آخر الأخبار
The news is by your side.

قبقب: لغتنا الجميلة … بقلم: عبد الله علي إبراهيم

قبقب: لغتنا الجميلة … بقلم: عبد الله علي إبراهيم

(قضيت يوم عيلاد ميلادي أمس استمع إلى “صه يا كنار” في تسجيلاتها المختلفة. وشدو الكابلي وأبو عركي بها بالذات. فجاءا بمقطع منها عن “أخلاق الكواكب” لا أمل سماعه. وحين بلغت منها “وكوكب يعصي الصباح بضوئه المتمرد” قلت، في وقفة عند هذا المنعطف من الشيخوخة، اللهم أرزقنا مثل هذا الضوء المتمرد وثبتنا عنده ما عشنا. وساقني هذا السهد اللغوي إلى تذكر كلمة لي قديمة عنه)

لا أعرف كُتاباً ما كارهين للغتهم التي بها يكتبون مثل بعض كتاب اليسار الجزافي وغير الجزافي عندنا. وتستغرب لذلك لأمرين: فحتى من يكتبون باللغة الإنجليزية من الأفارقة مثلاً يحسنونها ويبالغون في تجويدها لتطويعها ليكتبوا ما عرف بكتابات رد الصاع. فهم يوظفونها مجودةً لكتابة رأيهم في الغرب الذي فرض عليهم هذه اللغة وأهان لسان قومهم. والأمر الثاني أن العربية الحديثة في السودان صناعة يسارية حداثية في غالبها. أحسب فقط شعراء السودان وقصاصيه وصحفيه وخطباءه وكاتبي مناشيره وستقف على عظم الدور اليساري في تشكيل اللغة الأدبية السودانية. فكيف يكره المرء صنع يديه الماهرتين؟

الله يلعن الإنقاذ في كل كتاب. فقد سدت الأفق على هذا اليسار وقد “هَرم” واستبدل المخاطرة للوطن المتآخي الرحيم بجلد الذات حتى الثمالة في دلالات استنفذها مقال أخير غاية في الرشد على الأسافير بقلم مبارك مجذوب الشريف. فتحول هؤلاء المحسنون للغة العربية إلى “نبيشتها” كلما ارتجلت الإنقاذ عروبتها. فكان تعريب التعليم الجامعي مثلاً سوقاً نافقاً للسخرية من العربية والترويع ببدائيتها في حقول معارف العلوم والطب.

وهي اللغة ذات السهم التأسيسي التاريخي المعروف في البابين معاً. بل بدأ تعليم هاتين المادتين في القرن التاسع عشر في الجامعات العربية الباكرة بالعربية حتى جاء الاستعمار وقرر بارتجال معروف عنه أن يتحول بهما إلى اللغة الإنجليزية. وكل هذا في كتاب الأمير مصطفى الشهابي ، المصطلحات العلمية في اللغة العربية (في القديم والحديث)، القاهرة: معهد الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية، 1955. وقلت بهذا مرة نقلاً عن الشهابي في معرض صلاحية العربية لتعليم العلوم في ندوة بمركز الخاتم عدلان “المعزول” فاهتاج القوم اليساري و”قلبوا الترابيز” ومرقني كرعيني.

لا أعرف كيف يكتب كاتب بلغة يكن لها احتقاراً مرموقاً لأنها عاجزة شمطاء؟ كيف يشق مجاهلها ومجازها وروحها فيأتي بما لم تستطعه الأوائل وقد قرر سلفاً أنها لغة أحالها العصر للاستيداع؟ كيف يبلغ الكاتب الأمانة التي في ذمته بلغة بلا مُروج، ولا صوت، ولا صدى؟. وأحكي لكم عن تجربة في محبة هذا الكاتب للغة العربية وقعت له منذ أسبوع.

أسعدني تنبيه صديقي عبد الله الفكي البشير إلى توفيقي في اختيار كلمة “قبققبة” لوصف هجمة معارضي الإنقاذ الرسميين منذ أيام على “منشقيّ” المؤتمر الوطني من أهل السابقة في الحركة الإسلامية. فقد أمسكوا برقابهم زاعقين: “قولو التوبة يا حبوبة” من فعائلكم في الإنقاذ فتتطهروا قبل أن نقبل بكم في صفوفنا الغراء. وكأن صفوفهم هي بالتحديد التي تطلع إليها منشقو الحركة الإسلامية؟

بعيداً عن هذا كله استملحت أن أحرر الكلمة واتحرى دلالاتها في المعاجم العربية. وهي كلها في الإنترنت تتداعى بنقرة “ماوس” أي فأرة الحاسوب. فوجدت أن “القبقب” في المعجم هي “البطن” لأنها مجتمع الطعام. وربما بدا لك الآن أيها القاريء نسب الكلمة في لغتنا. فقبقب عندنا هي أن تجمع في يديك لياقة هدوم الواحد عند الرقبة غضباً وتعدمو النفس.

فالجمع على صعيد واحد هو المشترك بين البطن، التي تجمع الطعام، وبين قبضة الرجل على هدوم خصمه عند العنق. قال المعجم إن أصل الكلمة الصحيح هو “قب” التي تدل على “جمع” و”تجمع”. وتكرار “قب” في “قبقب” مبالغة في الجمع. وقال إن من ذلك “القُبة” سميت لتجمعها. ولم استغرب أن تكون “القِبقب” هي اسم لصدف بحري. فتجد في الصدف ، متى نظرت إلى جوفه، تجمعاً من نوع ما.

ولم تقف عجايب نطاقات كلمة “قبقب” عند ذلك. فوجدت أنها أصل في حساب المقبل من أعوام الناس. فنستطيع في العربية أن نسمى السنوات من عامنا هذا إلى خمس سنوات قادمة. وأسماء مقبل السنوات هذه وردت في عبارة قالها عربي لابنه. قال له إنه لن يفلح “العام، ولا قابل، ولا قَاب، ولا قباقِب، ولا مُقَبقَب” أي أنه لن يفلح في عامنا هذا، ولا العام القادم، ولا العالم الثالث من هنا، ولا الرابع، ولا الخامس. فأنظر هذه السعة!

ووردت القبقب في حديث النبي الكريم. فقال أفضل من قال: “مَن وُقي شر لَقلَقه، وقبقَبه، ودَبذَبه فقد وقِي”. واللقلق هو اللسان. نقول مثلاً “دا بيلقلق ساكت”. والقبقب هو البطن، والدبذب هو الفرج. ووقاك الله ووقانا من شرورها التي “تقبقبنا” في سنواتنا هذه.

وبينما كنت أقلب معاني “قبقب” هذه كنت أقرأ النسخة الإنجليزية من كتاب منصور خالد “السودان والنفق المظلم”. ووجدته جاء ب “

“took by the scruff of the neck”

وهي “قبقب” بذاتها وصفاتها وقد “فكاها”الإنجليز في ست كلمات وحروف.

يا أم اللغات!

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.