ذروتها في هذه الحرب، حيث سقطت أقنعة، وانتهك شرف الصحافة، حتى تلاشت الحدود بينها وبين البوق المنتمي لغير ما جاءت لأجله.

هذه ملامح عامة من معايشة الحرب، ثمة تفاصيل ومواقف كثيرة وأشخاص، ومشاعر وأفكار تنتظر الكتابة والحديث عنها إذا أمد الله في العمر.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.